تفسيرُ آيات أحكام الحجّ لابن عثيمين
إعداد: اللجنة العلمية بالملتقى الفقهي
مقدمة:
إنّ تلقّي الأحكام الشرعية، من القرآن الكريم، عبر التّأمّل في سياق الآيات ومعاني ألفاظها، له ثمرتان جليلتان:
الأولى:أنّ فيه توثيقاً للصّلة الإيمانيّة، حيث يقوم المسلم بين يدي ربّه تعالى، تالياً كتابه، ومتدبّراً في معانيه، راغباً في معرفة ما يتضمّنه من الأحكام الشرعية التي تتعلّق بمختلف عباداته ومعاملاته.
والثانية:أنّ الحكم الفقهيّ في هذه الحالة، يجيء في سياق الآيات القرآنية، نابعاً من عقيدة الإيمان بالله تعالى، ممتزجاً بمبادئ الأخلاق الكريمة، ومن ثمّ فإنّه يكونُ أكثر وقعاً وتأثيراً في النفس.
وبهاتين الميزتين، تتميّز المؤلفات في باب "تفسير آيات الأحكام".
ولما كان المسلمون في هذه الأيام يتفيّؤون ظلال موسم الرحمة، موسم الحج ّالمبارك، ويستروحون أريج نسائمه العطرة، فقد رأينا أن نقدم هذه المادة، التي قمنا باستخراجها من تفسير الشيخ ابن عثيمين للآيات القرآنية التي تتضمّن أحكام الحج والعمرة، عسى أن يتحقّق لقارئها قبسٌ من تلكما الميزتين، يتيسر به معرفة الأحكام الشرعية المتعلّقة بمناسك الحجّ والعمرة، ويتعرّف من خلال ذلك على السياق الذي وردت فيه، وكيفيّة استنباطها منه.
ويتلخّص العمل الذي قمنا به، في مراجعة نصّ كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله مراجعة لغويّةً عامّة، ووضع عناوين تُيسّر قراءته.
وستكون هذه الحلقة الأولى، متعلّقةً بتفسير الآية التاسعة والستين بعد المائة، من سورة البقرة، وذلك على النحو التالي:
نصُّ الآية القرآنية وتقسيمه إلى وحدات:
يقول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196].
ويُلحظ أنّ الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، قد تعامل مع هذا النص باعتباره مقسماً إلى وحداتٍ متتابعة ومترابطة، وقف عند تفسير كلٍّ منها، ثم أردف ذلك باستخراج مجموعةٍ من الفوائد، وختمها بتنبيهٍ ذي أهمية بالغة.
فيما يلي نصُّ كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى، وتفسيره للوحدات التي تتكوّن منها هذه الآية القرآنية:
الوحدة الأولى: قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}:
أي: ائتوا بهما تامَّتين؛ وهذا يشملُ:
-كمال الأفعال في الزّمن المحدَّد.
-وكذلك صفة الحج والعمرة- أن تكون موافقة تمام الموافقة لما كان النبي --صلى الله عليه وسلم-- يقوم به.
واللام في قوله تعالى: {لله} تفيد الإخلاص، يعني: مخلصين لله -عزَّ وجلَّ- ممتثلين لأمره.
الوحدة الثانية: قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}:
* {فإن أحصرتم} أي مُنعتم عن إتمامهما.
* {فما استيسر} أي: فعليكم ما تيسَّر من الهدي. وزيادة الهمزة، والسين للمبالغة في تيسُّر الأمر.
* و {من الهدي} أي الهدي الشَّرعي؛ فـ «أل» فيه للعهد الذهني؛ والهديُ الشَّرعيُّ هو ما كان ثنياً ممَّا سوى الضأن؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تذبحوا إلا مُسنَّة إلا إن تعسَّر عليكم فتذبحوا جَذَعة من الضَّأن»[1]؛ وهذا النهي يشمل كلَّ ما ذُبح تقرُّباً إلى الله -عزّ وجلَّ- من هدي، أو أضحية، أو عقيقة.
الوحدة الثالثة: قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}:
* {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} أي: لا تُزيلوها بالموسى.
* {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}: «مَحِلّ»:
- يُحتمل أن تكون اسم زمان: والمعنى: حتى يصِل إلى يوم حلوله -وهو يوم العيد-؛ وثبتت السُّنَّة بأنَّ من قدّم الحلق على النَّحر فلا حرج عليه[2].
- ويُحتمل أن المعنى: حتى يُذبح الهدي؛ وتكون الآية فيمن ساق الهديَ؛ ويؤيد هذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل: ما بالُ الناس حلُّوا ولم تَحِلّ؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: «إني لبَّدتُ رأسي، وقلدتُ هديي فلا أحِلَّ حتى أنحر»[3].
الوحدة الرابعة: قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}:
* {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} أي: واحتاج إلى حلق الرأس؛ {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} وهو صحيح، كما لو كان الرأس محلاً للأذى، والقُمَّل، وما أشبه ذلك.
* {ففدية} أي: فعليه فِديةٌ يفدي بها نفسه من العذاب.
* {مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}؛ {أو} هنا للتَّخيير؛ وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ «الصيام» ثلاثة أيام، وأن «الصدقة» إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع[4]؛ وأما «النسك» فهو ذبح شاة.
وهذه الجملة قد حُذف منها ما يدل عليه السياق؛ والتقدير: فمن كان منكم مريضاً، أو به أذًىُ من رأسه، فحلق رأسه فعليه فدية.
الوحدة الخامسة: قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}:
* {فإذا أمنتم}أي من العدوِّ -يعني فأتمُّوا الحج والعمرة-.
ثم فصّل الله عز وجل المناسك فقال:
* {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}أي فمن أتى بالعمرة متمتعاً بحلَّه منها بما أحل الله له من محظورات الإحرام {إلى الحج} أي إلى ابتداء زمن الحج؛ وهو اليوم الثامن من ذي الحجة،
* {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}أي: فعليه ما استيسر من الهدي، شكراً لله على نعمة التّحلُّل.
ويُقال في هذه الجملة ما قيل في الجملة التي سبقت في الإحصار.
الوحدة السّادسة: قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}:
* {فمن لم يجد} أي: فمن لم يجد الهدي، أو ثَمَنه.
* {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} أي: فعليه صيام ثلاثة أيام.
* {في الحَجِّ} أي: في أثناء الحج، وفي أشهره.
* {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}أي: إذا رجعتم من الحجِّ بإكمال نسكه، أو إذا رجعتم إلى أهليكم.
* {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} للتأكيد على أنَّ هذه الأيام العشرة، وإن كانت مفرَّقة فهي في حكم المتتابعة.
الوحدة السّابعة: قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}:
* {ذَلِكَ}، أي: ذلك التمتُّعُ الموجب للهدي، {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
* وقوله تعالى: {أهلُه}:
-قيل: المراد به نفسُه، أي: لمن لم يكن حاضراً المسجد الحرام.
-وقيل: المراد بـ «الأهل» سَكَنُُه الذي يسكن إليه من زوجة، وأب، وأم، وأولاد، وما أشبهَ ذلك؛ فيكون المعنى: ذلك لمن لم يكن سكنُهُ حاضري المسجد الحرام؛ وهذا أصحُّ؛ لأن التعبير بـ «الأهل» عن النفس بعيد؛ ولكن {أهلُه} أي الذين يسكن إليهم من زوجة، وأب، وأم، وأولاد، هذا هو الواقع.
* {حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}المراد به مسجد مكّة؛ و {الحرام} صفة مشبَّهة بمعنى ذي الحُرمة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وقد عادت حرمتُها اليوم كحرمتها بالأمس»[5]؛ وحرمة المسجد الحرام معروفة من وجوه كثيرة ليس هذا موضع ذكرها.
