حكم نقل الأعضاء من المحكوم عليه بالقتلالحمد لله الذي أكمل ديننا، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام ديناً، وصلاة الله وسلامه على سيدنا ونبينا محمد الذي هدانا إلى الحق المبين، والصراط المستقيم، وأبلغنا شريعة رب العالمين، بيضاء نقية، واضحة قوية، مبرأة من الزيف والنقص والعيب، هداية للضالين، ورحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
*الدكتور عبود بن علي بن درع
المقدمة
فقد امتازت شريعتنا الإسلامية بوضعها الحلول الناجحة لكل معضلة تواجه بني الإنسان، فقد بين الله في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - جميع ما أمر به، وجميع ما نهى عنه، وجميع ما أحله، وجميع ما حرمه، فما من نازلة ولا واقعة إلا وحكمها في كتاب الله، أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فالواجب على أهل العلم استفراغ الوسع في فهم كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد بذل فقهاء الإسلام جزاهم الله خيراً جهوداً جبارة في هذا المجال، فخلفوا لنا ثروة فقهية امتازت بأصالة مبادئها وقدرتها على احتواء حاجات الناس في مختلف عصورهم وبيئاتهم، لما بنيت عليه قواعدها العامة من فكرة المصلحة والعدل.
ومن أبرز سمات الفقه الإسلامي قدرته على مسايرة التطور، واستيعاب تقلبات الحياة وتشعباتها وتجددها، فهو – ولله الحمد- فقه محيط بأحكام الحوادث والنوازل على اختلافها.
وفي حياة الناس اليوم مسائل كثيرة، ومعاملات عديدة تحتاج إلى بحث ودراسة، ومن هذه المسائل والنوازل مسألة نقل الأعضاء من المحكوم عليه بالقتل، وكان من أبرز الأسباب أهميته في حياة الناس، وتأتي هذه الأهمية من كونه يتناول أمراً يقع في حياة الناس ويحتاج لبيان الحكم الشرعي.
لذا رأيت أن الحاجة قائمة لبحث هذا الموضوع واستقصاء ما قيل فيه مع أن آراء العلماء .
ولما جمعت ما تيسر فيه رأيت أن يكون البحث مقسماً إلى مقدمة، ومبحثين وخاتمة.
المبحث الأول
استخدام ميتة الإنسان
لما كانت الميتة تارة تكون ميتة حيوان يحل أكله أو لا يحل أكله، وتارة تكون ميتة إنسان، فإنه من المتفق عليه أنه إذا توافرت هذه الأنواع من الميتة جميعها فإنه يبدأ بالانتفاع بميتة الحيوان الذي يحل أكله، ويأتي بعد الحيوان الذي لا يحل أكله وأخيراً ميتة الإنسان[1].
وسوف نبين حكم الانتفاع بميتة الإنسان في ضوء آراء الفقهاء في حالة الاضطرار.
قالت الحنفية في الأشباه لابن نجيم[2] : « ولا يأكل المضطر طعام مضطر آخر ولا شيئاً من بدنه» .
وقال ابن عابدين[3]: « الأكل للغذاء والشرب للعطش ولو من حرام أو ميتة أو مال غيره وإن ضمنه فرض يثاب عليه ولكن مقدار ما يدفع الهلاك عن نفسه، ومأجور عليه، وهو مقدار ما يتمكن به من الصلاة قائماً، ومن صومه...».
ثم علق على قوله : « ولو من حرام » بقوله: « ولو خاف الهلاك عطشاً وعنده خمر له شربه قدر ما يدفع العطش إن علم أنه يدفعه بزازية ويقدم الخمر على البول تاترخانية ثم علق على قوله: « وإن ضمنه « بقوله: لأن الإباحة للاضطرار لا تنافي الضمان، وفي البزازية خاف الموت جوعاً، ومع رفيقه طعام أخذ بالقيمة منه قدر ما يسد جوعه، وكذا يأخذ قدر ما يدفع العطش فإن امتنع قاتله بلا سلاح، فإن خاف الرفيق والموت جوعاً أو عطشاً ترك له البعض، وإن قال له آخر: اقطع يدي وكلها، لا يحل، لأن جسم الإنسان لا يباح في الاضطرار لكرامته...».
