المخطوطات الإسلامية بين الضياع والنجاة
محمد عبدالحليم بيشي
تعتبر مكتبة المخطوطات الإسلامية أضخم المكتبات في التراث العالمي، فهي التي فاقت في إنتاجها مختلف الحضارات اليونانية والهندية والصينية والفارسية والمصرية القديمة، وتجاوزت بمفاوز المنتج اللاتيني الأوروبي في القرون الوسطى، ويعدّ المكتبيون في ذلك حوالي ثلاثة مليون مخطوط عربي. والرقم مستصغر في جنب ما حوت لنا كتب الفهارس والطبقات والمعاجم والبرامج والأثبات والإجازات وتاريخ المدن، فقد كانت مكتبة الخليفة المستنصر الأموي بقرطبة تحوي وحدها أربعة مائة ألف مخطوط، وأما مكتبات الحكمة ببغداد والقاهرة ونيسابور فجلّ من أن تحصى دفاترها وفهارسها.
تعرض هذا التراث الضخم لنكبات عديدة قلصت من بعض حضوره، واختلفت المنازع والعلل في ذلك، ولكن الصيغة المثلى التي تصدق على ما وقع عليه هي النكبة، أو النكبات التي طالته مشرقا ومغربا، ويمكن التطواف ببعضها:
أ- الحروب الضارية: سواء التي حاقت بالأمة من أعدائها، أو التي نالت منها بسوء تدبير أفرادها من الذين كان بأسهم بينهم شديدا، وإذا كان الأمر جللا في الأولى، فإنه أقل وطأة في الثانية، حيث تعد حالات النكبات قليلة، فليس من عادة المسلمين حرق الكتب أو غيرها، وإنما كان مدار الأمر على نقل المكتبات التي كانت الدول تتباهى بها، والأمثلة على ذلك معدودة محدودة لا تشوّه صورة الاعتداد بالكتاب والتنافس فيه بين السلط التي حكمت ديار المسلمين.
لكن الأنكى في هذا كله هي الحروب ضد المسلمين، وعلائم ذلك كثيرة بدء من الحروب الصليبية في المشرق حيث عاث الصليبيون في مكتبات مدن بيت المقدس وطرابلس وعكا حرقا وطمسا، وما فعله المغول بمكتبات وخزائن المدن التي مروا بها مثل هراة وبلخ ونيسابور ومرو والري، ثم كانت الفاجعة بإحراق تراث بغداد، إذ يقال: إن مجمل ما حرّقوه ورموه في دجلة يزيد عن المليون مخطوط، ويقابل ذلك ما فعله جهلة الإسبان في حروب الاسترداد وحرق مكتبات طليطلة وقرطبة وغرناطة، وجرى أيام محاكم التفتيش أن امتلاك أي كتاب عربي يقود صاحبه إلى منصات المحارق المرعبة. ومن الصور الحديثة لهذا الاتلاف ما تعرضت له خزائن آسيا الوسطى في بخارى وسمرقند أيام غزو الروس القياصرة، أو البلاشفة.
ب- الحرق والاتلاف: وهو قليل مقارنة بما سبق، حيث عنّ للبعض حرق أو دفن كتبهم تورعا، أو تراجعا، أو استقلالا لما خطته الأيدي، أو عتبا على الزمان، والشواهد في هذا قليلة من بعض المحدثين، أو من مثل أبي حيان التوحيدي، ويمكن العود إلى كتاب “حرق الكتب في التراث الإسلامي” لناصر الحزيمي الذي تتبع بعضا من تلك النماذج المنزورة.
وأما الحرق المؤسسي المبني على أحكام قضائية أو تدابير معينة فهو يسير، والغالب أن المُتلف أو المحروق تكون له نسخ أخرى يجود بها الزمن، وشواهد ذلك معدودة مثل ما حصل لإحياء علوم الدين للغزالي أو كتب ابن رشد الحفيد في الأندلس، أو بعض كتب المنجمين والفلاسفة المسلمين، أو ما حصل من بعض السلط في حرق كتب مخالفيها المذهبيين، ولكن ذلك كان قليلا في بحر التسامح والقبول المذهبي الذي عاشت فيه ديار الإسلام الرحبة.
ج- السرقة الاستعمارية: وهي السرقة الممنهجة التي قام بها رواد الاستشراق والرحالة والمكتشفون الذين كانوا يجرون خلف الجيوش الجرارة التي أطبقت على العالم الإسلامي، وضاعت عديد المؤلفات التي طمرت تحت الأرض حتى لا ينالها المصير المؤلم، فانتقلت آلاف المخطوطات إلى عواصم الدول الغربية، ثم بدأت الكتب تخرج تباعا محققة من جامعاتها (مكتبة بريل بجامعة ليدن الهولندية على سبيل المثال) وغيرها، وربما كانت تلك هي النافعة الوحيدة من الضارة التي حاقت وأحاطت بالكتاب الإسلامي، وشاهد ذلك الجهود التي قدمها المستشرق كارل بروكلمان في موسوعته “تاريخ الأدب العربي”.
ومضات النجاة
وعلى الرغم من كل تلك النكبات والفواجع التي نالت المخطوطة الإسلامية المختلفة اللغات (العربية، الفارسية، التركية)، إلا أن ومضات النجاة والعودة للظهور والاستواء على السوق كانت تبزغ من حين لآخر لما كتبه الله عز وجل لهذا الدين من البقاء والظهور وديمومة الرسالة، ولجهود المسلمين وتفانيهم في خدمة الكتاب والاعتناء بالوراقة، ولنا على ما ذكرنا شواهد منها:
أ- الهبة العلمائية: في العهد المملوكي، والتي تبارت في كتابة الموسوعات المطولة لاستيعاب واسترداد ما أتلفته العوادي بالمشرق، ونماذج ذلك كثيرة في مؤلفات الذهبي والسخاوي والصفدي والكتبي والسيوطي والقلقشندي، وهي جهود محمودة الذكر لأنها حافظت على عديد الرسائل والكتب المفقودة من العصر العباسي.
ب- الجهود المؤسسية: لبعض الدول التي تسابقت في الاستكثار والاستنساخ للمخطوطات، والنموذج الأمثل هو ما فعله الملك موسى منسي حاكم إمبراطورية مالي المسلمة (ت 1337م)، وصاحب الرحلة الحجية الشهيرة الثي نثر فيها الذهب على كل من يقدم أو ينسخ له مخطوطا، وعاد محملا بآلاف المخطوطات التي أودعها عاصمته تمبكوتو حتى صارت من أشهر مدن المخطوطات في إفريقيا.
والأنموذج الثاني هو جهود سلاطين بني عثمان الذين تنافسوا في بناء وإنشار المكتبات، وأسسوا دواوين النسخ، واستجلبوا الكتب من كل الإيالات العثمانية حتى صارت إسطنبول مليئة غصى بنفائس المخطوطات المودعة في السليمانية وغيرها.
ومن فرائد الدهر أن يقوم بعض عقلاء الإسبان بإنشاء مكتبة في دير الأسكوريال قرب مدريد سنة (1567)، والذي ضم بضعة آلاف من المخطوطات الناجية من المحرقة الكاثوليكية، ثم تعزز هذا الدير بالكنز المكتبي الكبير عندما استولى القراصنة على مراكب السلطان زيدان السعدي حاكم المغرب سنة (1620م)، وكانت تحمل زهاء أربعة آلاف مخطوط، وعلى الرغم من ذلك فقد تعرض الدير لصاعقة أحرقت ما به من مخطوطات، ولم ينج مها إلا ألفان من الكتب النفيسة.
ج- الجهود المعاصرة: للأفراد والمؤسسات الأهلية والرسمية، وهو ما كانت فاتحته في العمل الجبار للشيخ طاهر الجزائري الذي أنشأ المكتبة الظاهرية بدمشق، واستجلب نفائس مخطوطاتها من الشام، وما فعله الشيخ محمد بن علي السنوسي في مكتبة الجغبوب بليبيا، ثم كانت الخطوة الكبيرة بإنشاء دار الكتب في القاهرة، وبعد استقلال كثير من الدول تنافست في ذات الصنيع في تجميع المخطوطات وتصويرها كما هو الشأن في الحزانة الحسنية بالرباط، أو مكتبة الملك فهد بالرياض، أو دار المخطوطات بالعراق وغيرها.
ولا يمكن إغفال الإصلاحات الحديثة التي باشرها شيوخ الأزهر والزيتونة والقرويين في إنشاء مكتبات ملحقة بهذه الجامعات، وكذا التأسيس للخزائن الكبرى في الحرمين الشريفين، حيث كانت العادة أن يودع الحجاج من العلماء من أصقاع العالم الإسلامي بعضا من تآليفهم للحرمين الشريفين.
ومن الجهود الأهلية المشاد بها جهود عديد الزوايا والمعاهد الأهلية التي تنافست في استنساخ المخطوطات وتجميعها مثل المعهد القاسمي بالهامل بالجزائر، والزاوية الكتانية والحمزاوية بالمغرب، والمدارس الدينية بلكنهو بقارة الهند، والشواهد في هذا كثيرة كجهود مجمع الماجد بدبي، والشيخ نظام يعقوبي بالبحرين، وعديد المكتبات الشخصية المتناثرة في أرجاء العالم الإسلامي ممن يحرص أصحابها على نفائسها تبركا، أو تزينا، أو تشبعا بما لم يعطوا، وهم يضنون بها على الباحثين والراغبين في نفع الدين والأمة.
والخلاصة أن الأمة استدركت بعضا من نكبات مخطوطاتها وإرثها الحضاري بهذه الجهود التي أنقذت المتاح من الميراث المفقود، وهي جهود تستحق الإشادة، وتحتاج إلى مزيد من التقويم والتأهيل، وأهمها المعركة الأخرى في استعادة الميراث المسروق الذي تتزين به خزائن جامعات ومتاحف الغرب، وتلك محنة أخرى تستدعي الاستنفار الأهلي والمؤسسي لإعادة المغصوب إلى أهله، فأمة لا أرشيف لها لا مستقبل مكين لها.