واختُلف في المراد بـ {حاضري المسجد الحرام}:
-فقيل: هم أهل الحرم -يعني: مَن كانوا داخل حدود الحرم-، فمن كان خارج حدود الحرم فليسُوا من حاضري المسجد الحرام؛ وروي هذا عن ابن عباس، وجماعة من السلف، والخلف.
-وقيل: حاضرو المسجد الحرام أهل المواقيت، ومَن دونهم؛ وعلى هذا فأهل بدر من حاضري المسجد الحرام؛ لأنَّهم دون المواقيت؛ وأهل جدة من حاضري المسجد الحرام؛ لأنهم دون المواقيت.
-وقيل: حاضرو المسجد الحرام أهل مكة، ومَن بينهم وبين مكة دون مسافة القصر؛ وهي يومان؛ وعلى هذا فأهل جدة، وأهل بدر ليسوا من حاضري المسجد الحرام؛ وأهل بحرة -وهي بلدة دون جدة- على هذا القول يكون أهلُها من حاضري المسجد الحرام؛ لأنهم داخل المسافة؛ وأهل الشرائع من حاضري المسجد الحرام.
والأقربُ: القول الأول: أنَّ حاضري المسجد الحرام هم أهل الحرم؛ وأما من كان من غير أهل الحرم فليسوا من حاضريه؛ بل هم من محلٍّ آخر؛ وهذا هو الذي ينضبط.
الوحدة الثّامنة: قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}:
* {وَاتَّقُوا اللَّهَ}أي: الزموا تقوى الله -عزَّ وجلّ- وذلك بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.
* {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}أي: شديد المؤاخذة والعقوبة، لمن لم يتقه تبارك وتعالى؛ وسُمِّيت المؤاخذة عقاباً؛ لأنَّها تأتي عقب الذنب.
الفوائد:
[1] وجوبُ إتمام الحج والعمرة:
من فوائد الآية: وجوبُ إتمام الحج، والعمرة:وظاهر الآية أنَّه لا فرق بين الواجب منهما، وغير الواجب؛ ووجهُ هذا الظاهر: العموم في قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة}؛ فيكون شاملاً للفريضة، والنافلة؛ ويؤيده أن هذه الآية نزلت قبل فرض الحج؛ لأنَّ الحج إنما فُرض في السنة التاسعة في قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران: 97] ؛ السنة التي يُسمّيها العلماء سنة الوفود.
[2] أن العمرة والحج سواءٌ في وجوب إتمامهما:
ومن فوائد الآية: أن العمرة والحج سواءٌ في وجوب إتمامهما؛ لقوله تعالى: {الحج والعمرة}.
[3] الاستنابة في شيء من أفعال الحج والعمرة:
ومنها: أنه لا تجوز الاستنابةُ في شيء من أفعال الحج والعمرة؛ فلو أن أحداً استناب شخصاً في أن يطوف عنه، أو أن يسعى عنه، أو أن يقف عنه بعرفة، أو أن يقف عنه بمزدلفة، أو أن يرمي عنه الجمار، أو أن يبيت عنه في منى فإنه حرام؛ لأنَّ الأمر بالإتمام للوجوب؛ فيكون في ذلك ردٌّ لقول من قال من أهل العلم: إنه تجوز الاستنابةُ في نفل الحج، وفي بعضه: أما الاستنابة في نفل الحج -كلَّ النسك- فهذا له موضع آخر؛ وأما في بعضه فالآية تدل على أنها لا تصح.
[4] التّوكيل في رمي الجمرات بدون عذر:
ومن فوائد الآية: الحذر مما يفعله بعض الناس الآن من التساهل في رمي الجمرات، حيث إنهم يوكّلون من يرمي عنهم بدون عذر، مخالفةً لقوله تعالى: {وأتمّوا الحج والعمرة لله}؛ وعليه فلا يصح رميُ الوكيل حينئذ؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- : «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ»[6]، أي مردود عليه؛ أما إذا كان لعذر كالمريض، والخائف على نفسه من شدة الزِّحام إذا لم يكن وقتٌ آخر للرمي يخفُّ فيه الزحام، فلا بأس أن يستنيب من يرمي عنه؛ ولولا ورودُ ذلك عن الصحابة لقلنا: إنَّ العاجز عن الرمي بنفسه يسقط عنه الرَّميُ كسائر الواجبات، حيث تسقط بالعجز؛ ويدلُّ لعدم التهاون بالتوكيل في الرمي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأذن لسودة بنت زمعة أن توكِّل؛ بل أمرها أن تخرج من مزدلفة، وترمي قبل حطمة الناس[7]؛ ولو كان التَّوكيلُ جائزاً لمشقة الزحام لكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يُبقيها معه حتى تدرك بقية ليلة المزدلفة، وتدرك صلاة الفجر فيها، وتدرك القيام للدعاء بعد الصلاة؛ ولا تُحْرَم من هذه الأفعال؛ فلما أذن لها في أن تدفع بليلٍ عُلم بأنَّ الاستنابة في الرمي في هذا الأمر لا يجوز؛ وكذلك لو كان جائزاً لأذن للرُّعاة أن يوكِّلوا، ولم يأذن لهم بأن يرموا يوماً، ويدعوا يوماً.
[5] وجوب الإخلاص لله:
ومن فوائد الآية: وجوب الإخلاص لله؛ لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} يعني أتمُّوها لله لا لغيره؛ لا تُراعوا في ذلك جاهاً، ولا رتبة، ولا ثناءً من الناس.
[6] انفراد الحجّ والعمرة بأنّه يجب إتمام نفلهما:
ومنها: أنَّ الحج والعمرة يُخالفان غيرهما في وجوب إتمام نفلهما؛ لقوله تعالى: {وأتمُِّوا}؛ والأمر للوجوب؛ ويدلُّ على أنَّه للوجوب قولُه تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي}، حيث أوجب الهديَ عند الإحصار؛ أمَّا غيرُهما من العبادات فإنَّ النفل لا يجبُ إتمامه؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل على أهله ذات يوم فقال: «هل عندكم شيءٌ؟ قالوا: نعم، حيس؛ قال: أرينيه؛ فلقد أصبحت صائماً؛ فأكل»[8]؛ لكن يُكره قطعُ النفل إلا لغرض صحيح -كحاجةٍ إلى قطعه، أو انتقالٍ لما هو أفضل منه-.
[7] جواز التّحلُّل عند الإحصار لكن مع ذبح الهدي:
ومن فوائد الآية: أنه إذا أُحصِر الإنسان عن إتمام الحج والعمرة، فله أن يتحلَّل؛ ولكن عليه الهديُ؛ لقوله تعالى: {فإن أُحصِرتم فما استيسر من الهدى}.
[8] شمولُ الإحصار لكل ما يمنع من إتمام النسك:
ومنها: أنَّ الله تعالى أطلق الإحصار، ولم يُقيِّده؛ لقوله تعالى: {فإن أُحصِرتم} ؛ لأن الفعل لو بُني للفاعل، وذُكر الفاعلُ اختصَّ الحكم به؛ فإذا قلت مثلاً: «أقام زيد عمراً» صار المقيم زيداً؛ وإذا قلت: «أقيم عمرٌو» صار عاماً؛ فظاهر الآية شمولُ الإحصار لكل مانع من إتمام النسك؛ فكلُّ ما يمنع من إتمام النسك فإنه يجوز التحلُّل به، وعليه الهدي؛ أما الإحصار بالعدوِّ فأظنه محل إجماع فيتحلل بالنص، والإجماع:
-النص: تحلّل الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية[9].
-والإجماع: لا نعلم في هذا مخالفاً.
وأما الحصر بغير عدو، كمرض، أو كسر، أو ضياع نفقة، أو ما أشبه ذلك مما لا يستطيع معه إتمام الحج والعمرة؛ فإن العلماء اختلفوا في ذلك:
-فمنهم من قال: إنه لا يتحلَّل، ويبقى محرماً حتى يزول المانع.
-ومنهم من قال: إنه يتحلل، كالحصر بالعدو.
حجة الأولين: أنَّ الله تعالى قال: {فإن أحصرتم}؛ والآية نزلت في شأن قضية الحديبية؛ وهم قد أُحصروا بعدوٍّ؛ فيكون الحصر هنا خاصاً بالعدو؛ ودليل آخر: يقولون: ضباعة بنت الزبير لما جاءت تشتكي إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنها مريضة، وأنها تريد الحج قال لها: «حجي واشترطي»[10]، فلو كان الإحصار بالمرض مبيحاً للتحلل ما احتيج إلى اشتراط؛ فكانت تدخل في النسك، وإذا عجزت تحللت؛ وأجاب القائلون بأن الحصر عام بحصر العدو وغيره بأن الآية مطلقة: {فإن أحصرتم} ؛ لم تقيد بحصر العدو؛ والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأن العلة في جواز التحلل بحصر العدو عدم القدرة على إتمام النسك؛ وهذا حاصل بالحصر بغير العدو؛ والشرع لا يفرق بين متماثلين؛ وأجابوا عن حديث ضباعة بأن يُقال: إن الفائدة من حديث ضباعة أنه إذا حصل مرض يمنع من إتمام النسك فإنها تتحلل بلا شيء؛ وأما إذا لم تشترط فإنها لا تتحلل إلا بدم؛ وحينئذ تظهر فائدة اشتراط من خاف أن يعوقه مرض، أو نحوه عن إتمام النسك؛ والفائدة هي أنه لا يجب عليه الهدي لو تحلل بهذا الحصر؛ والصواب القول الثاني: أن الإحصار يكون بالعدو، وبغيره.
فإن قال قائل: إن قوله تعالى في سياق الآية: {فإذا أمنتم} يُشير إلى أن الإحصار المذكور بعدو؟
فالجواب: أنَّ ذكرَ بعض أفراد العام بحكم يوافق العام لا يقتضي التخصيص، كما هو قول المحقِّقين من أهل أصول الفقه، وغيرهم؛ ونظير ذلك حديث جابر -رضي الله عنه-: «قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالشفعة في كل ما لم يُقسم؛ فإذا وقعت الحدود وصُرفت الطرق فلا شفعة»[11]، فإنَّ قوله: «فإذا وقعت الحدود ... » إلخ لا يستلزم اختصاص الشفعة بما له حدود وطرق؛ بل الشفعة ثابتة في كل مشترك على القول الراجح.
[9] وجوبُ الهدي على من أحصر:
ومن فوائد الآية: وجوبُ الهدي على من أحصر؛ لقوله تعالى: {فما استيسر من الهدي}.
[10] أنَّ من تعذَّر أو تعسَّر عليه هديُ الإحصار فلا شيء عليه:
ومنها: أنَّ من تعذَّر، أو تعسَّر عليه الهديُ فلا شيء عليه؛ لقوله تعالى: {فما استيسر من الهدي}؛ ولم يذكر اللهُ بديلاً عند العجز؛ وقال بعضُ أهل العلم: إنه إذا لم يجد هدياً صام عشرة أيام، ثم حلّ -قياساً على هدي التمتع-؛ ولكن هذا القياس ليس بصحيح من وجهين:
-الوجه الأول: أنه مخالف لظاهر الآية؛ لأن الله لم يذكر بديلاً للهدي.
-الوجه الثاني: أن تحلل المتمتع تحلل اختياري؛ وأما المحصر فتحلُّله اضطراري.
يتبع