التعريف بــــــــــكتاب :"مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين"
يفتح الكتاب الجماعي "مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين" نقاشا جادا بين مختلف المقاربات المتفاعلة مع قضايا الدولة في المجال العربي والإسلامي، محاولا إثارة القضايا المفصلية والخلافية في الإشكالات التي تكتنفها، واستعراض مختلف وجهات النظر حولها، والتي تجعل منها المعبود الحقيقي للمجتمع بالنسبة للقوميين أو دولة الخلاص واستعادة الإسلام وحماية الشريعة عند الإسلاميين أو دولة الديمقراطية والحريات الفردية عند الليبراليين. ومن ثم، يعد هذا العمل محاولة لتشخيص مأزق الدولة في العالم العربي من منظورات فكرية مختلفة ومتعددة يجمعها الهم النقدي ونشدان الدولة التي تحقق المصالح وتحفظ الحقوق.
ينقسم هذا الكتاب إلى ثلاثة فصول: يعالج الفصل الأول معضلة المفهوم والتطبيق من خلال ثلاث دراسات مميزة لكل من برهان غليون وطارق البشري وهاني فحص. إذ يؤكد هذا الفصل على التعقيدات التي تكتنف مصطلح الدولة سواء على مستوى المفهوم أم على مستوى الكيانات القائمة، ليخلص إلى أن جزء مهم من الصراع الدائر حول الدولة في الفكر العربي يرجع إلى غموض مفهوم الدولة ذاته وتشوشه في الوعي العربي العام؛ فثمة اتفاق على أن الدولة هي آلية لتنظيم الشؤون الاجتماعية المشتركة، كما تعد التعبير عن نجاح المجتمع في الوصول إلى توافقات وبناء مؤسسات تعكس تجاوز تجربة العنف وتضمن استمرار السلام، ومن ثم الاستقرار والتعايش المديد بين السكان؛ فكل دولة هي مشروع بناء أمة أو مجتمع متفاهم مع نفسه ومع السلطة المركزية التي يخضع لها طواعية، وتقوم بمهام تنظيم شؤونه وإدارة مصالحه بتعبير برهان غليون، فهي تعبير عن جماعة وأداة للحكم بين الناس، فالدولة ممثلة للجماعة الوطنية، ترعى الشأن العام للمواطن والشعب، أما نظامها السياسي والاقتصادي «فنظام قانوني يناط به الفصل بين الناس بالعدل وإدارة دولاب الحكم» بتعبير طارق البشري.
ويشير غليون إلى أننا نخلط غالبا ـ في تصوراتنا المبسطة ـ بين الدولة بالمعنى الذي كان سائدا في التاريخ القديم (كالدولة والممالك القديمة) والذي ساد في القرون الوسطى، وأطلقت عليه الأدبيات التاريخية اسم "الإمبراطور" أو "الخلافة" أو "السلطة"، وبين الذي تسميه الأدبيات الحديثة ب"الدولة" وتعني به الدولة-الأمة؛ أي نموذجاً خاصاً من الدول لا تستكمل شروط وجود سلطة مركزية سيدة تخضع جماعة من الناس لسلطتها بأي وسيلة كانت وعلى رقعة محددة من الأرض، وإنما نوع من الإدارة السياسية المركزية المرتبطة بمشاركة المجتمع نفسه وتحت إشرافه وسيطرته الدائمة، وهذا ما يفسر نزوع هذا الصنف من الدول إلى تثمين الأصول الإجرائية الديمقراطية، بل والتماهي معها.
إن دراسة غليون تمكننا من فهم أعمق لأساس المعضلة ومظاهرها المتعددة، حيث يرى أن الخروج من الطريق المسدود الذي أوصلنا إليه الصراع على الدولة لن يكون إلا بالانتقال من النقاش في الدولة الإسلامية أو الديمقراطية إلى النقاش في المجتمع السياسي الذي نريد إقامته. وعليه فإن الدولة الإسلامية مفهوم يمكن أن يستقيم إذا كانت الجماعة السياسية التي نريد تكوينها ونعتقد بصلاحها هي جماعة إسلامية، في حين أن الأمر سيتغير إذا كانت الجماعة السياسية التي نريد تكوينها أو ندافع عن فكرة تكوينها، جماعة سياسية من النوع الوطني/ المواطني.
