- الجزء الثاني
المبحث الثاني: عالمية القيم وعولمة القيم
من المفيد أن نشير إلى أن العالمية ليس مصطلحا جديدا، فقد درج المفكرون وأصحاب المشاريع التغييرية أن يسموا أطروحاتهم بالعالمية، وهي نزعة تشبه إلى حد كبير النزعة التي تقسم تطور الفكر أو تطور أنماط الإنتاج إلى مراحل وتجعل في آخر المسار مرحلة يصار إليها بحكم طبيعة الصراع والسننية المحددة له (الحتمية)، ففي الفكر الماركسي اللينيني، تفسر مبادئ المادية الجدلية (صراع ووحدة الأضداد، التحول من كم إلى الكيف، ونفي النفي)(7) تطور أنماط الإنتاج من المشاعي، إلى العبودي ثم الإقطاعي والرأسمالي فالاشتراكي الذي تصار إليه المجتمعات بحسب قوانين المادية التاريخية على سبيل الحتمية التاريخية، وفي المقابل، تظهر نزعات العالمية في "الأممية الاشتراكية العالمية"، وفي الفكر النهضوي الإسلامي، تطفح الكتابات الإسلامية التي تتناول خصائص الإسلام أو التصور الإسلامي بالتفصيل في خاصية العالمية(8) كما لا تخفى نزعات الحتمية داخل هذا الفكر سواء من خلال الحديث عن إفلاس الحضارة الغربية(9) أو من خلال الحديث عن مستقبل الإسلامي(10) أو حتمية الحل الإسلامي(11). بيد أن الأمر في الحالة الليبرالية يأخذ منحى قسريا، إذ يتم ربط حتمية التحول إلى الأطروحة الليبرالية بنهاية التاريخ(12)، ويتجاوز هذا الفكر منطق التبشير بعالميته إلى توسل أدوات قسرية لفرضه وعولمته.
بهذا الاعتبار، ليست العالمية، أكثر من تطلع لإثبات قدرة الفكر – أي بنيته الداخلية - على الامتداد خارج رقعته الجغرافية وخارج المعادلة الاجتماعية التي أنتجته، وقدرته على أن يخاطب الآخر ويستميله إليه.
قد يكون لهذا التطلع تحقق في الواقع كما هو الشأن في التجربة التاريخية لكل أطروحة تغييرية تعدت حدود قطرها الجغرافي (تجربة الحضارة الإسلامية، وتجربة الامتداد الشيوعي، وتجربة الحضارة الغربية...) لكن، يصعب وسم هذا التحقق بالعالمية في غياب ضابط يميز بين ما كان بسبب تأثير الفكر، وبين ما تم فيه التوسل لفرض هذا الامتداد بأدوات خارج الفكر.
وعلى العموم، يقصد بخاصية العالمية، أو بالفكر العالمي، كل فكر استطاع أن يتمدد خارج رقعته الخارجية وخارج معادلته الاجتماعية بمنطقه الذاتي وانسجامه النظري.
أما مصطلح العولمة، باعتباره مصطلحا حديثا، فبقدر ما اكتسب سعة التداول، بقدر اختلفت التحديدات المعرفية بشأنه. وسنحاول أن نقترب من المفهوم ، ونصوغ التعاريف التي أعطيت له بشكل تركيبي يراعي المقاصد المنهجية والخلفية الفكرية المؤطرة لكل تناول على حدة:
1- تعريف جون توملنسون رئيس مركز أبحاث الاتصالات والثقافة العالمية بجامعة ترنت البريطانية :" العولمة تشير إلى الفعاليات المضطردة المتنامية التي تخص الاتصالات الاندماجية المعقدة بين المجتمعات والثقافات والأفراد على النطاق العالمي . العولمة هي الحركة الاجتماعية التي تتضمن انكماش البعدين الزمني والمكاني "(13).
2- تعريف روبرستون:" تشير إلى العملية التي من خلالها تزداد إمكانية رؤية العالم كمكان أوحد بالإضافة إلى الطرق التي تجعلنا في حالة وعي بهذه العملية "(14).