وقال الكاساني[4] : « ولو سقط سنه يكره أن يأخذ سن ميت فيشدها مكان الأولى بالإجماع، وكذا يكره أن يعيد تلك السن الساقطة مكانها عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ، ولكن يأخذ سن شاة ذكية فيشدها مكانها.
وقال أبو يوسف رحمه الله لا بأس بسنه، ويكره سن غيره، قال: ولا يشبه سنه سن ميت. استحسن ذلك، وبينهما عندي فصل، ولكن لم يحضرني ووجه الفصل من وجهين:
أحدهما: أن سن نفسه جزء منفصل للحال عنه لكنه يحتمل أن يصير متصلاً في الثاني، بأن يلتئم فيلتئم بنفسه فيعود إلى حالته الأولى، وإعادة جزء منفصل إلى مكانه ليلتئم جائز، كما إذا قطع شيء من عضوه فأعاده إلى مكانه، فأما نفس غيره فلا يحتمل ذلك.
الثاني: أن استعمال جزء منفصل عن غيره من بني آدم إهانة بذلك الغير، والآدمي بجميع أجزائه يكرم ولا إهانة في استعمال جزء نفسه في الإعادة إلى مكانه.
وجه قولهما: إن السن من الآدمي جزء منه إذا انفصل استحق الدفن ككله، والإعادة صرف له عن جهة الاستحقاق فلا تجوز . وهذا لا يوجب الفصل بين سنه وسن غيره".
وقالت المالكية[5]:
« وأما الآدمي فلا يجوز تناوله ...» أي سواء كان حياً أو ميتاً، ولو مات المضطر، هذا هو المنصوص لأهل المذهب، وتقدم آخر الجنائز أن بعضهم صحح أكله للمضطر إذا كان ميتاً، ولا فرق بين المسلم والكافر فيما ذكر، والنص المعول عليه « عدم جواز أكله» أي أكل الآدمي الميت، ولو كان كافراً « المضطر» ولو مسلماً لم يجد غيره، إذ لا تنتهك حرمة آدمي لآخر... « وصحح أكله » أي صحح ابن عبد السلام القول بجواز أكله للمضطر، و« لم يجد غيره » بقوله: هذا محل الخلاف أما لو وجد غيره فلا يجوز أكله قولاً واحداً ».
وقالت الشافعية[6]: « وله أي للمضطر أكل آدمي ميت» إذا لم يجد ميتة غيره..، لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، ويستثنى من ذلك ما إذا كان الميت نبياً فإنه لا يجوز الأكل منه جزماً – كما قاله إبراهيم المروزي وأقره، وما إذا كان الميت مسلماً والمضطر كافراً، فإنه لا يجوز الأكل منه لشرف الإسلام، بل لنا وجه أنه لا يجوز أكل الميت المسلم. ولو كان المضطر مسلماً».
وقالت الحنابلة[7]: وإن وجده – أي مباح الدم كالحربي والمرتد – ميتاً أبيح أكله، لأن أكله مباح بعد قتله، فكذلك بعد موته معللاً ذلك بأنه لا حرمة، فهو بمنزلة السباع» ، وإن وجد معصوماً ميتاً لم يبح أكله في قول أصحابنا.
وقال الشافعي وبعض الحنفية يباح، وهو أولى، لأن حرمة الحي أعظم، وقال أبوبكر بن داود: أباح الشافعي أكل لحوم الأنبياء.
واحتج أصحابنا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - « كسر عظم الميت ككسر عظم الحي» .
