بسم الله الرحمن الرحيم
(تلخيص لأهم ماورد في هذه الرسالة القيمة المفيدة)
قال الشيخ عبد الباري بن حماد الأنصاري حفظه الله ورعاه:
وإن من أعجب ما يمر بالباحث ويستوقفه ان يعزى إلى الجامع الصحيح للإمام البخاري حديث موضوع اتفقت كلمة اغلب النقاد على شدة ضعف راويه وتوهين حديثة والحكم على حديثه أو النكارة.
والإمام البخاري إمام الصنعة في زمانه ولا تخفى منزلة وإمامته في تميز الصحيح من السقيم وقوة معرفته وتحريه وحسن انتقائه لأحاديث كتابه فكيف يخرج في صحيحه حديثا بهذا الوصف وراويه على تلك الحال ؟
ومما يزيد الأمر غرابة أن لا يذكر هذا الحديث عامةُ المعتنين بالصحيحين من المصنفين في الجمع بينهما او في أطرافهما أو شروحهما أو تراجم رجالهمابل ولا من ألف في الانتقاد والاستدراك عليهما وكان هذا العزو بالنسبة إلى محل استغراب وتعجب لما هو معلوم من منزلة الصحيح.
تخريج الحديث: أخرجه عبد بن حميد كما في المنتخب من مسنده
وابن أبي الدنيا في كتاب (الجوع) عن يعقوب بن عبيد
وابن أبي حاتم في تفسيره عن محمد بن عبد الرزاق الهروي
وابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق محمد بن رافع
أربعتهم عن يزيد بن هارون عن جراح بن منهال عن الزهري عن رجل عن ابن عمر رضي الله عنهما به.
حكم الحديث:هذا الحديث موضوع تفرد برواية الجراح بن منهال أبو العَطوف الجزري وهو متروك إتهمه بعض النقاد بالكذب وأجمع أهل العلم على تضعيفه فقال البخاري منكر الحديث,وقال الدارقطني ضعيف جداً.
ومن دلائل وضع هذا الحديث: ما في متنه من المخالفة لما ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم فقد أخرج الإمامان البخاري ومسلم من حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنة .
قال العلامة القرطبي رحمه الله تعالى وسائر المسلمين: في كلامه على حديث الجراح ابن المنهال : "هذا ضعيف يضعفه أنه عليه السلام كان يدخر لأهله قوت سنته وأتفق البخاري عليه ومسلم وكانت الصحابة يفعلون ذلك وهم القدوة أهل اليقين والأئمة من بعدهم المتقين المتوكلين" .
عبارات العلماء في الحكم على الحديث:وتنوعت عبارات النقاد والعلماء في الحكم على الحديث ومما وقفت على كلامه فيه وأورده في كتاب أفرده للأحاديث الموضوعه الأعلام الآتي ذكرهم :
1- الإمام النسائي قال: حديث موضوع
2- الحافظ البيهقي قال: ضعيف
3- الحافظ السمعاني قال: مجهول
4- الحافظ ابن الجوزي ذكره في الموضوعات
5- العلامة القرطبي قال: ضعيف
6- الحافظ ابن كثير قال: غريب
7- العلامة السيوطي قال: ضعيف
8- العلامة محمد بن طاهر الفتني قال :موضوع
9- العلامة الشوكاني : قال فيه نكارة
فتبين مما سبق على ان العلماء مجمعون على ضعف الحديث إلا انهم اختلفوا في درجة ضعفه فبعضهم حكم عليه بالوضع كالإمام النسائي وبعضهم حكم عليه بأن فيه نكارة شديدة كالشوكاني وبعضهم اقتصر على الحكم عليه بالضعف فقط كالبيهقي والسيوطي والراجح في حاله أنه موضوع كما قال الامام النسائي لتفرد راو متهم بروايتة... ولما في متنه من النكارة الشديدة.
من وهم في هذا الحديث من أهل العلم ونسب هذا الحديث إلى الصحيح:
1- وأول من نسب حديث : (كيف بك يابن عمر اذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم) إلى صحيح البخاري الحافظ ابو منصور شهردار ابن شيرويه الديلمي رحمه الله في القرن السادي ثم تتابع بعض أهل العلم على تقليده في ذلك.
