ثالثا :
حكم الرقية .
الرقية سنة نبوية ثابتة بقوله وبفعله وبإقراره عليه الصلاة والسلام وهي عبادة لأنها من جنس الدعاء ولكنها من نوع الدعاء المقيد .
فكما أن هناك أدعية مقيدة بوقت أو مكان ونحوه . فإن هناك أدعية مقيدة بعلة معينة .
فكلما وجدت العلة استحب الدعاء .
كالدعاء عند اشتداد الريح أو سماع نباح الكلب أو صياح الديكة أو الخوف من عدو أو الفزع من النوم ونحو ذلك كثير.
فالرقية هي دعاء بهيئة خاصة ومقيد بوجود علة المرض .
فكلما وجدت العلة ( المرض ) استحب الدعاء المقيد بها ألا وهو الرقية .
قال النووي رحمه الله تعالى :
" وأما الرقى بآيات القرآن و بالأذكار المعروفة فلا نهى فيها بل هو سنة "
[شرح النووي على صحيح مسلم ج14/ص168]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
" الرقى بمعنى التعويذ و الاسترقاء لطلب الرقية هو من أنواع الدعاء "
[ مجموع الفتاوي (1/182/183 )-]
قال أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي الشهير بابن الحاج رحمه الله تعالى :
" ولو شاء ربك لخلق الشفاء بدون سبب ولكن لما كانت الدنيا دار أسباب جرت السنة فيها بمقتضى الحكمة على تعلق الأحكام بالأسباب وإلى هذا المعنى أشار جبريل صلى الله عليه وسلم وأوضحه بقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم " بسم الله أرقيك والله يشفيك " فبين أن الرقية منه وهي سبب لفعل الله وهو الشفاء وهذه هي الحالة الرابعة أعني الرقى بكتاب الله وبالأذكار الواردة وذلك سنة "
[ المدخل ج4/ص121]
وقال العلامة حافظ الحكمي رحمه الله تعالى :
" ( فإن تكن ) أي الرقي من خالص الوحيين ( الكتاب والسنة ) والمعنى من الوحي الخالص بأن لا يدخل فيه غيره من شعوذة المشعبذين.
ولا يكون بغير اللغة العربية بل يتلو الآيات على وجهها والأحاديث كما رويت وعلى ما تلقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا همز ولا رمز .
( فذلك ) أي الرقي من الكتاب والسنة هو من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان عليه هو وأصحابه والتابعون بإحسان و من
شرعته التي جاء بها مؤديا عن الله عز وجل
لا اختلاف في سنيته بين أهل العلم إذ قد ثبت ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وتقريره فرقاه جبريل عليه السلام ورقى هو صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمر بها وأقر عليها "
[ معارج القبول ج2/ص503 ]
فالرقية تشمل ثلاثة أمور :
هي وجود أسرار يعلمها الله في بعض الكلام فيتخذ هذا الكلام وسيلة وعوذة يستعاذ بها ويكون سببا يلتجأ إليه في حصول الشفاء من الأمراض بأنواعها بإذن الله تعالى المسبب لهذه العوذة وللأمراض وللشفاء .
وهي في نفس الوقت عبادة وسنة نبوية لأنها من جنس الدعاء المقيد .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" قوله كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات دلالته على المعطوف في الترجمة ظاهرة وفي دلالته على المعطوف عليه نظر لأنه لا يلزم من مشروعية الرقي بالمعوذات أن يشرع بغيرها من القرآن لاحتمال أن يكون في المعوذات سر ليس في غيرها "
ثم قال
" وقال ابن بطال في المعوذات سرٌ ليس في غيرها من القرآن لما اشتملت عليه من جوامع الدعاء التي تعم أكثر المكروهات من السحر والحسد وشر الشيطان ووسوسته وغير ذلك فلهذا كان صلى الله عليه وسلم يكتفي بها " .
[فتح الباري ج10/ص197]
وهنا يُطرح سؤال لابد منه هو كيف نعرف أن هذا الكلام ذو الألفاظ المعينة فيه أسرار تؤثر في بدن الإنسان تأثيرا يؤدي إلى شفائه من الأمراض بأنواعها .
الجواب على هذا السؤال هو الذي يؤدي بنا إلى القول بإمكانية أن تكون الرقى اجتهادية وأن لكل إنسان الحق في ترتيب كلمات تخلو من الشرك ويجعلها رقية ويقول عنها أنها تؤثر في الأمراض فيحصل بها الشفاء .
هذا من جهة .
ومن جهة أخرى فإن الرقية بمعنى العوذة والعوذة من الاستعاذة وهي اللجوء إلى سبب ما لدفع الشر .
قال الحافظ ابن كثير :
" الاستعاذة هي الالتجاء إلى الله تعالى والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر."
[تفسير ابن كثير1/20]
وقال القرطبي في تفسيره :
" معنى الاستعاذة في كلام العرب الاستجارة والتحيز إلى الشيء على معنى الامتناع به من المكروه يقال عذت بفلان واستعذت به أي لجأت إليه وهو عياذي أي ملجئي "
[ج1/ص89 ]
فالرقية إذن هي اللجوء إلى كلام معين فيه أسرار تجعله سببا في شفاء الأبدان من مختلف الأدواء و الاستعاذة به من أجل الشفاء من تلك الأدواء .