واختار أبو الخطاب أن له أكله، وقال لا حجة في الحديث ههنا، لأن الأكل من اللحم لا من العظم، والمراد بالحديث التشبيه في أصل الحرمة لا في مقدارها بدليل اختلافهما في الضمان والقصاص، ووجوب صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت» .
فالراجح في مذهب الحنابلة هو جواز أكل المضطر من لحم الميت المعصوم، ويجوز بالاتفاق الأكل من غير المعصوم عندهم».
وقال الإمام القرطبي عن تفسير قوله تعالى : فمن اضطر غير باغ ولا عاد[8] .. « ثم إذا وجد المضطر ميتة وخنزيراً ولحم ابن آدم أكل الميتة لأنها حلال في حال، والخنزير وابن آدم لا يحل بحال، والتحريم المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل، كما لو أكره أن يطأ أخته أو أجنبية، وطئ الأجنبية لأنها تحل له بحال، وهذا هو الضابط لهذه الأحكام.
ولا يأكل ابن آدم ولو مات، قاله علماؤنا. وبه قال أحمد وداود.
واحتج أحمد بقوله عليه السلام: « كسر عظم الميت ككسره حياً».
وقال الشافعي: « يأكل لحم ابن آدم. ولا يجوز له أن يقتل ذمياً، لأنه محترم الدم، ولا مسلماً ولا أسيراً، لأنه مال الغير. فإن كان حربياً أو زانياً محصناً جاز قتله والأكل منه.
وشنع داود على المزني بأن قال: « قد أبحت أكل لحوم الأنبياء» فغلب عليه ابن شريح بأن قال: « فأنت قد تعرضت لقتل الأنبياء إذ منعتهم من أكل الكافر».
قال ابن العربي: « الصحيح عندي ألا يأكل الآدمي. إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه».
ومن هذه النصوص الفقهية يتضح لنا ما يأتي:
أولاً: يجب التفرقة بين الانتفاع بأجزاء الآدمي الحي، وأجزاء الآدمي الميت. ونخص البحث في هذه الفقرة بأجزاء الآدمي الميت.
ثانياً: أن الانتفاع بأجزاء الآدمي الميت في حالة الاضطرار قد اختلف الفقهاء في إباحته إلى مذهبين:
المذهب الأول: يرى الحنفية والمالكية خلافاً لابن عبد السلام والظاهرية، عدم جواز الانتفاع بأجزاء الإنسان الميت، منعاً من انتهاك حرمة الآدمي.لقوله عليه الصلاة والسلام: « كسر عظم الميت ككسر عظم الحي» .
المذهب الثاني: يرى جمهور الفقهاء بعض الحنفية، وبعض المالكية، والشافعية والحنابلة والزيدية جواز الانتفاع بأجزاء ميتة الآدمي، وقد عللوا ذلك بأن حرمة الآدمي الحي أعظم من حرمة الميت.
وقد رد أبو الخطاب من علماء الحنابلة على الحديث المتقدم كسر عظم الميت... بأن المراد بالحديث التشبيه في أصل الحرمة، لا في مقدارها، بدليل اختلافهما في الضمان، والقصاص ، ووجوب صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت».
الترجيح:
والذي أرجحه هو جواز الانتفاع بأجزاء الآدمي الميت عند الضرورة، سواء كان معصوماً أو غير معصوم، إحياء للنفس الآدمية ومدّاً لأسباب البقاء لها ... وبخاصة أن النفس الميتة إن لم ينتفع بها تحللت وصارت تراباً...، فانقاذ نفس حية بشيء من نفس ميتة حفاظ على النفس، وإحياء لها، هو هدف مشروع ، ومصلحة مقررة شرعاً ومعتدٍّ بها فضلاً عن أن رعاية مصلحة الحي في امتداد حياته، أولى من رعاية مصلحة الميت في عدم المساس بجسمه، إذ جسمه إلى تحلل وإلى فناء.
ثالثاً: أنه على القول بإباحة الانتفاع بالآدمي الميت عند الاضطرار فإنه قد وضعت شروط لهذا الانتفاع وهي[9]:
1- ألا توجد ميتة أخرى غير ميتة الآدمي، فإذا وجدت ميتة أخرى لا يحل الانتفاع بميتة الآدمي.
2- أن يكون المضطر معصوم الدم، وذلك لأنه لو كان مستحق القتل شرعاً، كان دمه غير معصوم، وحياته إلى زوال بتنفيذ حكم الشرع فيه، ومن ثم فلا يجوز شرعاً العمل على مد أسباب حياته في الوقت الذي فيه يرى الشرع إنهاء حياته حقاً لله تعالى فكان ذلك معارضة للشرع، ومضادة لأحكامه، وهو ما لا يجوز ولا يحل ..
3- أنه يجب أن يكون المنتفع مضطراً إلى هذا الانتفاع، المقصود بالاضطرار وبينا أنه إن لم يتناول المحرم هلك كله أو بعضه.
ويلزم هنا أن نتعرض لبيان ما إذا كانت الحاجة تبيح للإنسان أن يتناول أو ينتفع بالمحرمات...، قياساً على حالة الضرورة.
وللإجابة عن ذلك نقول: إن القرآن الكريم قد عبر عن ذلك بأوضح تعبير وبينه أوفى بيان، إذ إنه بعد ذكر المحرمات: قال: { فمن اضطر غير باغ ولا عاد} فالمستثنى من الوقوع في المحرم هو من وقع في حالة الاضطرار لا في أي حالة غيرها، حاجية أو تحسينية.
ومن ثم فلا يجوز هذا الانتفاع إلا في حالة الضرورة، وإلا لضاعت الحكمة من تحريم هذه المحرمات باتساع دائرة الإباحة عند الحاجة مما يفقد التحريم حكمته والغاية منه.
4- كذلك يجب أن يكون هناك إذن بالانتفاع بأجزاء الميت وهذا الإذن، يمكن أن يكون صادراً من الميت قبل موته، باعتبار أن له ولاية على نفسه، ويمكن أن يكون صادراً من ورثته بعد موته، وهذا ما سنبينه في المبحث القادم.
المبحث الثاني
حكم نقل الأعضاء من المحكوم عليه بالقتل
المحكوم عليه بالقتل[10] هو: « من ارتكب جرماً، وأدين به طبقاً للقضاء الإسلامي وحكم عليه بالإعدام[11] كزنا المحصن. والردة عن الإسلام[12]، والمصر على ترك الصلاة عند جمهور الفقهاء[13]، وقاتل النفس عمداً بغير حق، ولم يسقط عنه القصاص بسبب من أسباب السقوط كعفو ولي الدم، وقاطع الطريق إذا كان جزاؤه القتل. فهذا الإنسان ترتفع العصمة عن حياته، وتصبح هذه الحياة مستحقة الإزالة[14] . فإذا كان الأمر هكذا. أيجوز انتزاع أعضاء المحكوم عليه بعد تنفيذ حكم الإعدام فيه[15]دون رضاه أو رضاء ورثته من بعده، أم لابد من رضاه وإذنه. أو إذن ورثته من بعد موته. من أجل الإفادة من أعضاء وأنسجته في عمليات زرع الأعضاء البشرية، وذلك بهدف حل جزء من مشكلة النقص الشديد في توفر الأعضاء والأنسجة لإنقاذ المرضى من الهلاك أو التلف[16].
هناك ثلاث أقوال في هذه المسألة:
القول الأول:عدم اعتبار رضا المحكوم عليه بالقتل، أو رضا ورثته في نقل الأعضاء منه، وذلك قياساً على ما قرره فريق من الفقهاء من جواز أكل المضطر لحم مهدور الدم بعد قتله دون رضاه أو رضاء ورثته. فالشافعية والحنابلة وبعضاً من الحنفية ذهبوا إلى القول بجواز ذلك عند الضرورة[17].
قال العزّ بن عبد السلام في قواعده: « لو وجد المضطر من يحل قتله: كالحربي، والزاني المحصن، وقاطع الطريق الذي تحتم قتله، واللائط، والمصرّ على ترك الصلاة: جاز ذبحهم وأكلهم.
إذ لا حرمة لحياتهم، لأنها مستحقة الإزالة. فكانت المفسدة في زوالها أقل من المفسدة في فوات حياة المعصوم، ولك أن تقول في هذا وما شابهه: جاز ذلك تحصيلاً لأعلى المصلحتين أو دفعاً لأعظم المفسدتين . وعلل ذلك في مكان آخر بقوله: « جاز ذلك في حالة الاضطرار حفظاً لحياة الإنسان المعصوم الواجبة الحفظ والإبقاء بإزالة حياة واجبة الإزالة والإفناء».
وقال النووي : « يجوز للمضطر قتل الحربي والمرتد وأكلهما بلا خلاف. وأما الزاني المحصن والمحارب وتارك الصلاة. ففيهم وجهان: أصحهما.. يجوز. قال الإمام : لأننا إنما منعنا من قتل هؤلاء تفويضاً إلى السلطان. لئلا يفتات عليه ، وهذا العذر لا يوجب التحريم عند تحقق ضرورة المضطر، وأما إذا وجد المضطر من له عليه القصاص فله قتله قصاصاً وأكله، سواء حضره السلطان أم لا، لما ذكرناه»[18].
فهذه النصوص الفقهية تقرر جواز قتل المحكوم عليه بالقتل، والأكل من لحمه بالنسبة للمضطر إلى ذلك. ولو بدون إذن السلطان. مع ما في ذلك من افتيات عليه، لأن إقامة الحدود أمر منوط بالسلطان لا يجوز للأفراد الاستبداد به، وعليه فإذا جاز ذلك فإن جواز نقل عضو منه ولو بدون رضاه لزرعه في جسد مريض معصوم الدم مشرف على الهلاك ينبغي القول بجوازه من باب أولى. حيث يتحمل الضرر الأخف لدرء الضرر الأشد. ولأن مصلحة إنسان معصوم الدم أرجح وأولى بالرعاية في ميزان المصالح الشرعية من إنسان مهدر الدم[19].
قالوا : لا يدخل هذا في باب المثلة، لأن المثلة فيها معاني الحقد والانتقام والتشفي، وهذه المعاني منتفية هنا، وقد صدرت فتوى من الأزهر: بإباحة الاستقطاع من الجناة الذين يحكم عليهم بالإعدام قصاصاً[20]، فمصلحة الإنسانية والمرضى الراجحة هي التي تبيح نقل الأعضاء من المحكوم عليه وإهدار إذنه. لاسيما إذا كان قاتلاً، لأنه بذلك سيعوض المجتمع بإنسان سليم عن طريق أعضاء جسمه بدلاً عن الإنسان الذي قتله.
وهناك رأي آخر[21] يذهب إلى إهدار رضا صاحب الشأن في قضية نقل عضو من جثة ميت عموماً عند الضرورة. سواء أكان هذا الميت من الجناة المحكوم عليه بالإعدام، أم لا، فهم يقولون بجواز ذلك سواء أذن الميت أو ورثته بذلك، أم لم يأذنوا. وقالوا: إن الضرورة في إنقاذ الحي تبيح المحظور، وقالوا : إن قواعد الدين مبنية على رعاية المصالح الراجحة، وتحمل الضرر الأخف لجلب مصلحة يكون تفويتها أشد من هذا الضرر، ومن الواضح أن مصلحة الآدمي الحي في إنقاذ حياته أرجح من مصلحة الورثة في مشاعرهم نحو فقيدهم، وهي مصلحة يسيرة بجانب مصلحة المريض. فيلزم بذلك التضحية بالمصلحة الدنيا من أجل المصلحة العليا التي هي حياة المريض المشرف على الهلاك.
وقالوا أيضاً : بأن إهدار إذن ذوي الشأن يمكن قياسه على ما ذهب إليه فريق من الفقهاء من القول بجواز أكل لحم الآدمي الميت في حالة الضرورة كما ذكرنا آنفاً، وهذا لا يشترط فيه إذن من الميت حال حياته، ولا يشترط فيه إذن ورثته من بعده، فإذا جاز الأكل للمضطر – وفي الكل ما فيه من الاستهلاك والتشويه – فلأن يجوز أخذ عضو دون استهلاك أو تشويه له أولى بالجواز ، واحتجوا لذلك أيضاً : بالقياس على الأم الحامل إذا ماتت وفي بطنها جنين، فإنه يجوز لدى البعض من الفقهاء فتح بطن الأم لاستخراج الجنين، وبالقياس على من اغتصب جوهرة فابتلعها ومات، فإنه يجوز على قول البعض من الفقهاء فتح بطنه لاستخراجها[22]. وفي كلتا الحالتين يتم التصرف بالجثة دون الحصول على موافقة أحد من ورثة الأم أو المغتصب، وعليه: فللمريض المضطر حق في جثة الميت دون موافقة أحد لإنقاذ حياته، كحق الجنين في شق بطن أمه لإنقاذ حياته، وكحق صاحب المال في شق بطن المغتصب لإنقاذ ماله دون الرجوع إلى موافقة ذوي الشأن.
والجواب على ذلك:
بالنسبة لما أوردوه من قواعد تتعلق بالضرورة والمصلحة فإن هذه القواعد لها ضوابط لابد من مراعاتها ، وشروط لابد من توفرها، وإلا فإن القضية ستصبح فوضى لا حدود لها، لما ستهدر فيها من إرادة الإنسان وحريته وإذنه، وحق كل إنسان في أعضاء جسده وهو حق مشروع له، لا يبرر استلابها الحكم عليه بالموت، أما بالنسبة للقياس على أكل المضطر لحم الآدمي الميت. فنقول: إنه يشترط الإذن في النقل دون الأكل لوجود المقتضى لذلك في المقيس دون المقيس عليه، وبيان ذلك أن الإنسان يعاف طبعاً أكل لحم أخيه الإنسان: يدل لذلك أن القرآن الكريم جعله نموذجاً لأقصى ما يمكن أن ينفر منه الطبع السليم. فقال منفراً من الغيبة: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه[23].
إذن فهناك نفرة طبيعية من إقدام الإنسان على أكل لحم إنسان ميت، فإذا أقدم مع ذلك على هذا الفعل فإن هذا يعني أنه قد بلغ حالة الضرورة التي لا ضرورة بعدها، لذلك كان اشتراط الإذن في هذه الحالة لا لزوم له، أما النقل فهو مطلوب مرغوب فيه، ولا ينفر منه الطبع.
لذلك فإن تقييد جوازه بالإذن له ما يقتضيه. ولأن هناك فرقاً شاسعاً بين ما يرغب فيه وبين ما ينفر الطبع منه.
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن اضطرار الإنسان إلى الأكل من لحم الآدمي نادر جداً، ولا يعقل التسوية بين النادر وقوعه وبين الشائع وقوعه، ثم إن الانتفاع بأجزاء الإنسان لزرعها ليس فيه استهلاك للعضو أو امتهان له. لأن التداوي والعلاج بنقل العضو إنما هو نقل من آدمي إلى آدمي مكرم مثله. بطريقة فيها من التكريم والاحترام ما يحفظ للآدمي آدميته، ويفعل ذلك لإنقاذ نفس إنسانية مشرفة على الهلاك، ولكي يؤدي العضو نفس الوظيفة والغرض الذي خلقه الله من أجله، فهذا الفعل فيه من النبل والإيثار ما يعتبر مدعاة للتقدير والتبجيل والاحترام، وهذا بخلاف الأكل من لحم الآدمي، لأن فيه استهلاكاً للمأكول، وامتهاناً له، وفيه آلام وتعذيب وتشويه.
فالضرورة وحدها لا تكفي للقول بمشروعية ما ذكر إلا إذا اقترنت بالحصول على إذن المنقول منه، وتجاهل رضا المحكوم عليه يعد مهانة تتنافي مع تكريم الله تعالى للإنسان. وحق العبد في أعضاء وأنسجة جسده ولو بعد موته أمر مشروع. وهذه المشروعية أعلى قدراً وأقوى اعتباراً من أي اعتبار آخر. حتى ولو كان إنقاذ مريض على شفا الموت، فيجب أن يكون النقل عن رضا المحكوم عليه رضاه حراً متبصراً لا يشوبه ما يقدح فيه من الإكراه ، والاضطرار لا يبطل حق غيره، ولا يبرر إسقاط إذنه في التنازل عن أعضاء جسده مادام أخذ إذنه في ذلك ممكناً. فإذا كان إذن المالك بالنسبة للمال لابد فيه عند التمكن في ذلك في حالة الضرورة. فهذا بالنسبة لما يتعلق ببدنه أولى.
ويجب تحريم من ينتزع أعضاء المحكوم عليه من غير إذنه ورضاه . لأن انتزاع الأعضاء منه دون إذنه إنما يمس بالضرر شعور المحكوم عليه، إذا علم بذلك قبل موته بسبب إهدار حقه، ويمس شعور ورثته من بعده باعتبار أن للجثة قيمة معنوية عند الورثة[24].
أما بالنسبة لفتح جوف المغتصب لاستخراج المال الذي اغتصبه منه، فإنه يوجد فرق بين هذه المسألة وبين نقل العضو من جسد المتوفي، ذلك أن حق المريض في الشفاء لم يتعلق بهذا الجسد بخصوصه، لذلك فإن النقل منه يحتاج إلى إذن صاحب الشأن، أما حق صاحب المال المغتصب فإنه قد تعلق بجسد المغتصب على وجه الخصوص، فلهذا الفرق انتفت الحاجة إلى الإذن في مسألة الغصب دون النقل.
أما مسألة فتح بطن الأم المتوفاه لإخراج الجنين منها فهي مخالفة أيضاً لقضية نقل الأعضاء، وذلك لأنه لا توجد علاقة ملازمة بين المريض والمتوفى، أما الجنين فعلاقته بالأم علاقة ملازمة، علاقة الشيء بوعائه، واستخراج الجنين غير ممكن بدون هتك ذلك الوعاء المتلبس به، فهو مجرد عملية في محل واحد، فلا يتوقف على إذن أحد، بخلاف المفارق الذي هو[25] أخذ عضو من ميت إلى حي آخر، فيحتاج إلى إذنه ورضاه قبل موته، أو من ورثته بعد موته وأيضاً : فإن إذن الأم حاصل قطعاً بدلالة الحال، فإنه لا توجد أم في الدنيا تمتنع وهي على قيد الحياة من إخراج جنينها بواسطة ما يسمى بالعملية القيصرية إذا تعسرت ولادتها له عن طريق طبيعي، فإذا كانت لا تمتنع عن فتح بطنها أثناء حياتها لإنقاذ جنينها، فكيف يتصور امتناعها عن فعل ذلك بعد موتها؟ لذلك فإن المريض المضطر لو كان ابنا للمتوفى، أو شخصاً ممن يضحي المتوفى من أجله عادة، فإنه لا يبعد في مثل هذه الحالة القول بجواز النقل من غير إذن. لأن الإذن حاصل هنا بدلالة الحال.
تابع ...