هذا مقال نشرته جريدة "السعادة" المغربية، العدد 3479، بتوقيع محمد ابن الشيخ، واصفا درسا من دروس الشيخ الحافظ شيخ الإسلام أبي شعيب بن عبد الرحمن الدكالي المتوفى عام 1354، في جامع القرويين بفاس، وهو يصور المكانة العلمية لصاحبه، ومدى اعتناء المغاربة وقته بالعلم والعلماء:
أرسل هذا العنوان طوع عنان اليراع، ولا أترقب حالة قاريء مستطلع معتاد، لأن كل مغربي يعرف معنى (القرويين) ومقام المحدث الكبير والشيخ الشهير أبي شعيب الدكالي...
بالأسبوع المنصرم هاجت المدينة وماجت بترديد كلمة المقبلين والمدبرين.."زار مدينتنا، عاد إلينا حافظ حجة رسول رب العالمين"، وصار الناس يهرعون إلى مسجد القرويين حيث تفضل الشيخ بتدريس كتاب فيلسوف الإسلام العظيم سيدي البخاري رحمه الله، فكنت أنا من جملة السامعين الذين دفع بهم الشوق العظيم إلى حضور ذلك الدرس الحافل.
دخلت بالمساء ذلك المسجد العظيم تحت فجر أنوار المصابيح العديدة المتلألئة، واختلاف نغمات أصوات القارئين كتاب الله العظيم وحركات الراكعين والساجدين من المصلين بحالة الهدوء والسكينة والخشوع، فالتفتُّ يمينا وشمالا وإذا بي أخال المسجد ليس بالبقعة التي كنت أعهدها، والوجوه ليست بالتي كنت أعرفها: فرح وسرور وابتهاج وكمًّا كان ملء ذلك المسجد الرحب.
فتقدمت نحو جماعة المنصتين الجالسين حول المنبر المصوب بصدر المسجد، حاولت أن أخترق الصفوف وأقاربه فما استطعت له سبيلا. ورمت الجلوس وسط الجماعة فما وجدت مكانا، طلبت فما وجدت، فارتضيت الجلوس أخريات الصفوف العدة مقابلة المنبر، وكنت أقدر ما بيني وبينه سبعين مترا...
وما هي إلا قلائل حتى سمعت لفظة: "السلام عليكم" بلهجة حادة، فالتفت جانب الصوت، وإذا بالشيخ يخترق الصفوف وهي تنشق أمامه شقا بينا، والشفاه تقبل أطراف ردائه وتنوب عنها الأكف كلما عسر ذلك، ولما كان بالمنبر شرع سارده الفقيه العلامة سيدي محمد بن هاشم ابن سودة يتلو أحاديث باب المظالم بأسانيدها المسلسلة بصوت عذب مرخم، يستوقف الطيور على أغصانها سماعا له.
وبعد ذلك تناول الشيخ الكلام وقد علاه البها، وتلألأت أسرة وجهه نورا، وبعد حمد الله والثناء عليه؛ استرسل في تفسير كل حديث بأوجهه العدة، فكان يوقع على نياط القلوب بكلام سهل المتناول، وعبارة محكمة المعنى، مرصفة المبنى، فيُسمع لها أنين وزفير، ولئن كان العجب قد أخذ بقلوب الحاضرين فليس لهم من ذنب، لأن كل ما كان يبديه الشيخ بتلاوة درسه خليق بكل إعجاب وإكبار...
-يتبع-