كما يُقرُّ هاني فحص بأن شكل الدولة وطريقة بناءها ليس شأنَ الدين، لا الإسلام ولا غيره، فلا توجد وصفة دينية ملزمة للدولة، وإنما شأن الدين – بما هو معرفة وسلوك وثقافة وقيم وعلائق وتقوى – هو أداء الدولة، أي عدالتها. فتكون الدولة ضرورة اجتماع، يقتضيها الاجتماع ويبنيها، لا تبنيه، وإن كانت بعد أن يؤسسها تعود لتسهم في إعادة بنائه وتجديده، يجددها ويتجدد بها، وتجدده وتتجدد به. أما الضرورة في قواعد السلوك إنما تقدر بظروفها ومقاديرها، فإذا كانت الظروف متغيرة، أي تغيّر وعي الاجتماع لذاته وعلائقه، وتغير وعي الفرد لموقعه في المجتمع ومسئولياته وحقوقه وواجباته، وتبعًا لذلك تتغير الأدوار، فلا بد أن تتغير الدولة شكلاً، وأداء، ودورًا، ومصدر شرعية، وآليات تحقيق، طبقًا للتغيرات الحاصلة في بنيان المجتمع.
إذ يسعى هاني فحص إلى القول بنوع من التمييز بين الدين والدولة وليس الفصل، فهو تمييز يحدد ملامح الوظيفة الفقهية حتى لا تختلط بالوظيفة السياسية، كما أنه تمييز يسحب من الفقه أو الفقيه صلاحيات تحديد شكل الدولة أو اقتراح طريقة تشكيلها إلا في حدود كونه شريكا متكافئا مع الآخرين من أهل المعرفة والخبرة.
أما البشري فقد عالج معضلة الدولة القائمة من خلال الدولة المتشخصنة، التي يكون الحاكم فيها وفلسفة الحكم داخلها، لا ترتبط بعائلة قبلية ولا نقابة أو جماعة دينية ولا حزب سياسي أو طبقة اجتماعية، إنما تحضر شخصية الحاكم المسيطر بذاته على مفاتيح السلطة، وتصير آلة الحكم وأجهزته كلها تحت إمرته، ولا يقيده إلا الإمكانات المادية للدولة وأجهزتها في الحركة والنفوذ، وهو يتغلب على ضغط عمال الدولة عليه بأن يشخصن الفئة المحيطة به من العاملين معه بإبقائهم في وظائفهم أطول مدة ممكنة، بحيث تحل العلاقات الشخصية محل علاقات العمل الموضوعية، والمهم أنه لا يقوم من خارج إطار أجهزة الحكم ما يكون ذا تأثير عليه، ولا تقوم آلية ما للتبادل والتأثير معه إذا بقيت خارج إطار السلطة والوظائف الرسمية.
فنحصل على نظام مشخصن ومنغلق، لا ينفتح على خارج ذاته، ولا تقوم آلية ما لإجراء أي تعديل فيه أو تجديد أو تغيير، وأي تعديل أو تنويع فيه إنما يرد بطريقة "الاستنساخ السياسي".
أما الفصل الثاني فقد تضمن الحديث عن أطروحة الدولة الإسلامية من خلال طروحات كل من سعد الدين العثماني، كما حوى تفاعلا معرفيا ونقديا لمحمد نصر عارف من منظور حضاري تركيبي.
يقرر أن التصور الديني التراثي يجعل الدولة واجبا دينيا لإقامة الشريعة وضرورة اجتماعية إنسانية لا بديل عنها في توفير شروط بقاء الجماعة، مشيرا إلى أن الخوارج وحدهم من شذوا عن ذلك وجعلوها ضرورة اجتماعية فقط، لكنه يبرز أن التصور الوسطي الذي عليه جمهور الإسلاميين هو اعتبار السلطة ضرورة اجتماعية وأداة من أدوات الأمة في إقامة عدل الإسلام، وأنها مجرد أداة اجتماعية توظفها الأمة لحراسة الدين والدنيا، ليؤكد ضرورة الدولة الإسلامية مادام الإنسان اجتماعيا بطبعه ومادام الإسلام نظاما شاملا، وهي لا تختلف عن الديمقراطية الحديثة إلا من حيث علوية المبدأ الخلقي في إقامة العدل وفق ما جاءت به الشريعة أو وفق ما لا يخالفها. وقد حاول الغنوشي قياس فكرة الدولة الإسلامية على فكرة الدولة الديمقراطية الحديثة انطلاقا من مفهوم الشرعية محاكيا إياها في رسم مبادئ السلطة والحكم في الإسلام.
