تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 29

الموضوع: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي


    العناصر:
    - مقدمة الأستاذ فهر بن محمود شاكر
    - مقدمة الأستاذ محمود شاكر
    المدخل الأول: تاريخٌ حَيَّرني ثم اهتديتُ
    ... (1) سبب تأليف المدخل الأول.
    ....(2) معنى الإعجاز وتفسيره لغةً.
    ... (3) سبب تطلب المؤلف تفسيرَ لفظ الإعجاز والمعجزة لغة.
    ....(4) لفظ التحدي، معناه ونشأته.
    ....(5) علاقة لفظ التحدي بلفظي الإعجاز والمعجزة.
    ... (6) تولد لفظ الإعجاز عند المتكلمين.
    ... (7) حجج المتكلمين في تفسير لفظ الإعجاز.
    ... (8) نقض حججج المتكلمين في تفسير لفظ الإعجاز.
    ... (9) تاريخ نشأة لفظ الإعجاز.
    ... (10) أسباب ظهور لفظ الإعجاز عند النظام والجاحظ.
    ... (11) تسمية الإعجاز بالصرفة ونقضها.
    ... (12) تردد الجاحظ في مفهوم الصرفة.
    ... (13) تتمة الحديث في نقض الصرفة.
    ... (14) كتاب نظم القرآن وتأسيس الجاحظ علم إعجاز القرآن.
    ... (15) تتمة الحديث عن تأسيس الجاحظ وظهور مصطلح (بلاغة القرآن) عند الواسطي والرماني.
    ....(16) بحث أبي سليمان الخطابي وأبي بكر الباقلاني عن بيان كيفية بلاغة القرآن.
    ... (17) محاولة عبد الجبار الهمداني وعبد القاهر الجرجاني بيان أوجه بلاغة القرآن.
    ... (18) تتمة الحديث عن محاولة عبد القاهر الجرجاني بيان أوجه بلاغة القرآن.
    ... (19) أسباب عطن عبد القاهر الجرجاني، وبيان المؤلف لمعنى الآية.
    ... (20) بيان المؤلف لأصل منهجه في البحث: (تصحيح المبادئ خطوة خطوة بتتبع ما كُتب في القديم والحديث).

    المدخل الثاني: تذوُّق رَاعني حتَّى تذوَّقت
    ... (1) تعريف المؤلف بكتاب الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي.
    ... (2) أصول منهج مالك بن نبي في كتاب الظاهرة القرآنية.
    ... (3) تأصيل تاريخي لمحنة العقل الحديث وتأثيرها على طلب دلائل إعجاز القرآن.
    ... (4) توجيه مالك بن نبي لخطر مقولة مرجليوث في الشعر الجاهلي.
    ... (5) توجيه المؤلف لخطر مقولة مرجليوث في الشعر الجاهلي وتوضيح مقصد مالك بن نبي من كتابه.
    ... (6) تحديد معنى إعجاز القرآن.
    ... (7) ضبط أمور متعلقة بإعجاز القرآن.
    ... (8) صفة القوم الذين تحداهم القرآن وصفة لغتهم.
    ... (9) أوجه دراسة الشعر الجاهلي.
    ... (10) كيف بقي الشعر الجاهلي إلى يومنا هذا، وأسباب ضعف الإقبال على دراسته.
    ... (11)أثر دراسة الشعر الجاهلي على فتنة ترجمة القرآن.
    ... (12) خاتمة.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي

    مقدمة الأستاذ فهر بن محمود شاكر

    قال فهر بن محمود محمد شاكر: (بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله سيدنا محمد عبده ورسوله، المبلغ عن رب العالمين رسالته بلسان عربي مبين. وعلى أبويه الرسولين الكريمين إبراهيم وإسماعيل الرسولين الكريمين أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وعلى صحابتهم المصطفين الأخيار مصابيح الهدى وقدوة الأمة إلى يوم الدين.
    أما بعد ....
    فإن الحديث عن إعجاز القرآن لهو من أكثر الموضوعات جدلاً وتشعبًا ولا يزال الحديث عنه دائرًا من كل وجه فهو تارة قمة البلاغة العربية والبيان الإنساني، وتارة أخرى هو للإعجاز العلمي مثل يحتذى وبيان شاف. والناس منقسمون بين هذا وذاك كل له حججه يعرضها وينافح عنها بكل ما أوتي من قوة. ولكن أي هذه الآراء صحيح وأيها أقرب إلى بيان ما فاق به القرآن الكريم جميع الكتب السماوية المنزلة قبله، فأعجز البشر قاطبة عن معارضته على الرغم من التحدي القائم للبشر منذ نزول الآيات تلو الأخرى تطالب البشر على اختلاف ألوانهم أن يأتوا بمثله فلا يقدرون على ذلك ويقفون معجَّزين أمام آياته وسوره لا يسعهم سوى البحث عن أوجه إعجازه علَّهم يصلوا إلى استنكاه من أي وجه جاء القرآن معجزًا للثقلين.
    [مداخل إعجاز القرآن: 3]
    ومن هنا جاء كتاب الأستاذ محمود محمد شاكر، باحثا عن وجه إعجاز القرآن من وجه آخر مخالف لما سار عليه من سبقه ممن عرض للإعجاز. فالوجه الذي دلف منه الأستاذ شاكر إلى إعجاز القرآن لم يكن محاولة لبيان الإعجاز القرآني ذاته، بل هو محاولة لتأريخ البحث في علم إعجاز القرآن كيف جاء؟ ولم جاء؟ ثم هو فوق ذلك كما قال الأستاذ شاكر في مطلع المدخل الأول: (وهذه الفصولُ الثلاثة التي كتبتُها عن (إعجاز القرآن)، تقصُّ عليك هذه القصة الطويلة العريضة في صفحات قلائل، وبمنهجي في تحليل الكلام وتحليل التاريخ، لأنه المنهجُ الذي التزمته فنجوت من شر مُستطير، ومن بلاءٍ ماحقٍ. ولكني أكتب هذه القصة بعد أن انطمستْ مَعَالم كانت لائحة قديمًا ثم عَفَتْ. وبعد أن عزمتُ على أن أعْفِيَك من المسالك الوعرة، والأشواك المتشابكة، والظلمات المحيّرة، وحتى تألف طريقي وتعرفه معرفة تسهِّل علي وعليك اقتحام المسالك والأشواك والظلمات). فهذا الكتاب إذن ذو وجهين الأول تأريخٌ لعلم إعجاز القرآن كما وضعه علماؤنا قديمًا، والثاني بيان لمنهاج العلماء في النظر واستقراء لطرائق نظرهم ومداخلهم في البحث عن الإعجاز يعتمد على تحليل الكلام وتحليل التاريخ تحليلاً يهدف [لتأسيس
    [مداخل إعجاز القرآن: 4]
    علم خاص هو (علمُ إعجاز القرآن)، يُضارع (علمَ البلاغة)، الذي استدعى نشأتَه بحثُ أهلِ القرنين الثالث والرابع في (إعجاز القرآن). لذا كان البحث عن تاريخ نشأة كلمة (إعجاز القرآن) هو الأساس الأول الذي يصل بنا إلى تأسيس علم (إعجاز القرآن). وهكذا جاء هذا الكتاب نمطًا فريدًا بين كتب إعجاز القرآن، فهو لم يعن كسابقيه ببيان وجه الإعجاز، بل كانت جل عنايته منصرفة إلى تأسيس علم لإعجاز القرآن مستمدة أصوله من مباحث السلف.
    هذا والكتاب مقسم إلى ثلاثة مداخل كل منها يقص تاريخ (إعجاز القرآن) كما نشأت صورته عند الأستاذ شاكر، كل مدخل منها ينظر إلى هذا تاريخ الإعجاز من وجه غير الأول، لكنها جميعًا تصب في آخر الأمر في معين واحد ألا وهو تأسيس علم (إعجاز القرآن).
    وقد نشر المدخلان الثاني والثالث منفصلين عن الأول، أما الثالث فقد نشر في كتاب مستقل بعنوان (قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام)، وأما الثاني فقد كان مقدمة لكتاب (الظاهرة القرآنية) لمالك بن نبي. لذا فقد آثرت ضم المدخلين الأول والثاني في كتاب واحد لتكون الفائدة بهما أجدى.
    [مداخل إعجاز القرآن: 5]
    بيد أن هنا أمرًا لا بد من التوقف عنده لبيانه، وهو أن هذه المداخل تقص علينا أيضًا جزءًا من سيرة حياة الأستاذ شاكر مع العلم وسيرته مع الكلمات وتاريخها وقد قال في مبدأ المدخل الثاني: (وقد كان كتب الله عليَّ أن أقف مع هذا اللفظ زمانًا طويلاً، حائرًا مترددًا، وخائفًا متلددًا، وجازعًا متحفظًا، وكاتمًا حيرتي عن قلمي ولساني، حتى تصرَّمت سنوات، وأنا علي شَفَا حفرةٍ من النار. فأنقذني الله برحمته وفضله، وسلمتُ بحمده سبحانه بعد مخالطة العطب). وهذا الذي ذكره الأستاذ شاكر من أصعب الأمور وأشقها على النفس إذ تتركها في حيرة لا يخرج منها بريئًا إلا بعد طول مجاهدة ومعاناة تراهما ظاهرين ظهورًا بينا في ثنايا حديثه في المدخلين.
    وهنا أمر أخير لا بد من الإشارة إليه وهو أن المدخلين الثاني والثالث قد جاءا تامين أما الأول وهو أحدثهن كتابة كما ذكر الأستاذ شاكر لم يتمه، إذ وقف عند الفصل العشرون بادئًا فيه ثم لم يكمله، ولو كان فعل لكان فتحا وخيرا كثيرا جاءنا، لكن قضاء الأجل كان قد وافاه قبل أن يكمل المدخل الأول.
    رحمه الله رحمة واسعة جزاء ما قدم من علم للعربية والإسلام ودافع عنهما دفاعًا هان أمامه كل مرتخص وغال، ظل
    [مداخل إعجاز القرآن: 6]
    هكذا طيلة حياته سيفه قلمه لا يتركه ولا يحيد عن رأي صواب وحق بين حتى لو كان في هذا من المضرة والعطب ما فيهما. جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. ونسأل الله أني دخله فسيح جناته مع الأبرار والصديقين والشهداء.
    اللهم اغفر لنا خطايانا، وذكرنا ما نسينا، وألهمنا الصواب لنكون خير خلف لخير سلف.
    القاهرة في 2001 فهر محمود شاكر). [مداخل إعجاز القرآن: 3-7]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي

    مقدمة الأستاذ محمود شاكر
    قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما، والصلاة والسلامُ على المبلّغ عن ربه نبيِّنا محمد المبعوث رحمةً للعالمين، وصلي الله على أبَويْنَا إبراهيم وإسماعيل وسائر النبيين اللهم إنا نعوذ بك من الزّلل، ومن التسرُّع والخَطل، ومن تَرْكِ مخافتك، ومن العُجْبِ الْمْتلفِ، ومن فُضول القول، ومن التكلُّف في العمل، اللهمّ لا تكلنا إلى أنفسنا فنضِل ونَغْوَى.
    (إعجازُ القرآن)، لفظُ وُضِع في أواخر القرن الثالث للهجرة، ولم يَكَدْ حتى أحدث تاريخًا مستفيضًا رائعًا، شارك فيه أكبر علماء الأمة في اللغة والبيان والتفسير وعلوم القرآن وعلم الكلام. وسيظلُّ هذا اللفظ باقيًا، يحدث تاريخًا لا ينقطع، تشارك فيه أقلام العلماء والكتاب والباحثين. وقد كان كتب الله عليَّ أن أقف مع هذا اللفظ زمانًا طويلاً، حائرًا مترددًا، وخائفًا متلددًا، وجازعًا متحفظًا، وكاتمًا حيرتي عن قلمي ولساني، حتى تصرَّمت سنوات، وأنا علي شَفَا حفرةٍ من النار، فأنقذني الله برحمته وفضله، وسلمتُ بحمده سبحانه بعد مخالطة العطب.
    وهذه الفصولُ الثلاثة التي كتبتُها عن (إعجاز القرآن)، تقصُّ عليك هذه القصة الطويلة العريضة في صفحات قلائل، وبمنهجي في تحليل الكلام وتحليل التاريخ، لأنه المنهجُ الذي التزمته فنجوت من شر مُستطيرٍ، ومن بلاءٍ محاقٍ. ولكني أكتب
    [مداخل إعجاز القرآن: 8]

