من أندر المكتبات الخاصة بالعالم الإسلاميمن أندرِ المكتباتِ الخاصةِ في العالمِ الإسلامي، مكتبةُ الشيخِ عبدِالحي الكتاني، التي حوَت جميعَ المعاني، ولم يكن لها في عصرها ثان.
الخزانةُ الكتانيَّة
مكتبتهُ من النوادر بلا نزاع، وذكرها في الأرضِ قد ذاع وشاع.
عَشِقَ جمعَ الكتاب؛ فجمعَ العجَبَ العُجاب، ولم يكن مجردَ جامع! بل كان بالاطلاع واسعاً.
وقبلَ البدايةِ عن الحديثِ عنها أذكرُ نبذةً مختصرةً عن صاحبها.
هو شيخ شيوخنا العلاَّمة الكبير والمسند الشهير المحدِّث الحافظ السيد محمد عبدالحي بن عبدالكبير الكَتّاني الحسني الفاسي، ولدَ بفاس سنة 1302هـ ونشأ نشأةً علمية؛ فقد تلقى العلم عن عدد من العلماء، منهم والده، وأخوه السيد محمد، وخاله السيد جعفر بن إدريس الكتاني، وابن خاله السيد محمد بن جعفر الكتاني، والشيخ أحمد ابن الخياط، وغيرهم.
رحلَ في طلبِ العلم ولقاء الشيوخ والمسندين إلى عدَّة بلدان، منها: الحجاز ومصر والشام وتونس والقدس، وروى عن أكثر من خمسمائة نفس، وله ما يزيد على ثلاثمائة مؤلَّف.
وتوفي بفرنسا سنة 1382هـ.
مكتبته
يصفها لنا نجلهُ الأديب السيد أبو بكر (1) فيقول: (جمعَ مكتبةً سرت بحديثها الركبان من أقاصي الشرق إلى أقاصي الغرب بهمتهِ العالية وولوعه العجيب في هذا الباب). ثم قال: (وحازت مكتبته أكبر شهرة في العالم الإسلامي والغربي واحتاج إليها العلماء والأدباء ورجال الدولة).
ويقول المؤرخ العلاّمة خير الدين الزركلي (2): (كان جمَّاعةً للكتبِ، ذخرت خزانته بالنفائس، وضُمَّت بعد سنوات من استقلال المغرب إلى خزانة الكتب العامة في الرباط؛ فرأيتُ على كثيرٍ منها تعليقات بخطه في ترجمة بعض مصنفيها أو التنبيه على فوائد فيها).
قلتُ: مثالُ ذلكَ ما وقفتُ عليه من كتبه المحفوظة اليوم بالخزانة الملكية بالرباط كتاب (الدر الثمين في أسماء المصنِّفين) فكتبَ عليه: (هذا كتاب الدر الثمين في أسماء المصنفين للإمام المحدث المؤرخ البارع تاج الدين أبي طالب علي بن أنجب البغدادي المعروف بابن الساعاتي، خازن الكتب للمستنصر العباسي ببغداد المتوفى 674 وهو كتاب عظيم في ستة مجلدات نادر الوجود لا أعلم أنه يوجد الآن في مكتبة لا في الشرق ولا في الغرب. ظفرتُ بهذا المجلد منه في تونس عام 1340 كتبه مالكه: محمد عبدالحي الكتاني الحسني حمد مولاه مسعاه آمين).
وقال العلاَّمة السيد إدريس القيطوني (3): (جمعَ مكتبةً عظيمةً كمَّاً وكيفاً فيها من نوادر المخطوطات ما يعجز فرد عن جمعه ولا تكاد تجد كتاباً فيها على كثرةِ ما فيها لم يطالعه ويُعلق عليه بخطه).
وقال لي شيخنا الأديب عبدالواحد الخريف: (زرتُ السيد الكتاني ورأيتُ مكتبته كأنها مكتبة الدولة في الطول والارتفاع).
ويتحدث العلاَّمة الأستاذ محمود محمد شاكر (4) عن همة السيد عبدالحي بقوله: (أُتيح له أن يجمع مكتبة في داره بفاس تُعدُّ من أغنى المكتبات الخاصَّة وأنفسها في العالم العربي كله، فيها من النفائس والنوادر والغرائب ما لا يوجد في غيرها. وهو لا يكاد يسمع بكتابٍ نادر ٍحتى يسارع إلى استنساخهِ أو تصويره بالفوتوغراف. وها هو قد نزلَ مصر فجمع من شوارد المخطوطات ونوادرها أشياء كانت بين سمع دور كتبنا وبصرها، ثم غفلت عنها).
ويتحدث المؤرخ الشيخ محمد راغب الطباخ في مقاله المنشور بمجلة (الاعتصام) الحلبية عن همة السيد عبدالحي وشغفه بالكتب وجمعها حينما لقيه بطرابلس الشام بقوله: (وهناك أطلعني سيدي الشيخ على ما ابتاعه من المخطوطات النادرة من مصر والحجاز وما أُخذ له من الكتب النفيسة بالمصوَّر الشمسي (الفوتوغراف)، ومن جملتها: كتاب للحافظ السخاوي في ثلاثة مجلدات (5) فيه ترجمة شيخه الحافظ ابن حجر ومشيخته لا غير).
ثم قال: وهنا تجلَّى لي شغفُهُ العظيم بالكتب وغرامه بها وسعيه الحثيث لاقتناء النفائس منها بالاستنساخ والابتياع).
قلتُ: وقد حدثني نجله شيخنا عبدالرحمن الكتاني قال: (كان في مكتبة والدي قسمٌ خاص للمصورات، وصوَّر عدداً كبيراً من دار الكتب المصرية).
فلذا كان لهذه المكتبة أهمية خاصة في المغرب العربي يعبر عن ذلك ما قاله أحد المختصين في علم الوراقة مجيزنا العلامة الموسوعي محمد المنوني(6): (انفرد في الشمال الإفريقي بحس وراقي خاص، أكسبه معرفة واسعة بخطوط العلماء، أندلسيين ومغاربيين ومشارقة، مؤلفين وسواهم، قدماء ومحدثين، لا يجارى في ذلك بين أهل عصره، ومؤلفاته وكتبه شاهدانِ ببعض ذلك).
وكذلك قول الدكتور محمود الطناحي في مقاله (قضية التواصل بين المشرق والمغرب): (كان هذا الرجل شغوفاً بالكتب مُولَعاً بجمعها، مع علمٍ غزير واطلاع واسع، وقد وقف حياته على الكتب، ونذر نفسه للعلم).
وقوله في كتابه (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي) ص 343: (كان كثير الرحلة، جمَّاعاً للمخطوطات، عارفاً بنوادرها).
وقال الأستاذ محمد حجي (7) في تقديمه لفهرس مخطوطات الخزانة الكتانيَّة الذي صنعه العلاَّمة محمد المنوني رحمه الله: (تتناول مخطوطات الخزانة الكتانيَّة مختلف الموضوعات التي عرفها المسلمون كعلوم القرآن والحديث والتوحيد والفقه واللغة والنحو والسير والتاريخ والمنطق والحساب والفلك والتنجيم وما إلى ذلك، ويغلب عليها طابع الحديث والسير والتراجم نظراً لتخصص صاحبها وتأليفه في هذه الفنون. وإذا كان الفقه المالكي هو الغالب فيها فإن هناك مؤلفات غير قليلة في فقه المذاهب الأخرى، خاصَّة الشافعي والحنفي، وتتنوع خطوطها من مغاربية حضرية وبدوية إلى أندلسية ومشرقية، بعضها في غايةِ الجمالِ والأناقةِ والزخرفةِ).
ويكملُ الأستاذ محمد حجي حديثه فيقول: (ومن نوادر مخطوطات الخزانة الكتانية: مؤلفات أصلية كُتبت على رق الغزال في القرنين الرابع والخامس، منها جزء من تاريخ أبي بكر أحمد بن زهير بن حرب انتُسخ عام 322هـ، وأواخر كتاب في الفقه كُتبَ عام 384هـ، وخمسة كُتب كانت في حوزة ثاني ملوك المرابطين أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين..).
وقال الأستاذ عبدالله الجراري (8): (وخزانته الكتانيَّة تُعدُّ الأولى من نوعها، وقد تولت الدولة المغربية أمرها بعدَ الاستقلال فنقلتها إلى الخزانة العامة بالرباط، وجعلت لها جناحاً خاصاً هناك).
وحدثني شيخنا العلاَّمة محمد بو خبزة صباح يوم 11-6-1428هـ بمصيف تمرنوت بتطوان قال: (كانت مكتبة السيد عبدالحي الكتاني على قسمين قسم عام فيه جميع الكتب، وقسم خاص وتكون في حقائب كبيرة تحت مكتبه لا أحد يعرفها، وإذا غادر فاس ينقل هذه الحقائب معه، وفيها نوادر الكتب التي لا يوجد منها إلاَّ نسخة واحدة، وكذلك الوثائق المهمة)،
ثم سألته عن مصيرِ مكتبته؟
فقال: (نُهبت في أولِ الأمر ثم انتقلت إلى الرباط، وبالنسبة للكتب التي كان يصطحبها معه في السفر فقد قام ورثته بتقديمها للملك، فبعث الملك إلى فرنسا وجاء بها إلى المغرب، فلما وصلت اتصلَ بي الدكتور عبدالوهاب بن منصور، وطلبَ مني أن نتعاون معاً في فهرستها ويكون ذلك بمراكش بالقصر الملكي، فرفضتُ رغم المميزات التي قُدِّمت لي، ثم ندمتُ ولات حين مناص).
****
(1) فهرس الفهارس 1-20
(2) الأعلام 6-188
(3) معجم المطبوعات المغربية 302
(4) جمهرة مقالات محمود شاكر 3-632
(5) اسمه (الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر) طبع سنة 1419هـ عن دار ابن حزم في ثلاثة مجلدات بتحقيق الأستاذ إبراهيم باجس عبدالمجيد.
(6) تاريخ الوراقة المغربية (ص 317).
(7) فهرس المخطوطات العربية المحفوظة بالخزانة العامة بالرباط الخزانة الكتانية - ص 7.
(8) التأليف ونهضته بالمغرب في القرن العشرين 164.
--------------------
نواف بن محمد بن عبدالله آل رشيد
Alrasheed_777@hotmail.com
نشر في جريدة الجزيرة السعودية
الأحد 12 محرم 1429هـ
العدد 12897
http://www.al-jazirah.com/125189/wo1d.htm