الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد ..
فقد قرأت تغريدة لفضيلة الشيخ حاتم العوني حفظه الله وهو من أهل العلم والفضل ،أحبه وأقدره وأستفيد منه وأتابعه ،ولقد كتب حفظه الله تغريدة مفادها أننا ما ينبغي أن نعمم القول بتبديع الأشاعرة لان فيهم قامات لا يطالها هذا الوصف كالحافظ ابن عساكر والبيهقي وابن حجر والنووي وغييرهم ، وأننا إذا أخرجنا هؤلاء من الوصف بالبدعة يلزمنا أن نخرج الجميع فلا ننسب الأشاعرة جميعاً للبدعة وإلا كنا متناقضين !!!
وسأل عن الضابط الذي يخرج هؤلاء من وصف الابتداع ويبقي الأخرين في قفص الاتهام ،مع انتساب الجميع للأشعرية ؟!
ولقد تعجبت لما ذكره الشيخ حفظه الله ، وحِرت في فهم مقصده !
فهل يلزمنا الشيخ أن نسوي بين كل المنتسبين إلى الأشعرية، إما في البدعة وإما في السنة ، فنحكم على الجميع بالبدعة أو نحكم عليهم بالسنة لاستوائهم في الوصف بالأشعرية ؟
هل هذا هذا ما قصده الشيخ ؟
أم هل يريد أن يرفع عن الأشاعرة وصف الابتداع ويجعلهم من أهل السنة لوجود هؤلاء الأئمة فيهم ؟!
- إن كان هذا هو قصد الشيخ فهذا التوجه فيه نظر !!!
فإن أعظم مسمى جمع المسلمين وهو الإسلام لم يمنع المنتسبين إليه أن يكونوا مراتب ودرجات ، فقد قسّمهم سبحانه في كتابه فجعل منهم الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات ، مع انتسابهم جميعاً للإسلام ، بل أعظم من ذلك وهو انتساب جميع فرق أهل السنة والمبتدعة من خوارج ومرجئة وشيعة وقدرية ومعتزلة ..إلخ إلى الإسلام ، فما الذي يمنع الوصف بالأشعرية أن يتفاوت المنتسبون إليه في المراتب بحسب قربهم وبعدهم من السنة وأهلها ؟ لا سيما وهؤلاء الحفاظ الأئمة الذين ذكرهم الشيخ لم يكتسبوا هذه الأوصاف من أشعريتهم أو تمسكهم بما كان عليه الأشعري من الكلام ،بل اكتسبوها بما نُسبوا إليه من الحديث والأثر ومن اتباعهم للمنهج الذي سلكوه ،وإن أخطأوا في تطبيقه أو فهم بعض مفرداته ، فلا يمكن لسني يعلم ما كان عليه السلف من كراهتهم لعلم الكلام وتبديع أهله أن يسوي بين الخطابي والبيهقي وابن عساكر والغزالي والرازي والآمدي في المرتبة ،مع استوائهم جميعاً في وصف الأشعرية ،فهؤلاء حفاظ سلكوا طريق أهل الحفظ والرواية ،ورووا آثار السلف ومنهجهم وعرفوا بذلك ،وما اكتسبوا وصف الحفظ والإمامة إلا لانتسابهم للحديث وأهله لا لكونهم أشاعرة ،هذا إن سلمنا أصلاً أنهم أشاعرة بالمفهوم المتأخر للأشعرية ! فمثلا لو تأملنا في أشعرية الحافظ ابن عساكر رغم ما يبدو عليه من التعصب لوجدنا كتابه "تبين كذب المفتري " يدافع فيه عن الأشعري بما في كتاب "الإبانة "،وهو الكتاب الذي يكاد يجمع على أنه أقرب كتب الأشعري إلى السنة ،وأن ما فيه هو آخر ما كان عليه ...
- قال شيخ الاسلام رحمه الله :" وأما من قال منهم بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره، ولم يظهر مقالة تناقض ذلك، فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعرى بدعة، لا سيما وأنه بذلك يوهم حسًنا بكل من انتسب هذه النسبة، وينفتح بذلك أبواب شر"ا.هـ ...