والسبب في هذا الوهم أمران : أحدهما التشابه في بعض لفظ الحديثين.
1- فكيف بك يا ابن عمر ! إذا بقيت في قوم يخبؤن رزق سنتهم ؟!
2- يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو كَيْفَ بِكَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ بِهَذَا.
وثانيهما: أن الامام البخاري لم يذكر في صحيحه تمام الحديث وإنما اقتصر على طرف منه فظن الديلمي أن تمام متنه : حثالة من الناس يخبئون رزق سنة ويضعف اليقين .
ولم يتنبه إلى عدم ذكر لفظ التشبيك فيه مع انه اللفظ الذي من أجله أورده الإمام البخاري في هذا الباب .
والحافظ ابو منصور الديلمي رحمه الله أسدى إلينا معروف كبيراً وعمل عملاً مشهورا لإسناده أحاديث كتاب الفردوس لوالده فحفظ لنا بذلك أسانيد مهمة يعز الوقوف عليها عند غيره, إلا انه وقع له في كتابه المسمى (مسند الفردوس) أوهام كثيرة منها متعلق بالعزو إلى الصحيحين وغيرهما وحديث بحثنا هذا ( حديث ادخار الرزق ) مثال لوهمه في العزو إلى صحيح الامام البخاري.
وأما صحيح الامام مسلم فمما وقفتُ عليه من أوهامه في العزو إليه أنه عزى حديث (الجنة تحت أقدام الأمهات) إلى صحيح الإمام مسلم وأن الحديث لم يخرج بهذا اللفظ إلا في بعض الكتب الغير المشهورة كالكنى للدولابي ومسند القضاعي.
وقال : شيخ الاسلام ابن تيمية (رحمه الله وسائر المسلمين) فيه: ما أعرف هذا اللفظ مرفوعا بإسناد ثابت.
ويؤيد كثرة أوهام الديلمي في العزو ما قاله الحافظ ابن حجر في مقدمة كتابة تسديد القوس (وهو كتاب اختصر فيه كتابه: زهر الفردوس لالتقاط عجائب مسند الفردوس-ولم يطبع- ) قال : كان شيخنا العراقي (رحمه الله وسائر المسلمين) يذكر أن هذا الكتاب (يعني مسند الفردوس) مشتمل على أوهام كثيرة حتى في العزو.
2- وأما الحافظ العراقي فلم أقف على كلام له في نسبة هذا الحديث في أي مصنفاته المعروفة وإنما نقله السيوطي عنه دون عزو, وكرر ذكره في غير واحد من كتبه كــ(التعقبات على الموضوعات) وتدريب الراوي .
قال في تدريب الراوي (في صدد كلامه عن كتاب ابن الجوزي- الموضوعات- وماتضمن الأحاديث الصحيحة):
(ومنها ما هو في صحيح البخاري رواية حماد بن شاكر وهو حديث ابن عمر (كيف يا ابن عمر إذا عمرت بين قوم يخبئون رزق سنتهم).
هذا الحديث أورده الديلمي في مسند الفردوس وعزاه للبخاري وذكر سنده إلى ابن عمر ورأيت بخط العراقي أنه ليس في الرواية المشهورة وأن المزي ذكر أنه في رواية حماد بن شاكر فهذا حديث ثان من أحاديث الصحيحين ...)
ولكن يرد هاهنا سؤال : وهو أين قال الحافظ العراقي ذلك ؟
والجواب عنه أنه يظهر أمران: 1- أن الحافظ العراقي قال ذلك في احد كتبه التي ذكر فيها حديث ادخار الرزق فوقف السيوطي على كلام الحافظ العراقي بخطه في ذلك الكتاب .
2- أن الحافظ العراقي وقف على كلام الديلميّ الآنف الذكر في نسخة من كتاب (مسند الفردوس) فعلق في هامش النسخة بخطه : (ليس هو فيما رأيناه في نسخة البخاري وذكر المزي انه في رواية حماد بن شاك)ر .