فالكلام هو السبب الذي يلتجأ إليه ويستشفى به .
ولا شك ولا ريب أن اللجوء إلى سبب ما لتحصيل مصلحة أو لدفع مضرة لابد أن يكون هذا السبب سببا شرعيا أو حسيا حقيقيا وليس وهما .
وبما أن الكلام ليس سببا حسيا كالأدوية الحسية التي تخالط الأبدان وتصل إلى مكان المرض فتحدث تغييرات تؤدي للشفاء لأسباب يعلمها الأطباء المختصون من خلال التجارب والمعلومات الحسية توفرت في الدواء الحسي وثبت ولو بالظن الراجح تأثيرها ونفعها لعلاج مرض عضوي بدني ما .
وأما الكلام فلا يمكن بطريقة ما غير الوحي أن نعلم عن وجود أسرار فيه وهذه الأسرار تكون سببا في مقاومة الأمراض الحسية أو الروحية المعنوية .
إلا كما يزعم البعض أن تكون عن طريق التجربة .
ولكن مجال استعمال التجربة هو في الأمور الحسية وليس في الأمور الغيبية أو الخفية الأسباب .
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى :
" لما جاء القرآن العظيم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله كان جميع الطرق التي يراد بها التوصل إلى شيء من علم الغيب غير الوحي من الضلال المبين وبعض منها يكون كفرا."
[أضواء البيان ج1/ص481 ]
وقال الألباني رحمه الله تعالى :
"وأن كل ما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما له صلة بالدين والأمور الغيبية التي لا تعرف بالعقل ولا بالتجربة فهو وحي من الله إليه. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ".
[الحديث حجة بنفسه ص33 ]
" السؤال: هل التجربة لها مجال في الرقية ؟
فقال الشيخ :
" التجربة في الطب وليس في الرقية، الطب قائم على التجارب. وفي الرقية: الأحسن أن يقتصر المسلم على الرقية الشرعية، أما التجارب؛ ما الذي يدريك -أولا-، ومِن أين جاءتك الفكرة هذه ؟! "
[ فتوى رقم 162 من موقع الشيخ الرسمي على الشبكة ]
فاستعمال التجربة في هكذا أمور هو من باب التخرص المذموم .
ومعلوم أن اتباع الظن من دون الاستناد إلى الأسباب الشرعية أو الحسية الحقيقية حرام ومذموم ومن أفعال أهل الضلال .
قال تعالى { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ }الأنعام148
قال المناوي رحمه الله تعالى :
" وحقيقة الخرص أن كل قول عن ظن وتخمين يسمى خرصا هبه طابق أو خالف من حيث أن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ."
[ التعاريف ج1/ص311 ]
فالإسلام دين علم لا دين ظنون وأوهام وتعلق بأسباب لم يأذن بها الله سبحانه في كتابه أو سنة نبيه عليه الصلاة والسلام .
ولآن فتح هذا الباب وهو التجربة لإثبات وجود أسرار في كلام ما يؤدي بنا إلى شرور لا حصر لها .
فماذا نقول لأحدهم إن قال لنا : أني جربت الكلام الفلاني فنفع في الحفظ من العدو , فاستعملوه .
والكلام الفلاني في تحصيل الذرية , فاستعملوه .
والكلام الفلاني لجلب الرزق والكلام كذا لإنزال المطر والآخر لإيقافه والآخر لحفظ البيت من الشياطين ووو .
فبقي أن يكون الكلام سببا شرعيا وفي هذه الحالة فإنه لا بد أن يكون قد عرفنا من طريق الشرع أنه سبب شرعي لا من طريق العقل والتجارب .
قال الإمام الألباني في التوسل وأنواعه:
" والطريق الصحيح لمعرفة مشروعية الوسائل الكونية والشرعية هو الرجوع إلى الكتاب والسنة، والتثبت مما ورد فيهما عنها، والنظر في دلالات نصوصهما، وليس هناك طريق آخر لذلك البتة.
فهناك شرطان لجواز استعمال سبب كوني ما، الأول أن يكون مباحاً في الشرع، والثاني أن يكون قد ثبت تحقيقه للمطلوب، أو غلب ذلك على الظن.
وأما الوسيلة الشرعية فلا يشترط فيها إلا ثبوتها في الشرع ليس غير."
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
" وكل إنسان يجعل من الأمور سببا لأمر آخر بغير إذن من الشرع فإن عمله هذا يعد نوعا من الشرك لأنه إثبات سبب لم يجعله الله سببا"
[ فتاوي 1139 ج1/ص111/ ص113 ]
فالرقية بالقرآن قد علِمْنا عن طريق الشارع أنها سبب شرعي للشفاء .
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين َ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً }الإسراء82
وكذلك الرقى النبوية المأثورة التي وصلتنا بطريق صحيح هي أسباب شرعية للشفاء من الأمراض .
وذلك بنص قوله وفعله وتقريره عليه الصلاة والسلام
أما ما عدا هذين السببين فليس عندنا ما يجعلنا نجزم أو نظن ظنا راجحا بأن في الكلام المعين الخالي من الشرك سر ليس في غيره لنجعله سببا خاصا في الشفاء .
ولا يجوز لمسلم أن يتخذ سببا وهميا للعلاج .
لأن هذا من وسائل الشرك بالله تعالى .