ذات ليلة جاءت قافلة ترسب في ظلام الليل، وتطفح في سراب النهار، تسير وئيدة، تشققت أخفاف الإبل لطول السرى والسفر، وكما يقول الشاعر:
خوصٌ كأشباح الحنايا ضُمرٍ يرعفن بالأمشاج من جذب البرى
أخفافهن من حفا ومن وجى مرسومةً تخضب مبيض الحصى
يرسبن في بحر الدجى وفي الضحى يطفون في الآل إلى الآل طفى
يحملن كل باسلٍ محقوقفٍ من طول تدءاب الغدو والسرى
وجاءوا كما يقول الشاعر: شاحب، محقوقف أي: منحني على ظهر الناقة من الجوع وطول السفر، وأناخوا على ربض المدينة ، وجاء الفاروق ، جاءت خطاه تقرع سمع الظلام بالليل ليؤسس قواعد العدل؛ فيتعب من بعده الحكام.
وإذا به يسمع بكاء طفل، فوقف على أمه وقال: يا أمة الله! أسكتي طفلك فقد آذى جيرانه، فأسكتته فسكت، ثم انصرف يتفقد الناس، ثم عاد وإذا بالطفل يبكي. قال: يا أمة الله! ما بال طفلك؟ أسكتيه. قالت : وما شأنك أنت، ولم تعرفه، لم يكن له هيئة ولا صولجان ولا أبهة بل يفترش الأرض، ويلتحف السماء، يأكل الملح والزيت والخبز اليابس. فقالت: إن عمر لا يعطي الأطفال أرزاقهم حتى يبلغوا الفطام، وأنا وضعت المر على ثديي لأفطمه، فهو يبكي ولم يكن يبلغ الفطام. فبكى عمر وتحدرت الدموع على وجنتيه، وقال: أرضعيه يا أمة الله! ويحك يا ابن الخطاب كم طفلاً قتلت وأنت لا تدري؟ أرضعيه حولين كاملين، وغداً يأتيه رزقه ورزق أمثاله، وذهب يتقلب على فراشه لا يطيق المنام، وصلى الفجر بالمسلمين، يقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: صلينا خلفه الفجر، فلم نعِ ما يقول في الصلاة، ولا نفهم قراءته من شدة بكائه وأنينه وأزيزه، فلما فرغ من صلاته التفت، وقال: ليبلغ الشاهد الغائب أن عمر بن الخطاب سيجري لأطفال المسلمين منذ ولادتهم أعطياتهم وأرزاقهم، فانطلق الناس في الجزيرة العربية يبشرون. هذه الحادثة تدل على قلبه الكبير والتقدم الحضاري التي كانت عليه المدينة الإيمانية بقيادة عمر الفاروق، معظم دول العالم اليوم يجعلون علاوة مادية لرواتب الآباء من أجل الأبناء، أين يصب أجرها وثوابها؟ إنه يصب في ميزان عمر الفاروقفالمال الذي تأخذه أنت زيادة على راتبك من أجل الأولاد أول ما يصب ثوابه في ميزان عمر؛ لأنه أول من سن هذه السنة الحسنة: (فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة). |
|