3- تعريف أنثوني جيدنز ، وهو من أبرز السوسيولوجيين في الوقت الراهن : " تكثيف العلاقات الاجتماعية الممتدة على نطاق العالم اجمع والتي تربط محليات متباعدة بحيث إن الأحداث المحلية تكيفها أحداث تصدر على بعد أميال عديدة "(15).
4- تعريف فيدرسون: " الامتداد الخارجي للثقافة المحلية المعينة إلى أقصى حدودها أي العالم أجمع. تصبح الثقافات المختلفة منخرطة في الثقافة الغالبة "(16).
والمتأمل في هذه التعريفات يجد أنها تنصرف بشكل خاص إلى الجانب الوصفي الظاهري من العولمة، فباستثناء تعريف فيدرسون الذي يشير إلى البعد الوظيفي للعولمة، أو الخلفية الثقاقية العميقة للعولمة ، التي تركز على عولمة الثقافة وانخراط الثقافات المحلية ضمن الثقافة الغالبة ، فباستثناء هذا التعريف ، تركز التعاريف الأخرى على البعد التواصلي، وحركية الأفكار والقيم في سياق انكماش البعدين الزماني والمكاني . ولذلك تبقى هذه التعاريف، باستثناء تعريف فيدرسون، على أهميتها غير مستوعبة لمفهوم العولمة وسياق تشكله، والخلفية النظرية والسياسية التي تؤطره .
ويصنف الدكتور أحمد يوسف أحمد التعاريف العربية التي أعطيت للعولمة إلى فئتين:
- التعاريف أحادية الجانب : وهي التي تركز مثلا على البعد الاقتصادي للعولمة بحيث تعتبر العولمة بأحد المعايير مرحلة من مراحل نمو النظام الاقتصادي الرأسمالي ( الدكتور صادق جلال العظم ) . وهناك من يركز على البعد السياسي ، إذ يساوي بين العولمة والأمركة ( المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز الذي يعتبر العولمة الاسم الحركي للأمركة) .
- التعاريف ذات الطبيعة الشاملة :
وهي التي تعتبر العولمة عملية متعددة الأبعاد شاملة لكافة جوانب الحياة الاقتصاد والسياسة والثقافة والمعرفة والاتصال يقول د أحمد يوسف احمد :" ولا شك أن هذا النوع من التعاريفات الذي يركز على المحتوى أو المضمون الشامل للعولمة يقدم مضمونا أوضح لها "(17).
وضمن سياق التناول الشمولي لمفهوم العولمة يطرح السيد ياسين نموذجه المعرفي في تناول العولمة من خلال ثلاثة أبعاد :
البعد الأول : دراسة دقيقة لتعريفات العولمة والتي تركز على العولمة باعتبارها مرحلة تاريخية، أو باعتبارها تجليات لظاهر اقتصادية، أو باعتبارها انتصارا للقيم الأمريكية، أو باعتبارها ثورة اجتماعية وتكنولوجية .
البعد الثاني : وهو الدراسة النقدية للأطروحات الأساسية التي تؤطر التعاريف السابقة :
- نقد أطروحة التوزيع التي على أساسها صيغ تعريف العولمة باعتبارها مرحلة تاريخية .
- نقد أطروحة الإقليمية التي على أساسها صيغ تعريف العولمة على أنها تجليات لظواهر اقتصادية .
- نقد التحديث كأطروحة صيغت على أساسها تعريف العولمة على أنها انتصار للقيم الأمريكية .
- نقد أطروحة الثورة الاتصالية باعتبارها أطروحة صيغ على أساسها تعريف العولمة على أنها ثورة اجتماعية وتكنولوجية .
