كشف المرأة غطاء الرأس بدعوى عموم البلوى
للشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله
أخي الكريم الدكتور السيد عبد الفتاح الناشد
المحترم حفظه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
تلقيت رسالتكم العزيزة , فيها سؤالكم عن إمكان
المرأة المسلمة أن تكشف رأسها مع محافظتها
على حشمة اللباس الساتر شرعاً , وذلك
باعتبار أن كشف الرأس قد أصبح من قبيل عموم
البلوى , وأن ستر الرأس يصبح مانعاً للمرأة من
حضور المؤتمرات والاجتماعات والسفر إلى
بعض البلدان ونحو ذلك .
إن هذا الموضوع – أخي الكريم - يحتمل جواباً
مطولاً مدعوماً بالحجج الشرعية والمنطقية ,
ولا أجد له الآن وقتاً مساعداً , فأكتفي الآن
بجواب موجز , وهو أن كشف المرأة المسلمة
رأسها ( ولا سيما في هذا الزمن الذي أصبح فيه
تزيين النساء شعورهنّ على أيدي مزينين أو
مزينات اختصاصيين من أهم فنون التبرج
وعرض الجمال المفاتن ) غير جائز شرعاً
لمخالفته صريح القرآن والسنة النبوية الثابتة
بصورة لا تقبل أي تأويل , ولا يدخل هذا
الكشف في دائرة عموم البلوى التي لها مقاييس
في غير هذا الباب , وهو باب الحاجات من
جهة , وصعوبة الاجتناب من جهة أخرى , مثل
الحكم بطهارة الكحول اليوم إذا اعتبر أن
أصل الدليل يستوجب نجاستها , وكسؤر الهرة
التي هي من الطوافين والطوّافات داخل البيوت
ولا يمكن التحرز منها ( والأصل أنّ سؤر
الحيوان , وهو ما مسّه بفمه في الشرب , يتبع
لحمه نجاسة وطهارة , والهرّة غير مأكولة
اللحم لأنها سبع مفترس , فكان الأصل نجاسة
سؤرها لولا عموم البلوى فيه ) ومثل ذلك
في عموم البلوى اليوم مجالسة المرأة
المسلمة للمرأة غير المسلمة ونحو ذلك .
أما المحرمات القطعية في غير حالات
الاضطراب كشرب الخمر والرّقص المشترك
ولبس الميني جوب أو الميكرو جوب اليوم ,
فهذا لا يكون بحال من الأحوال حاجة تعمّ بها
البلوى فتُباح , فإنّ الإنسان المسلم يستطيع
اجتنابها دون أي حرج . وظنّ الجاهلين أنّ
اجتناب ذلك يجعلهم في حرج حيث يظنّ بهم
الرجعية أو الجمود أو التعصب أو . . . أو . . .
فهو من ضعف شخصيتهم الإسلامية ( بعد أن
يكونوا مؤمنين ) كمن يترك الصلاة في وقتها
لمتابعة اجتماع هو فيه كيلا يقال عنه أنه
متزمت لا يقدّر الظروف حقّ قدرها !!
والمسلم عليه أن يعتز بتمسكه بدينه ( وأوامره
القطعية على الأقل ) مهما قال عنه الملاحدة
والفسّاق , وإلاّ لا نحلّ الدين عروة عروة في
تيارات الفساد , فلا يبق منه شيئ .
وقد أمر القرآن النساء المسلمات أن يضربن
بالخمر على جيوبهن , والخمار كساء يستر
الرّأس كله سوى الوجه , والمقصود أن يكون
فضفاضاً يمكن ردّ ذيله على جيب القميص ,
وهو فتحة صدره , كي يستر صدر المرأة , فإذا
كان كشف الرّأس من عموم البلوى , فما قولنا
إذا أصبح أيضاً كشف الأفخاذ والرّقص المشترك
من عموم البلوى , بمعنى أن جميع الناس
المسلمين يمارسونه ويعيّر بعدم فعله من لا
يفعله , هل نفتي بجوازه ديناً مجاراةً للفسّاق
والملاحدة ?