والذي أرجحه الاحتمال الثاني لعدة اسباب أولها : أن من عادة السيوطي رحمه الله في النقل أن يبين المصدره الذي نقل منه فقد قرر ذلك في كتاب المزهر في اللغة 2/ 319 قال: لا تراني أذكر في شيء من مصنفاتي حرفاً إلا معزواً إلى قائله من العلماء مبيناً كتابه الذي ذكر فيه .
ثانيها : لو أن الحافظ العراقي رحمه الله قال ذلك في احد كتبه لنص السيوطي رحمه الله على اسم الكتاب .
ثالثها : أنه بالعودة إلى بعض كتب الحافظ العراقي رحمه الله التي هي مظنه كلامه على هذا الحديث مثل( المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الأحياء من الأخبار) الذي خرج فيه حديث (ادخار الرزق), وبالرجوع إلى كتبه في علوم الحديث التي تكلم فيها على الاحاديث المتنقدة في الصحيحين لا نجد الحافظ العراقي رحمه الله ذكر هذا الكلام مع أهميتة وتعلقه بما قيل في هذا الحديث .
رابعها : أن هذه العباره لو وردت في تصانيف الحافظ العراقي رحمه الله فليس من المعتاد ان ينفرد الحافظ السيوطي رحمه الله بالاطلاع عليها دون غيره من أهل العلم سواء من تلامذة الحافظ العراقي كالحافظ ابن حجر أو من بعده من أقران السيوطي كالحافظ السخاوي والعلامة القسطلاني (رحمهم الله ) .
فبناءً على ما سبق يترحج أن الحافظ العراقي رحمه الله لما وقف على ما ذكره أبو منصور الديلميّ رحمه الله في نسخة من كتابه (مسند الفردوس) كتب في هامشها (ليس هو فيما رأيناه في من نسخ البخاري وذكر المزي انه في رواية حماد بن شاكر).
ويبقى اشكال في قول الحافظ العراقي رحمه الله فإنه نص على أمرين: أولهما أن هذا الحديث ليس في النسخ التي رأها في الصحيح.
وثانيها : أن الحافظ المزي رحمه الله ذكر أن هذا الحديث موجود في رواية حماد بن شاكر . فالأمر الأول واضح لا اشكال فيه .
واما الأمر الثاني: فيحتاج إلى بحث ونظر والذي يظهر لي وأرجحه أنه لا دخل للحافظ المزي رحمه الله في عزو حديث (كيف بك يابن عمر...) إلى الصحيح وإنما هذا وهم مركب وقع للحافظ العراقي رحمه الله فزاد على وهم الديلمي رحمه الله وهم آخر وهو ان الحافظ المزي رحمه الله يعزوه للصحيح أيضاً.
ويوضح هذا الوهم أن كلام الحافظ المزي رحمه الله موجود بين أيدينا في كتاب من أشهر كتبه.
فإنه قال في كتابه تحفة الاشراف في معرفة الاطراف :
7428 - [خ] حديث : شبك النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصابعه. خ في الصلاة في باب تشبيك الأصابع في المسجد (88 : 1) عن حامد بن عمر، عن بشر بن المفضل، عن عاصم بن محمد، عن أخيه واقد بن محمد، عن أبيه بِهِ. قال (88 : 1تعليقًا) : وقال عاصم بن علي، حدثنا عاصم بن محمد : سمعت هذا الحديث من أبي فلم أحفظه، فقوَّمه لي واقد عن أبيه، قال : سمعت أبي، وهو يقول : قال عبد الله : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يا عبد الله بن عمرو ! كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس - بهذا. هذا الحديث من رواية حماد بن شاكر، عن البخاري.
ويكفي للجزم بهذا الوهم الذي وقع للحافظ العراقي أن يقارن الناظر بينما ما ذكره الحافظ المزي فيما سبق نقله قريباً وعبارة الديلمي في مسند الفردوس .
3- وأما الحافظ السيوطي فقد ظهر لي من خلال جمعي للمادة أنه من شهر نسبة هذا الحديث إلى الصحيح برواية حماد بن شاكر حيث ذكره في كثير من كتبه مثل: 1- التعقبات على الموضوعات (قال د.عبدالباري: وهذا اسمه الصحيح خلافا لما اطبع عليه -النكت الجياد- وأفادني هذا أستاذنا د.أبراهيم نور سيف وله بحث في اسم الكتاب اهــ. ).
2- وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي.3- والتوشيح في شرح الجامع الصحيح.
4- والقول الحسن في الذب عن السنن.5- واللأليء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة. 6- والجامع الكبير.7- ومنظومة في الأحاديث الموضوعة التي ذكرها ابن الجوزي في الموضوعات.
واعتمد عليه في ذلك عدد من اهل العلم ممن جاء بعده واقروه عليه دون تثبت وتحقيق .
وتقدم كلامه في تدريب الراوي: (رأيت بخط العراقي أنه ليس في الرواية المشهورة وأن المزي ذكر أنه في رواية حماد بن شاكر فهذا حديث ثان من أحاديث الصحيحين).
قال الشيخ حفظه الله تعالى:
فهذه النقول المتعددة والاخطاء المتراكمة هي التي جعلت كثيراً من الباحثين المعاصرين يمرون على هذا الخطأ الكبير في حق صحيح الامام البخاري ولا يتنبهون فيما وقع فيه من وهم وغلط ولا يعتنون بتحقيق شأنه ولا أرى داعياً لذكر أسمائها وأسماء مؤلفيها إذ ليسوا مصدر هذا الخطأ وإنما تبعوا العلماء السابق ذكرهم .
وقد تتبعت من أورد حديث (ادخار الرزق ) من العلماء في مصنفاتهم المختلفة وقام بتخريجه والكلام عليه واقتصر على مجرد العزو وهم من اهل العلم المعروفين بالحفظ وسعة الاطلاع ووجدتهم قد عزوه إلى المصادر التي خرجته وبيّن كثيرمنهم حاله وحكمه ولم يذكر عامتهم أن الامام البخاري قد أخرجه في الصحيح وهذا سرد لأولئك الأعلام فمنهم:
1- الحافظ ابن الجوزي
2- الحافظ عبد العظيم المنذري
3- العلامة محمد بن احمد القرطبي
4- الحافظ اسماعيل ابن كثير الدمشقي
5- الحافظ احمد بن ابي بكر البوصيري
6- الحافظ احمد ابن جعفر العسقلاني
7- العلامة محمد بن يوسف الصالحي
8- العلامة مرتضى محمد بن محمد الزبيدي
9- العلامة محمد بن علي الشوكاني
10- العلامة محمد بن ناصر الدين الالباني
(رحمهم الله جميعاً وجمعنا بهم في جنة الفردوس مع النبين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا)
فهؤلاء عشرة من كبار أهل العلم في عصرهم عزوا حديث (ادخار الرزق) إلى من أخرجه من أصحاب الكتب المختلفة ولو اطلعوا عليه في الصحيح أو في احد روايته لعزوه إلى الصحيح )). اهـــــــــ
هذا ما تيسّر جمعه وتهيأ إعدادمن رسالة فضيلة الشيخ الدكتور عبدالبارئ بن العلامة المحدث حماد بن محمد الأنصاري رحمه الله تعالى وحفظ الولد ووفقه لمراضيه.
وقد عجلت بذلك من باب (وعجلت إليك رب لترضى) لما رأيت فيها من الفائدة..والحمد لله أن وفقني الله لهذا العمل بفضله ومنه وكرمه,,ولا شك أن في هذا التلخيص أخطاء لكن: (يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق). وأشكر لجميع أحبتي وزملائي في هذا (المنتدى العلمي) ولعلي أظفر منهم بدعوة صالحة وأنا يوما-مّا- تحت الثرى..يسّر الله لي ولكم ما نستقبل, وفرّج عني وعنكم,وبارك في وقتي ووقتكم, والسلام.
20/5/1434هـــــ
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين