سلسلة: درك البصيرة للنجاة من الفتن الخطيرة (15)
القِيَامُ بالأَمْرِ والنَهْي - إِيمَاناً واسْتِقَامَةً - مُوجِبٌ للإِمَامَةِ في الدِّين ِ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه .
أما بعد: فإن الحكم الشرعي قسيم للخبر الشرعي، وهما مندرجان تحت الخطاب الإلهي؛ فإن كلام الله – تعالى – خبر وطلب، كما قال – تعالى –:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام .
والأحكام الشرعية مدارها على الأمر والنهي، فبإيفاء حقوقهما تتميما، والقيام بواجبهما ابتلاء، ومراعاة أحوالهما تكميلا، تحصل سعادة الدارين، وتتحقق الإمامة في الدين .
ومما يدل على " ذلك هذه الآية الكريمة:{وَإِذِ ابْتَلَى إبراهيم رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124] أي: قام بهن، قال: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } أي: جزاء على ما فعل ، كما قام بالأوامر، وترك الزواجر، جعله الله للناس قدوةً، وإماماً يقتدى به، ويحتذى حذوه} ". (قاله ابن كثير في "تفسيره: 1/405").
وهذا يتناول الكلمات الشرعية عامة، المشتملة على الأحكام الشرعية كاملة، (عقيدةً)، (وعملاً).
والمطلوب الشرعي: أمراً، أو نهياً – قولاً و فعلاً - مناط حصوله: قول وعمل العبد، الظاهر والباطن، فبينهما من التلازم ما تنبني عليه مطالب الشريعة العامة، ومقاصدها التامة.
وإن من المقررات الشرعية، والأصول المرعية، والحقائق الإيمانية، أن ما يصدر عن العبد قولاً أو فعلاً مبنيٌ على علم القلب منشأ، وعلى عمله استقامة .
أي أن منشأ الأقوال ، والأعمال الصادرة من العبد هو الحقائق العلمية القائمة في قلبه، وأن استقامته عليها واستدامته لها بسبب أحواله الإيمانية وهي أعمال قلبه . وهذه الحقيقة الجلية هي حقيقة فطرية، شرعية؛ إذ ملحظ إدراكها: الفطر العقلية، والدلائل الشرعية، وهي من الضرورات لأن مناط تصورها الجبلة البشرية كونه حارثاً وهماماً .
فإن العلم بحقيقة الإنسان - واقعاً، وشرعاً – تدل دلالة قاطعة على أن أصل أقواله، وأعماله الإرادية : ما ينعقد عليه قلبه من إيمان بتصديقاته، وتحركاته .
وتحقيق هذا المطلب مقصد شرعي انبنت عليه أحكام الشريعة، فمن رام تحصيلها دون النظر في هذا الأصل المتقرر: بفهم معناه، ومعرفة موجباته، وإدراك مقتضياته، اجتلاباً لأسباب بقائه، واجتناباً لموانع دوامة؛ فإنه يكون عن الفقه في معزل، وعند الفتوى في زلل .
ونبين المقصود: بأن كلَّ حركةٍ إراديةٍ منشؤها ما يقوم في القلب من تصور ( المنفعة )، فإن وفق العبد لمصدر (معتبر) يتلقى منه علومه، ومعارفه في معرفة النافع و الضار، فإن قلبه يكون كالسراج المتطلب لجذوة نار توقد فتيلته فإذا قدح زند الوحي بفتيلة الفطرة تنور قلب العبد بالمعارف الإلهية، والحكم الربانية .
فأجل منافع العباد على الإطلاق الغاية التي خلقوا لأجلها، وهي ( عبادة الله ) وهي (المنفعة المحضة) وعنها تتفرع كل منافع الدنيا والآخرة، والله – سبحانه – قد فطر العباد مجبولين على الاستسلام له - إقراراً ومحبةً - .
وهو إقرار جملي لا تتم إنارته المثمرة للأحوال الإيمانية القلبية والبدنية حتى تلتئم معه المعاني الرسالية التفصيلية التي تفصل ما يجب لله – تعالى من الحقوق والواجبات . وعند اكتمال استنارة القلب تتولد بذرة المحبة، في أرض المعرفة والإيمان فتنبت شجرة الانقياد مثمرة الكلم الطيب، والعمل الصالح .
ثم هو بعد ذلك يحتاج إلى إستدامتين: (دوام الإنارة)، (ودوام الثمرة) .
¯ أما (دوام إنارة القلب) فهو متوقف على مادة تمده، وهي النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، والمأثور عن السلف الأول من هذه الأمة .
¯ وأما (دوام ثمر شجرته) فهو متوقف على موجبات بقائها من محبة الله – تعالى – ورجائه وخوفه . التي هي أعمال القلب ومحركاته .
فإذا كمَّل العبد هذه المقدمات كَمُل عنده امتثال الأمر والنهي – علماً وعملاً – فإن ضم إلى ذلك الدعوة إلى شرع رب العالمين والصبر استحق موضع الإمامة في الدين، كما قال – تعالى - : {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ}[السجدة:24] .
فبذلك تكون الإمامة في الدين، وتحمل الراية بيقين، وتصطف كتائب الموحدين، وتتحد كلمة المؤمنين، على نهج سيد المرسلين، كما يحب رب العالمين {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}[الصف:4] .
وعوداً على بدء فقد قال السعدي – رحمه الله – في:(تفسيره:65): " فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام، وأدرك هذا، طلب ذلك لذريته، لتعلو درجته ودرجة ذريته، وهذا - أيضاً - من إمامته، ونصحه لعباد الله، ومحبته أن يكثر فيهم المرشدون، فلله عظمة هذه الهمم العالية، والمقامات السامية.
فأجابه الرحيم اللطيف، وأخبر بالمانع من نيل هذا المقام فقال: { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } أي: لا ينال الإمامة في الدين، من ظلم نفسه وضرها، وحط قدرها، (لمنافاة الظلم لهذا المقام)، فإنه مقام آلته الصبر واليقين، ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة، والأخلاق الجميلة، والشمائل السديدة، والمحبة التامة، والخشية والإنابة، فأين الظلم وهذا المقام؟ ودل مفهوم الآية، أن غير الظالم، سينال الإمامة، ولكن مع إتيانه بأسبابها ".
اللهم {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}.

بقلم الشيخ :
ابي زيد العتيبي.