إن الحدود الأساسية للسلوك الإسلامي بحسب
النصوص القطعية لا يمكن التنازل عنها باسم
الدين , لأنه عندئذ تضيع معالم الإسلام .
( وقُلِ الحقُّ من ربّكم فمن شاءَ فليؤمن ومن شاء فليكفر ) .
إنّ عموم البلوى لا يبيح فعل المعاصي التي
تحريمها تعبير عن نظام الإسلام وتخطيطه
للحياة البشرية الصالحة , وإنما يعتبر عموم
البلوى عذراً فيما أصبح من المتعذر اجتنابه
دون حرج عام , كالنظر دون تقصّدٍ وتتبعٍ
للمرأة المتكشفة اليوم وهي تملأ الشوارع التي
لا بدّ للرجل أن يمشي فيها , ومراكز الأعمال
التي لا بدّ له أن يطرقها أو يوجد فيها .
ومثل ذلك يقال في قبض الموظفين المسلمين
رواتبهم اليوم من الخزينة العامة التي اختلط
فيها المال الحلال بالحرام , وليس للموظف
طريق لاجتنابها إلاّ أن يترك العمل في وظائف
الدولة , وفي هذا ما فيه من الحرج علاوة على
مايؤدي إليه من أن تصبح وظائف الدولة
وأعمالها وقفاً على الذين لا يبالون ما
يفعلون , لا يهمهم تمييز بين حلال وحرام !
والخلاصة : أنّ شيوع الفسق لا يبيحه بحكم
عموم البلوى , لأنّ الفسق وانتهاك المحرمات
لا يمكن أن يكون حاجة عامة أو تتوقف عليه
حاجة عامّة للمسلمين بحال من الأحوال , وإنما
تخضع إباحة المحظورات لقاعدة الضرورات
بحدودها الشخصية وشرائطها وقيودها , مثل
كشف العورة للطبيب لأجل المداواة من مرض .
فالضرورات مقيا سها شخصي , وهي تقدر
بقدرها , أما قاعدة عموم البلوى فمقياسها عام ,
وأساسه تعذر الاجتناب , وإن فعل المحرمات لا
يعتبر من هذا القبيل .
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم :" ما
نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما
استطعتم " رواه البخاري ومسلم .
ومتى كان حضور المرأة المسلمة في المؤتمرات
والندوات مكشوفة الرّأس , مصفّفة الشعر ,
عارضةً لجمالها ومفاتنها , متى كان ذلك حاجة
عامة يتعذر اجتنابها ?
ولا شك أن كشف المرأة رأسها وشعرها الذي
هو من أهم معالم زينتها هو من الفسق بعد قول
الله تعالى في محكم قرآنه :( وليضربنَ
بخُمرهنّ على جيوبهنّ ولا يبدين زينتهنّ إلاّ لبعولتهنّ ) .
فالمرأة التي تفعل شيئاً من هذه المحرمات
القطعية إذا فعلت ذلك وهي معتقدة لحرمتها
مؤمنة بها , ولكنها ضعيفة الإرادة والشخصية
لا تستطيع الامتناع عنها , هي عاصية حكمها
كسائر من يرتكبون المعاصي وهم مؤمنون ,
ويستحقون العقوبات الزاجرة لو كان هناك حكم
إسلامي سائد .
وأما إن كانت المرأة مستبيحة لشيئ من
المحرمات القطعية , أي : غير مؤمنة
بحرمتها , فإنها تخرج بذلك عن الإسلام والعياذ
بالله . وهذه قاعدة لا خلاف فيها بين علماء
الشريعة من صحابة رسول الله صلى الله عليه
وسلم فمن بعدهم من أئمة الإسلام , ومعظم
الناس والنساء المنطلقات اليوم عنها غافلون .
هدانا الله تعالى إلى سواء السبيل .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .