بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى :
" وإن لكم في الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مما في بُطُونِهِ " سورة النحل
" وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا " سورة المؤمنون
جاء تذكير اسم الجمع ( بطون ) في سورة النحل وتأنيثه في سورة المؤمنون مع أنه في التصور البشري التأنيث أليق بالمقام في سورة النحل للتصريح بذكر اللبن .
فما توجيه ذلك ؟
هما توجيهان متلازمان :
التوجيه الأول :
اسم الجمع إذا لوحظ فيه اللفظ ذكر وإذا لوحظ فيه المعنى أُنث
آية النحل جاءت في سياق ذكر الأشربة فاقتصرت الآية على ذكر اللبن ، قال تعالى :
" وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِين"
فالمقصود من السياق هنا معنى اللبن ( وقد ذُكر صراحة وفصّل فيه ) فنُظر إلى لفظ الأنعام لا إلى معناها
واسم الجمع إلى لوحظ فيه اللفظ ذكّر
بينما ذُكرت المنافع على التفصيل في آية المؤمنون :
" وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ "
فالمعنى المقصود هنا الأنعام نفسها من حيث منافع أفرادها المتنوعة
واسم الجمع إذا لوحظ فيه المعنى أُنث
جاء في أضواء البيان :
ومعلوم في العربية : أن أسماء الأجناس يجوز فيها التذكير نظرا إلى اللفظ ، والتأنيث نظرا إلى معنى الجماعة الداخلة تحت اسم الجنس .اه
ويؤيد ذلك أن الانعام أُنثت كذلك في مطلع سورة النحل نفسها عندما عدّد الله عز وجل منافعها :
"وَالْأَنْعَا َ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ "
وكذلك عندما أتي على ذكر ما يتخذ منها للبيوت والأثاث والأمتعة والملابس :
"وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَه َا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ "
التوجيه الثاني :
إذا أُريد معنى الجمع ذُكر وإذا أُريد معنى الجماعة أُنث :
فإنه لا بد لتكون اللبن عند الأنعام من اجتماع نوعي الجنس فيلاحظ فيه معنى الجمع فيُذكر
بينما المنافع المذكورة في سورة المؤمنون لا تتأتى إلا من جماعة متعددة الأنواع والأفراد ،فما يتخذ للأكل غير ما يتخذ للحرث غير ما يتخذ للركوب غير ما يتخذ للتكاثر إجمالاً ، فيلاحظ فيه معنى الجماعة فأُنث.
وهذا هو الذي ذكره ابن العربي رحمه الله
جاء في تفسير القرطبي :
قال ابن العربي: إنما رجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة، فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة فقال: "نسقيكم مما في بطونها" [المؤمنون: 21] وبهذا التأويل ينتظم المعنى انتظاما حسنا. والتأنيث باعتبار لفظ الجماعة والتذكير باعتبار لفظ الجمع أكثر من رمل يبرين وتيهاء فلسطين.
استنبط بعض العلماء الجلة وهو القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير، أن لبن الفحل يفيد التحريم، وقال: إنما جيء به مذكرا لأنه راجع إلى ذكر النعم؛ لأن اللبن للذكر محسوب، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم بأن لبن الفحل يحرم حين أنكرته عائشة في حديث أفلح أخي أبي القعيس (فللمرأة السقي وللرجل اللقاح) فجرى الاشتراك فيه بينهما. وقد مضى.اه
ويؤيد ذلك :
تأنيث اسم الجمع في آية العسل التي ذُكرت عقيب آية اللبن وهي قوله تعالى :
" ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ "
فمثلها مثل آية اللبن :
- ذُكرت في سياق الأشربة
- وذكرت كنعمة واحدة
- وفصّل فيها
ومع ذلك أُنث اسم الجمع فيها ( بطونها ) ولم يُذكّر كما فُعل في آية اللبن ( بطونه ):
وذلك لأن العسل خلافا للبن ليس للذكور دور فيه بل هو من اختصاص شغالات النحل
فيُنظر فيه إلى معنى الجماعة لا الجمع
معنى الجماعة لأنه يكون من تعدد أفراد شغالات النحل
والله تعالى أعلم
وتُدرج تباعا الفوائد التي عرضت أثناء البحث
بحول الله وقوته