التعليم وصناعة الغش
(1)
المدرسة مؤسسة اجتماعية وظيفتها التطبيع الاجتماعي وتهيئة الطالب للحياة التي تسود مجتمعه، وإكسابه القيم الصحيحة التي ترقى بمجتمعه.
وينبغي أن يكون الخلق القويم من أولويات هذه التهيئة، فهل يحدث ذلك في مراحل التعليم في مصر، كل مراحل التعليم من الابتدائي إلى الجامعي؟
من يعيش في أجواء مراحل التعليم لا بد أن يكون جوابه: لا. "لا" مكررة معادة.
لماذا؟
لأن التعليم انفصل عن التربية منذ زمن، ومنذ ذلك الحين غدا الغش صناعة التعليم في مراحله، كل مراحله.
كيف؟
يحرص المعلم على أن يغش طلابه الخصوصيون، أي من يتعاملون معه في الدروس الخصوصية، وصار من أهداف الدروس الخصوصية أن يضمن المعلم غش الطالب في الاختبارات.
وصار الغش مكونا أساسيا وطبيعيا من مكونات التلميذ والطالب في مراحل التعليم في مصر، كل مراحل التعليم في مصر من الابتدائية حتى الجامعة، حتى صار من لا يقر ذلك يستشعر غربة. ويجعلك ذلك من تجذره تتخيل الغش مكونا من مكونات المنهج يضاف إلى مكوناته الطبيعية من أهداف ومحتوى وأنشطة ووسائل وتقويم
ونجح التعليم في جعل الغش صناعة!
كيف؟
قبل الاختبارات تجد محال التصوير يستعدون ويتهيئون للتصوير المصغر، وتجد الطلاب يوزعون أوراق الغش "براشيم انتحار الخلق" على أجزاء ملابسهم، ومن كثرة هذه الأوراق يصنعون لها فهرسا يرسم خط سير الأوراق في الملابس والجسد. ويصير هذا الفهرس أهم ورقة، ويعمل الطالب على حمايته من الوقوع في يد العدو أي ملاحظ الاختبار.
هذا يحدث خارج اللجان التي يجري فيها الاختبار، فماذا يحدث داخلها؟
يخبر المراقب المختبرين أنه سيتركهم يفعلون ما يشاءون مقابل أن ينتهوا سريعا حتى ينصرف مبكرا، ويكون الانضباط نتيجة عدم التزام المختبرين بذلك بطول مكثهم.
وقد حدث أن هدد رئيس دور مدرسة مادة بأنه لن يدخل ملاحظين ما لم تكتب له حل الاختبار حتى تجري عملية الغش في مجراها الطبيعي.
يعلم الجميع ذلك، ويسكت الجميع على ذلك وكأن هناك اتفاقا صامتا على ذلك.
لماذا؟
حتى تحقق المدرسة نسبة نجاح عالية، وحتى تحقق الإدارة نسبة تفوق، وحتى ... وحتى ... إلخ!
(2)
هذا يحدث مع التلاميذ الصغار والطلاب الكبار، ويحدث أيضا مع المعلمين عندما يمرون بتجربة الاختبارات. وهذا قمة المأساة، وهذا ما يجعل مجتمع التعليم مجتمعا فاسدا من مفرق شعره حتى أخمص قدميه.
كيف؟
عندما ألزمت وزارة التربية والتعليم المعلمين غير المؤهلين تربويا بالحصول على الدبلوم التربوي التحق آلاف المعلمين باختلاف ألقابهم الفنية والإدارية بكليات التربية، وفي الاختبارات تجدهم يمارسون الأفعال ذاتها التي قد ينكرونها على طلابهم عندما يراقبونهم في الاختبارات في مختلف المراحل التعليمية.
تجد الغش في اختبارات المعلمين صار مكونا من مكونات المعلمين، لا ينكر أحد على أحد، بل زادوا درجة في السوء؛ إذ رأوا ذلك من حقهم؛ لأن الدولة ألزمتهم بهذا بعد أن عملوا سنوات طوال في المهنة، ولا أدري العلاقة بين هذا الفهم وهذا الخراب الخلقي!
وليت شعري، كيف سيوجهون تلاميذهم وطلابهم عندما يعودون إلى عملهم؟ ألن يصيبهم الحياء؟ ألن يروا أنفسهم وهم يمارسون ما ينكرونه؟ وألن يجعلهم ذلك يزيدون السوء سوءا؟
ولم يكن الدبلوم التربوي العامك هو المظهر الوحيد في غش المعلمين؟
كيف؟
عندما استحدثت وزارة التربية والتعليم نظام الكادر التعليمي، وجعلته مقياسا لترقي المعلمين ماديا صار الغش مكونا من مكونات اختباراته.
وليست الاختبارات الميدان الوحيد لغش القائمين على التعليم باختلاف درجاتهم الفنية والإدارية.
كيف؟
استحدثت الوزارة تقديم البحوث وجعلت ذلك من أساليب الترقية في الوظائف التعليمية من موجه أو مدير أو .. إلخ. فهل يلتزم المعلم ومن فوقه بذلك، ويصنع بحثه حتى يحصل على ترقيته بجهده؟
لا.
كيف؟
يذهب المعلم مهما كان لقبه الإداري إلى مقهى للإنترنت، ويطلب منه بحثا عن الموضوع؛ ليقدمه، ثم يصوره الآخرون. وهذا الفعل يمارسه التلاميذ والطلاب الصغار والكبار على السواء.
(3)
وهل يقتصر ذلك على تعليم وزارة التربية والتعليم؟
لا.
كيف؟
إن الأزهر الذي دخله الدبلوم التربوي من معلميه وشيوخ معاهده اتسمت اختباراته أيضا بالغش الذي اتخذ سمة الأصل؛ إذ رآه المختبَرون حقا لهم كما حكى لي زميل كان يحصل على الدبلوم التربوي من إحدى فروع كلية التربية التابعة لجامعة الأزهر.
وفعل المعلمين والشيوخ فعل التلاميذ الذين صاروا يستبيحون الغش في القرآن الكريم!
(3)
إلام يشير السابق الذي يعمله الجميع؟
إنه يشير إلى أن أمل نهوض مصر أمل بعيد.
لماذا؟
لأن التعليم المنوط به الدفع بمن ينهضون بالوطن حاله هكذا، فهل ينتظر من هؤلاء خيرا؟
ولن أذكر حديثا ولا آية؛ فالغش تنكره الفطر السوية أيا كان دينها، وينكره احترام الإنسان ذاته إذا كان محترما- إنما سأدعو الله تعالى – حتى لا أكون مُيئسا- أن يرزق مصر ثورة أخلاقية تقضي على هذه الصناعة السرطانية الذميمة القبيحة التي لا تجعل مجتمعا تتفشى فيه إلا منحطا متأخرا متخلفا!