البعد الثالث :
وهو النموذج المعرفي المقترح ، ويهتم بمناقشة المواقف المتصارعة حول العولمة وتحديد رؤية أكثر عمقا لمفهوم العولمة . إذ يرى السيد ياسين بعد عرضه للتعاريف المعطاة للعولمة، ونقده للأسس النظرية التي قامت عليها أن العولمة ستتجاوز بمفهومها ووسائل اشتغالها حتى الذين خططوا لها وهندسوا مقاصدها . يقول :" وإذا كان صحيحا أن العولمة الراهنة تكشف عن ذروة من ذرى تطور النظام الرأسمالي العالمي – فإن التاريخ سيتجاوز هذه اللحظة ، وسيكشف في المستقبل المنظور أن العولمة – بغض النظر عن الرأسمالية – ستتجاوز شروط نشأتها لتصبح عملية عالمية واسعة المدى ، ستنقل الإنسانية كلها – على اختلاف ثراء أو فقر الأمم – إلى آفاق عليا من التطور الفكري والعلمي والتكنولوجي والسياسي والاجتماعي. وبعبارة أخرى ستحدث آثارا إيجابية لم تكن متصورة لدى من هندسوا عملية العولمة ، بل وستتجاوز هذه الآثار مخططاتهم التي كانت تهدف إلى الهيمنة والسيطرة على النظام العالمي "(18).
يبدو من خلال التحديدات المعرفية التي أعطيت للعولمة أن هناك استقطابا حادا أثر بشكل ملحوظ على هذه التعريفات . ويمكن أن نتلمس منها وجود تيارين متناقضين لهما رؤيتان متصارعتان :
التيار الأول :
الذي يتحمس بدون تحفظ للعولمة ، ويعكس مقولات هذا التيار انطوني جيدنز الذي يرى أن العولمة هي " تكثيف العلاقات الاجتماعية على مستوى العالم بطرق تجعل الأحداث المحلية تتشكل بفعل الأحداث التي تقع على مسافة بعيدة والعكس"(19) والعولمة في منظوره تجعل من الممكن فصل المكان كلية عن الهوية، والقفز خلف الحدود الثقافية والمرجعية والسياسية ، والتقليل من جملة من الثوابت، كالانتساب أو الانتماء إلى بلد واحد.
التيار الثاني : وهو التيار المعارض للعولمة بشدة وقد بنى موقفه على جملة من الاعتبارات نذكر منها أن العولمة :
- تنفي التعددية الثقافية .
- تسيد قيم الربح والخسارة وآليات السوق على حساب الخصوصيات الثقاقية والهوية المرجعية للبلدان.
- تعتدي على حرية وسائل الإعلام والحق في الاتصال.
- تقوض سلطة الدولة .
ويعكس مقولات هذا التيار بشكل أكثر وضوحا المفكر الأمريكي تشومسكي إذ يختصر مفهوم العولمة في :
- الزيادة الضخمة في الإعلان وخاصة إعلان السلع الأجنبية.
- التوسع في التعدي على القوميات من خلال شركات عملاقة شاملة ومستبدة يحركها أولا الاهتمام بالربح وتشكيل الجمهور وفق نمط خاص(20).
والمتأمل في رأي الفريقين يرى أنه كليهما يركز على تأثير العولمة على الهوية الثقافية ، فبينما يعتبر الفريق المتحمس للعولمة أن مسألة الهوية مسألة نسبية يمكن لرياح الاتصال وحركية المعلومات أن تؤثر فيها إيجابيا انسجاما مع التطور الفكري الحتمي للعالم ، يحرص الفريق الناقم على العولمة على اعتبار مسألة المرجعية والهوية الثقافية من حقوق الشعوب الأساسية والتي لا ينبغي التعدي عليها بفرض قيم أمريكية خاصة وتعميمها على كل البلدان .