إلا إن دولة الإسلام حسب الغنوشي، هي دولة الناس الذين يجتهدون فيصبون ويخطئون عبر الشورى المتخصصة والشورى العامة التي تجعل الحاكم مجرد خادم للشعب ووكيل عنه ويعمل تحت رقابته في إنقاذ حكم الله المتجلي عبر حكم الشعب من خلال حكومة مدنية طريقها الاختيار الشعبي الحر، ويحكمها قانون يتساوى أمامه كل مواطني الدولة بصرف النظر عن جنسهم واعتقادهم، ولا تختلف آليات سيرها عن الديمقراطيات المعاصرة إلا بمرجعيتها الخلقية العلوية مرجعية الشريعة. وما من دولة ديمقراطية أو غير ديمقراطية إلا وتتوفر في أساسها على فلسفات وقيم تمثل الموجهات الكبرى لسياستها.
لقد تناول سعد الدين العثماني مدنية الدولة الإسلامية من خلال بحثه عن انسجام مجتمع الإسلام مع دولة مدنية تنبني فيها الشرعية على إرادة الشعب، وتصدر فيها قوانين من قبل مؤسسات منتخبة وفق مصلحة المجتمع، وهو جهد يطمح من خلاله العثماني إلى تأصيل أفكار الدولة الحديثة من مدخل أصولي يقوم على مبدأ التمييز بين تصرفات الرسول بحسب الوظائف التي اضطلع بها مستدعيا وظيفة الإمامة.
حيث يبرز العثماني أن الصحابة كانوا يميزون بين وظيفته بوصفه مبلغاً للرسالة والوحي، ووظيفته بوصفه قائدا سياسيا وحربيا. وإذا اختلط عليهم الأمر سألوه فبين لهم. وذلك مثل ما تقدم من سؤال الحُباب بن المنذر للرسول عن المكان الذي اختاره في بدر: أهو منزل أنزله الله إياه "أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟"، وسؤال السعدين في غزوة الخندق بقولهم: " يا رسول الله أمرا تحبه فنصنعه أم شيئا أمرك الله لا بد من العمل به أم شيئا تصنعه لنا؟". فتصرفات الرسول بالإمامة ليست ملزمة لأي جهة تشريعية، ولا يجوز الجمود عليها بحجة أنها السنة. وإنما يجب على كل من تولى مسؤولية سياسية أن يتبعه صلى الله عليه وسلم في المنهج الذي هو بناء التصرفات السياسية على ما يحقق المصالح المشروعة. كما لا يجوز لأحد أن ينشئ الأحكام بناء عليها إلا أن يكون في مقام التسيير والتشريع.
إذ يرى العثماني أن التصرفات النبوية بالإمامة هي تصرفات بالسياسة الشرعية، تفتح بابا واسعا لتجديد الفقه السياسي، وإعادة النظر ـ من زاوية جديدة ـ في كثير من قضاياه. كما تمكن من بناء وعي منهجي في مجال السياسة الشرعية، وإشاعته بين المشتغلين بالإحياء الإسلامي نظرا وتطبيقا؛ فالوعي بالتصرفات النبوية بالإمامة يوفر أساسا منهجيا مهما وصلبا للعديد من القضايا المطروحة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر.
كما تبين سمات التصرفات النبوية بالإمامة أن الدولة الإسلامية دولة مدنية، وليست دولة دينية بالمعنى المتعارف عليه في الفكر السياسي الغربي، فطبيعة التصرفات النبوية بالإمامة وسماتها توضح كيف أن الإسلام ينزع كل عصمة أو قداسة عن ممارسات الحكام وقراراتهم، كما ينزعها عن الوسائل التي تتوسل بها الدولة لإدارة شؤون الأمة.
لذلك فإن الدولة في الإسلام لا يمكن أن توصف بأنها دولة دينية لأنه لا توجد دولة دينية دون العصمة أو المعرفة النابعة من عالم الغيب أو من الوحي، وليخلص بأن الدولة في الإسلام دولة دنيوية، قراراتها بشرية، واجبات تبني أقصى درجات الموضوعية والواقعية في تسيير شؤون المجتمع، كما أن الحاكم في الإسلام، لا يستمد مشروعيته من قوة غيبية، بل هو فرد عادي يستمد ولايته من الأمة التي اختارته وكيلا عنها بمحض إرادتها وهو مسؤول أمامها في الدنيا، فضلا عن مسؤوليته أمام الله يوم القيامة.
لكن نصر عارف يسلط سهام النقد على الكتابات الحديثة في النظام السياسي الإسلامي، وفي الفكر السياسي الإسلامي التي تستبطن النموذج المعرفي الغربي في علم السياسة محاولة التفكير من خلال مسلماته وتحيزاته ونماذجه الحاكمة، لتنسج على منواله تصورا سياسيا للدولة؛ ويتطرق من خلال بحثه إلى غياب نظام سياسي إسلامي واحد محدد المعالم والخصائص والمكونات مؤكدا أن هناك منظومة معرفية إسلامية تعالج الشأن السياسي وتحدد أسسه ومنطلقاته ومقوماته ومقاصده؛ وعن هذه المنظومة تنبثق نظم سياسية متعددة الأشكال والآليات والوسائل، ليسعى في الأخير لتقديم أسس نظرية عامة لملامح النظم السياسية الإسلامية تركز على أدوار المجتمع وتهمش دور الدولة، مستندا إلى أن النموذج النبوي يشهد على أسبقية المجتمع على الدولة في الأهمية والاهتمام.
وفي الفصل الثالث والأخير انصب النقاش على الإشكالات المفصلية التي يثيرها مفهوم الدولة الإسلامية، وعلاقة الدولة بالدين بدءا من التراث السياسي الإسلامي مرورا بالحركة الإسلامية وصولا إلى تقديم رؤى نقدية في أطروحة الدولة الإسلامية؛ حيث توزع في أربع دراسات لكل من رضوان السيد وأنور أبو طه وعبد الرحمن الحاج ومعتز الخطيب.
فقد استعرض رضوان السيد التجربة التاريخية للدولة الإسلامية بعد زمن النبوة، محللا تعريف الإمامة لدى الماوردي وغيره، ونصوص وتصورات الفقهاء حول مفاهيم الخلافة والإمامة ومستجدات الدولة السلطانية وتفاعلاتها الفكرية مع ظهور الآداب السلطانية وجدل الشرعية وما أثارته التجربة التاريخية السياسية وتطوراتها المتلاحقة من متغيرات جعلت العقل الفقهي يتفاعل معها مضطرا إلى شرعنة إمارة الاستيلاء وسلطنة التغلب حفظا للوحدة ودرءا للانقسام.
في حين ركز أنور أبو طه في دراسته على تصورات للدولة، إذ يرى أن ولادة هذه الجماعة كان مبعث ظهورها كرد فعل على غياب النظام السياسي الإسلامي مع سقوط الخلافة وبروز الفكر التغريبي، مما جعلها تتجه نحو الدفاع والكفاح عن الإسلام والفكر الإسلامي منطلقة من شمولية النظام الإسلامي، فتتم مركزة المسألة السياسية لدى هذه الحركة الإسلامية وبروز نزعة التسييس وإعلاء الشأن السياسي العملي في عموم التيارات الإسلامية حسب صاحب الدراسة.
كما يقدم عبد الرحمن الحاج قراءة تاريخية في الفكر السياسي الإسلامي تتأمل تحولات الوعي بمفهوم الدولة وترصد تأثير التراث السياسي الفقهي والتاريخي عليه، مفككا مفهوم الدولة الإسلامية ومعتبرا إياه ذي طابع ملفق وهجين يختزن مضمونا نضاليا وكفاحيا لاستعادة الإسلام من خلال استعادة الخلافة، مشيرا إلى أن ظلال الخلافة لم تفارق تصورات مفهوم الدولة الإسلامية حيث ظلّ لاهوت الخلافة كامنا فيها ومؤطرا لخلفيتها.
وختم الفصل ببحث معتز الخطيب الذي حاول توضيح الفرق بين شمولية الإسلام ووظيفة الفقه والفقهاء، وأبرز التمايز الحاصل بين الفقه والسياسة، مشيرا إلى أن متغيرات الواقع السياسي ساهمت في اضطراب وظائف الفتوى ومجالاتها وحدودها فلم يتم الانتباه إلى أن شمولية الإسلام لا تعني شمولية الفقيه في ذاته، بحيث يصبح المتحكم الوحيد في المجال العام. كما جرى دمج آخر بين الإسلام بوصفه نظاما شاملا وبين الإسلام السياسي، فلا أحد ينكر اشتمال الشريعة على مسائل السياسة لكن الجديد هو من يمارس السلطة ويقوم على تطبيق تصوراتها، وهنا حدث الكثير من التوتر والتشويش منذ تكون الدولة الوطنية الحديثة وتفاقم الصراع على السلطة والمرجعيات.
http://nama-center.com/WriterCV.aspx?Writer=53