رجال الحسبه.. واللبن المسكوب !
هناك مَثَل غربي جميل يقول : قبل انقاذ الغابات الاستوائية ، عليك بتنظيف غرفتك وبيتك ! .
ورجال الحسبة والله إنهم مِلح البلد وصفو الزَّبد ، ولا يصلح المِلح إذا المِلح فسد ؟!
ومن أراد معرفة قيمة هؤلاء الرجال ، فليقم بزيارة قصيرة لأقسام الأمن والشُّرط حتى يقف على القضايا التي لولا الله ثم أُولئك الأسود لهُدِّمت كثير من البيوت بمن فيها ! .

والناس مع رجال الحسبة طرفان بلا توسط : إما مُعنِّف ومُثرِّب ، أو مادح وعاصم لهم عن كل خطيئة .

ولا يخفى على كل عاقل أن نشر الفضيلة لن يرضي كل نفس منفوسة تدبُّ على الأرض ، بدليل أن الإيمان والفجور يتصارعان منذ أن خلق الله آدم ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . فليس كل الفِطر البشرية تنقاد إلى الحق والخير والصلاح .

بعض النفوس المريضة في بلدنا تريد تحقير رجال الحسبة واضعاف هيبتهم أمام المجتمع بكافة شرائحه وطبقاته ، في الوقت الذي تتمنى كثيرٌ من الشعوب الاسلامية وغير الاسلامية وجود حماة للأخلاق وحراس للفضيلة في بلدانهم أو ما يسمى بالشرطة الدينية، التي تردع المتطاولين على الأخلاق والأعراض ممن يحبون أن تشيع الفاحشة بين الناس .

إنَّ من اعتاد على غمز المحتسبين ولمزهم لا تثريب عليه مِنا ابتداءاً ، لكن عليه أن ينزل الى الميدان بنفسه ويحصي عدد المنكرات التي تقع على الأخلاق والأعراض ، وليتخيَّل في نفسه : أن ذلك يقع على أهله وعشيرته وبني جلدته ، سوف سيكون أثر ذلك على ضميره وأعصابه ! .
إن العمل في الميدان أو الشارع ليس كالعمل في غرفة أو في مكتب واسع لا تشويش فيه ولا كدر ، ووالله إنَّ امتهان جهاز الحسبة أو تحقير عملهم ، لهو من ضياع العقول والقلوب ، وفتح باب فتنة تحرق الأخضر واليابس .

يا رجال الحسبة : إن الاحتساب اليوم يختلف عن الاحتساب قبل مئة سنةٍ ، فالعقول تغيَّرت والقلوب تبدَّلت ، وحضارة العصر ألقت بِظلالها على كثير من رغبات الناس ، فأضحى المنكر عندهم معروفاً والمعروف منكرا ! .

إن التعامل الراقي مع الناس حتى - لو كانوا عصاة - لا بُدَّ أن يُليِّن القلوب ولو بعد حين ، والوقوف أمام الأمواج المضطربة خطر ومجازفة لا تليق بالعقلاء الناصحين .

من أعظم صفات المحتسبين صفة التعفُّف والترفع عن دنايا الأخلاق والتحلِّي بشكيمة المؤمن مع عِزَّة النفس ووقارها . ولا عجب في ذلك فهم أحق الناس بالخيرية التي أمر الله بالاتصاف بها لمن سلك مسلكهم ودرج في فلكهم ،كما قال الله تعالى : "كنتم خير أُمةٍ أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله "(ال عمران : 110) .

وقد روي عن بعض السلف قوله : القلوب أوعية وخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة عالم رباني ومتعلِّم على سبيل النجاة ، وهمج رعاع أتباع لكل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق .

وروي في الآثار : " لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ، كونوا كالطبيب الرفيق يضع الدواء في موضع الداء ". وفي لفظ آخر : "من وضع الحكمة في غير أهلها فقد جهل ، ومن منعها أهلها فقد ظلم ، إن للحكمة حقا وإن لها أهلا ، فأعط كل ذي حق حقه. " .

ولا يخفى على اللبيب أن كل قائمٍ على حراسة الفضيلة لا مناص من امتحانه وتمحيصه وابتلائه ، إما بالايذاء النفسي، أو بالاقصاء والابعاد والاعتداء البدني . وقد نهى الله تعالى عن ذلك ورتب عليه الظلم والعقوبة الأخروية كما في قوله سبحانه :" ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه مَا عَليكَ مِنْ حِسَابِهِم مِن شَيْء وَمَا مِن حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِنْ شَيْء فَتَطْرُدَهُم فَتَكُونَ مِنَ الظَالِمِينَ."( الأنعام : 52) .

إن الذباب لن يخرج من البيت دفعة واحدة وفي دقيقة واحدة ! . وعليه فلا بُدَّ من الجمع بين الحزم والِّلين لتربية النفوس ، واستعمال المرونة في التعامل مع المجتمع لا سِّيما أهل الفجور، وترك بعض رغبات النفس أحيانا لكسب الناس، من أجل التأثير عليهم واقتيادهم إلى ما فيه صلاحهم ، وهذا لا يدرك الا بعد جهاد . وهذا ما يسمى بفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

وقد أحسن الشاعر حين قال :
دعا المصطفى دهراً بمكة لم يُجَب وقـد لان مـنه جانبٌ وخِطاب
فلما دعـا والسيفُ صلتٌ بكـفِّه له أسلموا واستسلموا وأنابوا

إنَّ مما يحزُّ في النفس تقصير كثيرٍ من المحتسبين في التعامل مع عقول الناس ومعاملتهم وكأنهم مقاس واحد لا اختلاف بينهم . وهذا لا يدرك الا بالخِبرة أو بدراسة فقه التعامل مع الآخرين ، أو بتطوير الذات والتأنِّي في معاملة الخلق .

فليس القصد من هذه الفريضة ردع الناس فحسب ، بل المقصود تبصيرهم بالحق والخير وتحبيبهم لأهله . ومن المغالطات في التعامل مع العصاة الظنُّ بأن كل الناس يُقدِّرون من يُسدي لهم نصحاً أو يُخوِّفهم من الوقوع في الضرر . وقد قال الامام ابن تيمية (ت: 728هـ) رحمه الله تعالى :"إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكون واجبا إذا كانت مفسدة الأمر أكبر من مفسدة الترك " .

ومن القواعد المهمة هنا : أن المنكر لا ينكر إلا إذا أُجمع على أنه منكر ، أما ما كان محلَّ اجتهاد فلا يجوز الانكار على صاحبه . ويسقط تغييِّر المنكر باللِّسان إذا كان في مكانٍ يقوى فيه أهل الفجور على أهل الخير . لكن الانكار بالقلب لا يسقط بحال .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

أ/أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصة

( منقول)