نقد العولمة، أو العولمة كمدخل للعالمية:
ليس هناك من شك بالنظر إلى ما سبق، أن الفارق كبير بين العالمية وبين العولمة، وليس هناك من شك أيضا أن العولمة لم تنجح بأدواتها في أن تكتسب المشروعية كفكر عالمي، بل على العكس من ذلك، ولأول مرة في التاريخ تتكتل توجهات من مختلف الثقافات والمرجعيات لمواجهتها، لكن مع ذلك، ينبغي الإقرار بأن العولمة عملية تاريخية غير قابلة للتراجع، وأن منطقها في التطور كما ذهب إلى ذلك السيد ياسين، يتجاوز مهندسيها والمتحكمين في مسارها، فالعولمة فتحت بابا لا يمكن التنبؤ بمن سيحسن استعماله وتوظيفه لنشر نموذجه والتبشير بقيمه، فليس من باب الحتمية أن ينخرط الجميع في القيم الأمريكية، فإذا كان منطق الواقع اليوم يؤكد سيطرة هذه القيم ثقافيا ، فإن الرؤية الاستشرافية التاريخية لمآل العولمة وتطورها لا تضمن استمرار هذه السيطرة، ذلك أن المحدد الرئيس في مآل العولمة هو ما ستؤول إليه المواجهة الحقيقية ضد نسق القيم السائد العولمي."(21) ومن يملك الإرادة القوية لحسم هذا الصراع لصالحه.
خلاصة القول، أن الضرورة باتت ملحة للتمييز بين العولمة كسياق تاريخي، وبين النسق الثقافي الغربي الذي يستثمرها لنشر قيمه ونموذجه. ذلك التمييز الذي يجعل من الممكن جعل العولمة مدخلا للعالمية.
إن الخوف من العولمة على الهوية وعلى الخصوصية والمرجعية أمر مبرر ، لكن موقف الرفض للعولمة لا يمنع، في واقع الأمر، النسق الثقافي الأمريكي من فرض قيمه ، ولا يمنع العولمة نفسها من المضي في طريقها متجاوزة ليس فقط من رفضها ، بل حتى من أسهم في نشأتها وتحمس للفضاءات المعرفية والثقافية التي تتيحها.
يبدو أن العالمية ممكنة من خلال استثمار العولمة شريطة الاعتراف بواقع العولمة ، والتعامل معها بإيجابية ووظيفية ومقصدية ، ولعل هذا ما عبر عنه بوضوح الدكتور تركي صقر حين دعا إلى "التمسك بالهوية القومية وتطوير الخصوصية ، دون اندماج هيكلي تابع للدول المهيمنة أي النظر بعلمية لهذه الظاهرة ، والإفادة من معطياتها ، وتحويلها إلى موقف لصالح الشعوب وليس موقف مضاد لمصالحها. وهذه نظرة واقعية لظاهرة عالمية تريد أن تستغلها الدولة الأعظم كلية لصالحها، وتريد أن تقطف منجزات العلم والثقافة التي هي منجزات عالمية لصالح طرف واحد "(22).
وهي نفس النظرة التي أصل لها بعمق الدكتور طه عبد الرحمان بشدة عندما عرض لآفات ما أسماه السيطرات الثلاث للعولمة.
1- سيطرة الاقتصاد في حقل التنمية والإخلال بمبدأ التزكية.
2- سيطرة التقنية في مجال العلم والإخلال بمبدأ العمل.
3- سيطرة الشبكة في حقل الاتصال والإخلال بمبدأ الاتصال.
وانتهى إلى أن هذا السيطرات تعرض نظام العولمة لأزمة أخلاقية مثلثة، تتمثل في كون سيطرته الاقتصادية تحصره في نطاق المنفعة المادية، وثانيا في كون سيطرته التقنية تحصره في نطاق الفعل الإجرائي ولا تخرج به إلى رحاب فضاء العمل المقصدي، وثالثا في كون سيطرته الاتصالية تحصره في نطاق المعلومات البعيدة ولا تخرج به إلى رحاب المعروفات القريبة"(23).
وعليه، يصير التعريف الذي أورده ويبسترز للعولمة ممكنا إذا ما تم تجاوز هذه الآفات الثلاثة، ذلك أن النظام الثقافي والقيمي الذي"يكتسب طابع العالمية" وتصير إمكانية "تطبيقه عالميا" ممكنة، لا يمكن تصوره خارج التدافع مع النسق الثقافي المهيمن، كما لا يمكن وروده من خارج الأنوية التي تتيحها العولمة.
|1|2|3|