بسم الله الرحمن الرحيم
هذه قاعدة شرعية مهمة لكل من تصدّر للدعوة إلى الله فينبغي العناية بها وفهما وفقهها .
حصول الغرض الشرعي ببعض الأمور لا يستلزم إباحتها
وبلفظ آخر أن حصول المقصود الشرعي من طريق لا يدل على مشروعية ذلك الطريق .
و الأدلة على هذه القاعدة كثيرة منها على سبيل الاختصار ما أخرجه الترمذي رحمه الله عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ويل له ويل له " .و وجه الدلالة في هذا الحديث : أن إدخال السرور على المسلم و إيناسه و إبعاد السآمة عنه أمر مطلوب و محمود شرعاً ، ومع ذلك لم يكن الكذب جائزاً مع حصول المقصود الشرعي من خلاله . و للفائدة نذكر بعض الأمثلة :
1- وُضَّاع الحديث الموضوع وضعوا هذه الأحاديث لغايات عديدة منها تتويب العصاة و ترغيبهم وترهيبهم ، ولا يشك عاقل أن الجاهل بكون ذلك الحديث أو غيره موضوعاً أنه يحصل له بسماعه ما يحرك قلبه ، ويرغبه بالتوبة إلى الله ، ولم يقل أحد بجواز وضع الأحاديث وروايتها لحصول المقصود الشرعي من خلالها .
2- أن الطرق الصوفية على اختلافها و الإجماع على بدعيتها وضلال أهلها إنما كان المقصود لأصحابها من سلوكهم تلك الطرق الوصول إلى الله ومن ذلك السماع الصوفي ، ولا ينكر أحد أن بعض السماع الصوفي يحصل به تحريك القلب و تهييجه بل وقد يتوب بعض العصاة – الجهلة بالطريق الشرعية – من خلال بعض تلك الطرق ومن تلك الطرق السماع فيحصل بذلك مقصود شرعي وهو توبة العباد و رجوعهم إلى الله. و ليس ذلك بدليل على إباحة السماع الصوفي أو الطرق الصوفية ، فكيف بمشروعيتها .
3- لا ينكر عاقل أن أهل البدع على اختلاف طوائفهم يدعون إلى الله -بزعمهم- وأن بدعوتهم تلك يدخل بعض الناس في دين الإسلام ولكن على غير السنّة ، ودخولهم في الإسلام مع البدعة خير من الكفر ، ولم يكن ذلك مبرراً لدعوى صحة مسلكهم أو مبرراً لترك الطعن في أهل البدع وطوائفهم بحجة أنه يهتدي بدعوتهم أناس كثير .
ومن هنا نعلم أن حصول الغرض ببعض الشيء لا يلزم إباحته وأن حصول المقصود الشرعي بشيء لا يلزم من ذلك القول بمشروعيته ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى ( 11/586 ) : " فليس لأحد أن يسلك إلى الله إلا بما شرعه الله لأمته ، فهو الداعي إلى الله بإذنه ، الهادي إلى صراطه ، الذي من أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار ، فهو الذي فرّق الله به بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، والرشاد والغي " ا.هـ وقال رحمه الله في الفتاوى ( 11/594 ) وهو يبين أن بعض الناس اتخذ السماع وسيله لبعض المقاصد المشروعة من التأثير بالنفس ، وحثها على الزهد والعبادة وأنه يعلق القلب بالله ، قال : " وبالجملة فعلى المؤمن أن يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك يقرب إلى الجنة إلا وقد حدّث به ، ولا شيئاً يبعد عن النار إلا وقد حدّث به ، وأن هذا السماع لو كان مصلحة لشرعه الله و رسوله ، فغن الله تعالى يقول : { اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } [ المائدة:3 ] وإذا وجد فيه منفعة لقلبه ، ولم يجد شاهد ذلك لا من الكتاب ولا من السنّة لم يلتفت إليه " ا.هـ و ذكر الإمام الذهبي في كتابه ميزان الاعتدال ( 2/165 ) في ترجمة الحارث المحاسبي قال : " رواية الحافظ سعيد بن عمرو البردعي قال : شهدت أبا زرعة وقد سئل عن الحارث المحاسبي وكتبه ، فقال للسائل : إياك و هذه الكتب هذه كتب بدع وضلالات ، عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغنيك . قيل له : في هذه الكتب عبرة . فقال : من لم يكن له في كتاب الله عبرة ، فليس له في هذه الكتب عبرة ، بلغكم أن سفيانَ ومالكاً و الأوزاعي صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس ؟! ما أسرع الناس إلى البدع ! " ا.هـ هذه الكتب التي حذّر منها أبو زرعة رحمه الله إنما حذّر منها لمخالفتها الهدي النبوي والمنهج الرباني في الدعوة إلى الله و تتويب الناس ووعظهم ، حذّر منها مع وجود العبرة فيها وترقيق القلوب ، ولم يكن حصول المقصود الشرعي وهو ترقيق القلوب وعبرتها و رجوعها إلى الله بهذه الطريق مبرراً لتسويغه . وبهذا يعلم أن كثرة المهتدين من خلال طريق من الطرق ليست بدليل على صحة ذلك الطريق حتى يعرض على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والحمد لله رب العالمين
صالح السويح
9/1/1429