فهل يستوي ابن عساكر الأشعري مع من جعل من الأشعرية عنواناً يضع تحته أصول أهل البدع من الاعتزال والفلسفة والكلام ؟! بل هل يستوي مع من يجعل كتاب الإبانة مدسوساً على الأشعري لما يتضمنه من التجسيم الصريح على حد قول السقّاف المخذول !!

- إن هؤلاء الأئمة إنما صاروا أئمة بما تمسكوا به من أصول السنة ،وأهل السنة لم يغمطوهم حقهم بل قدّروهم وعظّموهم ولم يسلبوا عنهم أوصاف التكريم والإكباروالعلم والفضل - وهم لذلك أهل - مع قولهم ببعض بدع الأشعرية من التأويل وغيره ،بل جعلوا هذه البدع منهم أخطاء مغمورة في بحور حسناتهم وزلات مهدرة في مقابل ما أظهروه من العلم السنة ،وهم في ذلك منصفون ،وهل القول بأن الانتساب للأشعري بدعة يلزم منه تبديع كل من ينتسب إلى الأشعري ؟! فإن هذا أقصاه أن يكون كالحكم العام الذي يخرج عنه بعض أفراده ،فماذا ينكر الشيخ حاتم في هذا ؟
- فما ذهب إليه حفظه الله من أننا بين خيارين هما طرفي نقيض : إما ان نصنف الجميع كمبتدعة خارجين عن السنة ،أو نجعلهم جميعاً بعُجرهم وبُجرهم من أهل السنة الأقحاح أتباع السفيانين والأوزاعي ومالك بن أنس بعيد عن الإنصاف والتحقيق ، والحق هو ما عليه أهل السنة، وضابطه أن يحاكم هؤلاء بما عرفوا به وما غلب عليهم من العلم والمنهج ،وبما قضوا عليه أعمارهم، فينسبون إليه ،ويغتفر لهم ما أخطأوا فيه مما شاركوا فيه أهل البدع ،مع التنبيه عليه ، وإلا فهل عُرِف الحافظ ابن عساكر بأشعريته ،أم عرف بحفظه ودرايته وكتبه التاريخية والحديثية ؟ وهل عُرِف البيهقي بأشعريته أم عرف بحفظه ودرايته وكتبه الحديثية ؟
وهذا عليه من الدلائل الشيء الكثير بحيث ل وضع في سياق واحد لكان اصلاً في ذلك ولأبان عن هذا الضابط أتم البيان ،ومن ذلك موقف علماء الأمة من إمام الأئمة ابن خزيمة لمّا قام بتأويل حديث الصورة ، ومعلوم كلام العلماء في تبديع التأويل والتشديد في ذلك ، ومع ذلك لم يحكموا على هذا الامام بموجب هذا التأويل لما يعرفون عنه من اتباع السنة والأثر والدعوة إلى ذلك والتأليف فيه ، فنبهوا على خطأه وحاكموه إلى ما عرف عنه وغلب عليه ، ومن هؤلاء شيخ الاسلام إسماعيل الأنصاري رحمه الله ومعلوم ما وقع فيه من عظائم في كتابه منازل السائرين ،وكلام شيخ الاسلام ابن ييمية فيه وقد نقله الذهبي وابن القيم رحمهما الله ،بل إن أهل العلم قد برأوا ابن الهيصم من تهمة التجسيم مع أنه رأس الكرامية في زمانه ونسبوه إلى العلم والسنة ،وهناك الكثير من الدلائل لا تحضرني لعل غيري ينشط لجمعها ممن هم أقدر مني على ذلك وأعلم ..
- فهل نسوي بين أبي سليمان الخطابي الذي قال في أهل الكلام : " وقفت على مقالك أخي وليك الله بالحسنى وماوصفته من أمر ناحيتك وما ظهر بها من مقالات أهل الكلام وخوض الخائضين فيها وميل بعض منتحلي السنة إليها واغترارهم بها واعتذارهم في ذلك بأن الكلام وقاية للسنة وجنة لها يذب به عنها ويذاد بسلاحه عن حرمها وفهمت ما ذكرته من ضيق صدرك بمجالستهم وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم لأن موقفك بين أن تسلم لهم ما يدعونه من ذلك فتقبله وبين أن تقابلهم على ما يزعمونه فترده وتنكره وكلا الأمرين يصعب عليك أما القبول فلأن الدين يمنعك منه ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه وأما الرد والمقابلة فلأنهم يطالبونك بأدلة العقول ويؤاخذونك بقوانين الجدل ولا يقنعون منك بظواهر الأمور "ا.هـ

- وقال : " إنا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصانع ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بيانا وأصح برهانا وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة وتابعتموهم عليه وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء فأما مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله عز و جل عن ذلك وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها والإيداع والانقطاع على سالكها " ا.هـ
- وقال : (واعلم أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام وهذا النوع من النظر عجزا عنه ولا انقطاعا دونه وقد كانوا ذوي عقول وافرة وأفهام ثاقبة وقد كان وقع في زمانهم هذه الشبه والآراء وهذه النحل والأهواء وإنما تركوا هذه الطريقة وأعرضوا عنها لما تخوفوه من فتنتها وحذروه من سوء مغبتها وقد كانوا على بينة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم لما هاهم الله له من توفيقه وشرح به صدورهم من نور معرفته ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته وتوقيف السنة وبيانها غناء ومندوحة عما سواهما وأن الحجة قد وقعت بهما والعلة أزيحت بمكانهما فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة وقلت عنايتهم واعترضهم الملحدون بشبههم والمتحذلقون بجدلهم - حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام ولم يدافعوهم بهذا النوع من الجدل لم يقووا بهم ولم يظهروا في الحجاج عليهم فكان ذلك ضلة من الرأي وغبنا فيه وخدعة من الشيطان والله المستعان " ا.هـ
فهل نسوي بين من يقول هذا الكلام وبين الرازي إمام المتكلمين الذي وضع القانون الكلي في تقديم العقل على النقل ؟!
هل يستطيع أشعري أن يحتج بكلام الخطابي هذا في تدعيم منهجه وتصحيح أصوله ؟
أم أنه يستفيد من نسبة مثل هذا الإمام للأشعرية لتصحيح ما عليه من باطل ،لمجرد مشاركته في شيء من تأويل الصفات ؟ !
وقل مثل ذلك في جميع من ينسب إلى الأشعري من أهل الحديث ..
فإن هؤلاء الأئمة أجّل في نظرنا من الأشعري رحمه الله ونسبتهم إلى الأشعري ازراء بهم ووضع من منزلتم مع تقديرنا لأبي الحسن الأشعري رحمه الله ،لكن ما قدمه هؤلاء لدين الله أعظم مما قدمه أبو الحسن وما أخطأوا فيه أقل اثراً على الأمة مما أخطأ فيه أبو الحسن ،وما بلغوه من مراتب العلم والفضل لم يصله ولا قريب منه أبو الحسن رحمه الله ،وإننا قد أنصفنا الأشعري عندما حاكمناه إلى آخر كتبه وقضينا بأنه قد تاب من اعتزاليته ن ،ومرّ بما مرّ به من مراحل وانتهى إلى منهج السنة ..
إن المتأخرين من الأشاعرة يقدمون أمثال الزاي والأمدي والتفتازاني على هؤلاء الأئمة ، لأنهم أئمة مذهبهم في الحقيقين وأعمدته ،وإنما يذكرون هؤلاء الحفاظ لأجل تزيين مذهبهم والدفع بهم في نحر خصومهم ،مع علمهم أنهم إنما شاركوهم في شيء يسير من تأويل الصفات ،ولم يلتزموا كامل أصولهم المبتدعة ،بل بدّعوها وأنكروها وما كتاب الغنية عن الكلام وأهله للخطابي ببعيد !
وفي مقابل هذا الإنصاف والتحقيق نرى المخالفين لنا ينسفون علماءنا لأدنى شبهة وأقل خطأ ، وانظر إلى كلامهم في ابن خزيمة وابن بطة والدارمي وابن مندة وابن عبد البر وأبي يعلى وابن تيمية وابن القيم غيرهم
إننا للأسف نتهم بالإنصاف في وقت عز فيها المنصفون !