مقال ( بيني وبين صديقي الشاعر صهيب يوسف)

أهدي هذا المقال إلى الأديب الكبير والشاعر المبدع شقيق الروح .....
أخي : صهيب محمد خير رمضان يوسف

وهذا المقال موجود في كتابي (دراسات ومقالات...إسلامي أدبية فكرية ) والكتاب حوالي 500 صفحة وهو الآن تحت الطبع ...
فأترككم أحبتنا مع المقال , وما فيه من رسائل أدبية وأشعار في الصداقة والإخاء...

بيني وبين صديقي الشاعر صهيب يوسف

التقيتُ به للمرة الأولى في دمشق , فانسابت روحي في روحه , ودخل شَغاف القلب من غير استئذان , وبسرعة النار في الهشيم , نما الحب في الله بيننا وترعرع , وأينع بستانُ المحبة أشجاراً باسقةً تطاول سماء الإخلاص , وضاربةً جذورُها في أعماق الوفاء ......
وتمر الأيام سريعةً , ونتخرج من الجامعة , وتفترق أجسادنا تاركةً وراءها لوعةَ الاشتياق , ودموعَ الفراق , ومرارة الهجر والبعاد , واتصالَ الأرواح في عالم الإخوة في الله ......
وكلما تذكرتُ تلك الأيامَ , وتلك السنواتِ أُكرِّر مع الشاعر :
ثم انقضت تلك السنونَ وأهلُها
فكــأنهـا وكـأنـهم أحـــــلامُ
وكلما ذهبت من حماةَ إلى دمشقَ , يتسارع إلى مخيلتي هذان البيتانِ :
ولقد مررتُ على المنازل بعدَهم .
.. أبكي وأسأل عنهمُ وأنوحُ
وأقول إن سألوا بحالي في النَّوى: ..
. ما حالُ جسم فارقتْه الروح
...... ثم سافر إلى السعودية للعمل هناك , وحيثُ مسكنُ أهله .....وبقيتُ هنا , وظلت الرسائلُ بيني وبينه , بمناسبات وبلا مناسبات ......
طبعاً تريدون أن تعرفوا من هو؟ وما اسمهُ ؟؟
إنه الشاعرُ الأديب الأريب صهيبُ محمد خير رمضان يوسفُ , الذي جمع إلى مجده وبلاغته مجدَ أبيه وسؤدَدَه, فأبوه هو العلامة المشهور صاحبُ المصنفات والمؤلفات والتحقيقات : محمدُ خير رمضان يوسف حفظه الله ..........
........ ومن محاسن الجوال والإنترنت أنهما سهّلا الاتصال , رغم المسافات الشاسعة , فكتبتُ له وكتب لي الكثيرَ من الرسائل , وبما أنه شاعر, فقد كانت معظمُ الرسائل بيننا شعراً منبعُه صميمُ الروح , وبحرُه الحب في الله .......
......وهاهو شهر رمضان يلوِّح بالرحيل , فتأتيني منه هذه الأبياتُ الرائعة :

