--------------------------------------------------------------------------------
قال سماحة الشيخ الفقيه المحدث والعلم الشامخ أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله
هذه مسألة عظيمة ، ولها شأن خطير ، فسب الدين من أعظم الكبائر والنواقض للإسلام ، فإن سب الدين ردةعند جميع العلماء ، وهو شر من الاستهزاء ، قال الله تعالى ( قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )
وكانت الجارية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تسب النبي صلى الله عليه وسلم فقتلها سيدها لما لم تتب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ألا أشهدوا أن دمها هدر )
فسب الدين يوجب الردة عن الإسلام ، وسب الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك يوجب الردة عن الإسلام ، ويكون صاحبه مهدر الدم ، وماله لبيت المال ، لكونه مرتدا أتى بناقض من نواقض الإسلام ، لكن إذا كان عن شدة غضب واختلال عقل ، فله حكم آخر .
والغضب عند أهل العلم له ثلاث مراتب :
المرتبة الأولى : أن يشتد غضبه حتى يفقد عقله ، وحتى لا يبقى معه تمييز من شدة الغضب ، فهذا حكمه حكم المجانين والمعاتيه ( جمع معتوه ) لا يترتب على كلامه حكم ، لا طلاقه ولا سبه ولا غير ذلك ، ويكون كالمجنون لا يترتب عليه حكم .
المرتبة الثانية : دون ذلك ، أن يشتد معه الغضب ، ويغلب عليه الغضب جدا حتى يغير فكره ، وحتى لا يضبط نفسه ويستولي عليه استيلاء كاملا حتى يصير كالمكره والمدفوع الذي لا يستطيع التخلص مما في نفسه ، لكنه دون الأول ، فلم يزل شعوره بالكلية ، ولم يفقد عقله بالكلية ، لكن معه شدة غضب بأسباب المسابة والمخاصمة والنزاع بينه وبين بعض الناس كأهله ، أو زوجته أو ابنه أو أميره أو غير ذلك .
فهذا اختلف فيه العلماء فمنهم من قال حكمه حكم الصاحي وحكم العاقل فتنفذ فيه الأحكام فيقع طلاقه ويرتد بسبه الدين ويحكم بقتله وردته ويفرق بينه وبين زوجته .
ومنهم من قال يلحق بالأول الذي فقد عقله لأنه أقرب إليه ، ولأن مثله مدفوع مكره إلى النطق ، لا يستطيع التخلص من ذلك لشدة الغضب ، وهذا قول أظهر وأقرب ، وأن حكمه حكم من فقد عقله في هذا المعنى ، أي في عدم وقوع طلاقه وفي عدم ردته ، لأنه يشبه فاقد الشعور بسبب شدة غضبه واستيلاء سلطان الغضب عليه حتى لم يتمكن من التخلص من ذلك .
واحتجوا على هذا بقصة موسى عليه الصلاة والسلام فإنه لما وجد قومه على عبادة العجل اشتد غضبه عليهم ، وجاء وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه من شدة الغضب ، فلم يؤاخذه الله لا بإلقاء الألواح ولا يجر أخيه هارون وهو نبي مثله ، ولو ألقاها تهاونا بها وهو يعقل لكان هذا عظيما ، ولو جر إنسان النبي بلحيته أو رأسه وآذاه لصار هذا كفرا .
لكن موسى في شدة الغضب العظيم لله عز وجل على ما جرى من قومه سامحه الله ولم يؤاخذه بإلقاء الألواح ولا بجر أخيه .
هذه من حجج الذين قالوا إن طلاق هذا الذي اشتد به الغضب لا يقع ، وهكذا سبه لا يقع به ردة ، وهو قول قوي وظاهر ، وله حجج أخرى كثيرة بسطها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والعلامة ابن القيم ، واختارا هذا القول .
وهذا القول أرجح عندي وهو الذي أفتي به ، لأن من اشتد غضبه ينغلق عليه قصده ويشبه المجنون بتصرفاته وكلامه القبيح فهو أقرب إلى المجنون والمعتوه منه إلى العاقل السليم ، وهذا قول أظهر وأقوى .
ولكن لا مانع من كونه يؤدب بعض الأدب إذا فعل شيئا من أسباب الردة أو من وجوه الردة ، وذلك من باب الحيطة ومن باب الحذر من التساهل بهذا الأمر أو وقوعه منه مرة أخرى إذا أدب بالضرب أو بالسجن أو نحو ذلك ، وهذا قد يكون فيه مصلحة كبيرة لكن لا يحكم عليه بحكم المرتدين من أجل ما أصابه من شدة الغضب التي تشبه حال المجنون والله المستعان .
المرتبة الثالثة فهو الغضب العادي الذي لا يزول معه العقل ولا يكون معه شدة تضيق عليه الخناق وتفقده ضبط نفسه ، بل هو دون ذلك ، غضب عادي يتكذر ويغضب ولكنه سليم العقل سليم التصرف .
فهذا عند أهل العلم تقع تصرفاته ، ويقع بيعه وشراؤه وطلاقه وغير ذلك لأن غضبه خفيف لا يغير عليه قصده ولا قلبه . والله أعلم