أرى الأيام تسرع بارتحالِ
وبدرَ الشهر صار إلى هلال
فبادر باغتنام الأجر فيما
بقي من هذه العشر الفِضال
ولا تترك محبَّك من دعاءٍ
فإن ذنــوبَه مثلُ الجبال
لعل ملائكَ الرحمن تُثني
عليك بمثله من ذي الجلال
ثم يأتي عيدُ الفطر فإذا به يقول لي :
أدام الله لكم الأعيادَ دهورا وألبسكم من التقوى نورا
وتمر الأيام مسرعة سكرى , ويحل علينا عيدُ الأضحى المباركُ , ومع إشراق صباحه , أرى على جوالي :
صباحُ الخير والأضحى مبارَكْ
وعَمَّـر ربُّنا بالحب دارَكْ
عزيـزي ..إن تفرقنا الليالي
فإنَّ القلبَ لم يتركْ مزارَكْ
إنه سباقٌ إلى الخير , فغالباً ما يكون صاحبَ المبادرة في الإرسال, شعرًا مُدَبَّجاً في غاية الروعة , أما رسائلي له فقد تكون نثرًا , وقد تكون شعراً لا يرتقي إلى مستوى شعره وبيانه .......
ولا أدري لماذا أحبني هذا الحبَّ ـ على الرغم من كل عيوبي ومساوئي ـ ؟؟ على كلٍّ فهو أحدُ أمرين , إما أنه يحسن ظنَّه فِيَّ , ـ وطبعا الإنسانُ لا يُحسن ظنه بالآخرين إلا إذا كانت أفعالُه حسنةً ـ أو لأنّ روحي وروحَه التقتا في عالم الأرواح , فحصل التآلفُ لأن الأرواحَ جنودٌ مجندة , فما تعارف منها ائتلف , وما تناكر منها اختلف , وكثيراً ما كان يسميني شيخه في شعره , _ وهذا طبعاً من باب المداعبات الشعرية ـ ويثني عليَّ بعبارات لستُ أهلاً لها , وقد كنت لا أريد ذكرَ هذه الأبيات , إلا أنَّ بلاغتها وروعتها أبت إلا أن تظهرها للجميع .
فها هو يقول:
لشيخيَ في قلبي (أمورٌ كثيـرة!!)
فأولها شـــوقي إلى وجهه الدّرِّي
وآخــرُها أنـي أراه كـأنني
ظلامٌ وشيخي الفجر, بل غرةُ الفجر
وبينهما لا تسأل القلبَ عن أسى
يعاودني دومــاً إذا غرد القمري
وهاهي تقارير الهوى والحب , تنقل له من مصدرها الثقةِ أنه يحبني , وقد أتى بهذه الأبيات الجميلة عندما قال :
أُنبئت أن تقـارير الهوى كتبت
ـ عن مصدر ثقـةٍ ـ أني مريدُكُمُ
وليس في ذاك شكٌ ..غير أنهمو
نسوا بأن يكتبــوا ؟أني أحبكم !
من مـخبـرٌ لبني عباسِ أن فتىً
من الأعاجم مـطلــوبٌ لأمنهِمُ

وكان يأتي أحيانا بمحسنات بديعية , غيرِ متكلفة تأتي على سجيتها مثل قوله :
أشتاقكم يا أهل ودي وبيننا فراسخ
أما حبُّكم فـي فــؤادي فراسخ
فأجبته محاولا تقليده في شيءٍ ما :
شيخي :
قرأت شعرك فهمـتُ عندما فهمتُ
وأحيــاني فغــابت فيه أحياني
وصرت أبثُّ أشجاني
شقيقَ الروح : سامـحني إذا أضناك هذياني
وشعري صار سخريةً فصاح الويلَ شيطاني
إلا أنه أجاب على الفور :
على ثغـــرٍ أراك تـردُّ عنّا كل شيطاني
تُقَضِّي العيش في كــدٍّ وإخـلاص وإيمان
فمن أُهدي إذا لم أهدكم شعـري وألحاني ؟!
......وقد رأيت في الرؤيا , أنه في سوريا وأني أعانقه عناقاً حاراً , فأرسلت له أخبره بهذه الرؤيا , وأنها أضغاث أحلامٍ , لأنه لم يكن قد قرر أن يأتي إلى سوريا .. وسبحان الله !! !!كان جوابه كالتالي : ( ما هي بأضغاث أحلام!! وأفتيك باني سأكون في سوريا بعد شهرٍ وأسبوع ـ بمشيئته ـ.. قررت ذلك البارحة فما أسفر الصبحُ إلا وقد (كُشفت ) لكم الحجبُ !!)
فسررت بهذا الخبر , وأصبحت كل يوم أتشوَّق إلى اليوم الذي يليه ......(1)
حتى جاء اليوم الموعودُ ................والتقين ا عندي في مدينة حماة في حي كازو وهو الحي الذي أعيش فيه , فيا لحرارةِ اللقاء!! وعناقِ المحبة والإخاء !! وقضينا يومين من أجمل أيام العمر ثم ودعني إلى محافظة القامشلي في سوريا , وعندما وصلها , أرسل لي يقول :
هاكَ أشواقَ الـوفا يا سيدي
ودعــاءً مـن مـريد كمِدِ
غاب عنكم ساعة فاشتاقكم
يا ترى ..كيف بـه يـوم غد ؟!
ليت أشياخي بقامشلي رأوا
ما رأت عينـايَ بالأمس الندي
لن تراهم غيرَ أفواج مضت
نحو كازو بخـطاكــم تقتدي !
وبقي عدة أيام في صيف عام 2008م في سوريا ثم قرر أن يعودَ إلى السعودية , وفي طريق عودته وعند الحدود , أرسلتُ له :
رحلتم وقلبي في شغاف قلوبكم
فردُّوا أحيباب الهوى لحظة قلبي
فأكمل ببيتٍ صادق ٍكدمع الدرب الذي ذكره وقال :
فأواهُ .. ما أقسى الرحيلَ أحبتي
وأصدقُ دمع العين ما سال في الدرب
ثم شاءت لي الأقدارُ , وأذن العزيز الغفار, في أن أحجَّ البيت الحرامَ , في نفس العام , فأخبرته وقرر أن يذهب للحج حتى نلتقيَ , و لكن القدرَ ما سمح له بذلك فقال لي :
تخلفنا عن البلــد الحـرام
وما فيـه مـن النعم الجِسام
وفاز بفضله إخـوانُ صدقٍ
لنا نهضوا مـع الوفد الكرام
وعندما كنت على أطلال مكةَ , والدموع تغمرني , وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم تمرُّ في خاطري , جاءني منه ما يلي :
إيهِ يا مكةُ .. ها شيخـي أطـل
فاحضنيه بعــيون ومقلْ
قــربي الـركن اليمــانيَّ له

فشفاءُ الروح في تلك القبلْ
قدمــي من زمــزمٍ وِرْداً له
واتركيه حين يسعى في عجل
.. كم تمـنى أن يراها في الكرى
ولها صاغ دموعــاً وجملْ
وهـــو الآن لـديها خاشعٌ
دامع العينين شكـراً للأجل
وبعد وصولي إلى مكة بيوم أرسل لي :
بين الحــطيم وزمزمْ
هــام الفـؤادُ المتيمْ
حــار المـحبُّ ولما
أراد يقــدمُ أحـجم
فعقـلـه مـدنـيٌّ
والقلــب لبَّى وأحرم !
يمضي إلى الفجر شـيخي
مُظللا بالمــلائـكْ
خـلف الـمقـام يصلي
على هـدى أنبيـائكْ
يا رب: فاقبـل دعاهُ
فقد أتـى لـدعـائكْ
فحاولتُ أن أرد له على الوزن نفسه فقلت :
آهٍ متى القلبُ يسلمْ
ونــارُه تتـضرم
بيانُ وجـديَ أبكمْ
وأدمعــي تتـكلم
على الحبيب المعظمْ
صلـى الإلـه وسلم
وبقيت أكثر من شهر في مكة والمدينة , مرت كأنها سحابةُ صيف , وكانت أجملَ أيام عمري على الإطلاق ....... ثم غادرت المدينة مودَّعا لها , ومتذكراً قول الشاعر :
قالت ومدت يداً نحوي تودعني
ولوعةُ البـين تأبى أن تمد يدا
أميِّت أنت أم حيٌّ؟ فقلت لها :
من لم يمت يوم بين لم يمت أبدا
وعندما وصلت على الحدود السعودية الأردنية جاءتني منه أبياتٌ في غاية الروعة و وجمال التصوير , ورصانة التعبير والتحبير :
عدتَ والقلبُ حامــلٌ ألـفَ ذكرى
واللآلـي مـن المـدامع تترى
كعبــةٌ , زمـزم , مقــامٌ , حطيم
والصفا , والأذانُ يصدح فجرا
دعــواتٌ علـى حمـى عــرفاتٍ
والْمُنى فـي مِـنى تحـققن طرا
روضـة , قبــةٌ علـى حجــرات
بينها أبصـرت عيونُك بـدرا
قال شعري ـ ومقلةُ العين سهرى ـ :
شيخَنا يا سـواد عينيَ ..عـذرا
وهكذا رأينا كيف أبدعت المحبة الصادقة في الله , من هذا الشاعر الأديب , أروع ما كتب البيان , وفاض به الجنان ....... وما هذا الذي ذكرته إلا غيض من فيض , وهو ما يسمح به المقام .
ولا تزال محبته عالقة في قلبي , ما سجى ليل , وأعقبه فجر, حتى نكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله , وسيبقى توأم الروح , وشقيق الفؤاد , ومؤنس قلبي المضنى , فمن خلاله عرفت معنى كلمة المحبة في الله ....
ـــــــــــــــ ـــــــــــ
(1) ـ كان ذلك بتاريخ : 7|6|2008م


بقلم : مصطفى قاسم عباس