    هذه القصة، بعد أن انطمستْ مَعَالم كانت لائحة قديمًا ثم عَفَتْ وبعد أن عزمتُ على أن أعْفيَك من المسالك الوعرة؛ والأشواك المتشابكة، والظلمات المحيّرة، وحتى تألف طريقي وتعرفه معرفة تسهِّل عليَّ وعليك اقتحام المسالك والأشواك والظلمات، في كتاب آخر إن شاء الله أما هذا الكتابُ، فقد طويتُه على ثلاثة مداخل:
    المَدْخل الأول: تاريخٌ حَيَّرني ثم اهتديتُ.
    المَدْخل الثاني: تذوُّق رَاعني حتَّى تذوَّقت.
    المَدْخل الثالث: ثرثرةٌ أضجرتني حتى مَلِلْت.
    أما المدخل الثالث: فقد كتبته في شهر ربيع الأول سنة 1378 منذ سنواتٍ بعيدة، أداءً لحق الصحبة في الغُرْبة، بيني وبين صديقي مالك بن نبي رحمه الله. ثم مضى زمانٌ طويلٌ فاضطررت يومًا إلى أمر، فكتبتُ (المدخل الثاني) في مدينة الرياض في شهر ربيع الآخر 1396، ثم كتبت (المدخل الأول) فيما بين شهر شعبان وشهر رمضان سنة 1396، فكان أحدثهنَّ كتابةً أحقهن بالتقديم، وكان أقدمهن كتابة أحقهن بالتأخير. وبهذا الترتيب، تستطيع أن
    [مداخل إعجاز القرآن: 9]
    تتبين أن المدخل الثالث الذي كتبته منذ سنوات، قد جاء تفسيره والكشف عنه في المدخل الأول ثم في المدخل الثاني.
    فالمداخلُ الثلاثةُ، إذنْ، عرضٌ مقاربٌ لقصةِ أيامي التي عانيتُ فيها الحيرة ولقصة فكري الذي كادت تشرِّد به الثرثرة، ثم هي بعد ذلك وقبل ذلك، جهدٌ مقصِّر يريد أن يكفِّر عن تقصيره في حق القرآن العظيم بهذه الكلمات القلائل، ضارعًا إلى الله سبحانه أن يُفسِح في أيامي، ويعينني على متابعة القول في (إعجاز القرآن) على وجهٍ يمهِّد، إن شاء الله، لتأسيس علم خاص هو (علمُ إعجاز القرآن)، يُضارع (علمَ البلاغة)، الذي استدعى نشأتَه بحثُ أهل القرنين الثالث والرابع في (إعجاز القرآن). وستعلم ما أريد، بعد أن تقرأ هذه المداخل الثلاثة.
    اللهم إنا نعوذ بك من الحَوَر بعد الكَوَر، ومن الضلالة بعد الهدى، ومن المعصية بعد الطاعة، فسدِّدْنا واهدنا، واغفر لنا وتب علينا، واجعلنا من الراشدين.
    مصر الجديدة
    أبو فهر
    شارع الشيخ حسين المرصفي رقم 3
    محمود محمد شاكر
    [مداخل إعجاز القرآن: 10]).
    [مداخل إعجاز القرآن: 8-10]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي

    قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (المدخل الأول
    تاريخ حيرني ثم اهتديت {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا} [الرعد: 31]).
    [مداخل إعجاز القرآن: 11]

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي

    (1) سبب تأليف المدخل الأول
    قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): ( (1)
    لم يزل عسيرًا عليّ أشدَّ العُسْر، أن أروضَ نفسي وقلمي على الكتابة في شأن (إعجاز القرآن) وكلما أردتُ ذلك أحيطَ بي، يأخذني ما يأخذني من القلق والحيرة والترّدد، هيْبةً لما أنا مُقدِمٌ عليه، وتمضي الأيام والليالي ذواتُ العددِ، يقيدني الفَرَق والإشفاق والجَزَع حتى أنصرف عن الكتابة بمرَّةٍ، لا لشيء، إلا لأني أجدُني قد صرت لا أملك إلا إرادةً لا حيلة لها في عجزها إلا التمني، ومع التمني الإرجاءُ والتأخير، ومع الإرجاء فتورُ الهمة، ومع التأخير زوال الإرادة ثم انصرافها عن شيء إلى شيء غيره. وهذا عيب غالبٌ عليَّ لم أزل أعانيه منذ النشأة الأولى، أعياني أن أعالجه على تطاوُل الأيام، وسببُ هذا العيب الغالب أني استقبلتُ ريْعانَ شبابي (سنة 1919 للميلاد) مغموسًا في الثرثرة: ثرثرةِ التعليم في مدارسنا، ثم ثرثرةِ رجال السياسة، وثرثرةِ أقلام الصحافة، وثرثرةِ أهل الأدب والفكر، وثرثرةِ الطوائف من أصحاب الديانة، وما لا أحصيه عدًّا من ألوان هذه الثرثرات كنت يومئذ غضَّ الإهاب، فتركت الثرثرةُ في نفسي وفي قلبي وفي فِكْري نُدوبًا عميقة مخيفةً، لم يزل بعضها يلازمني، لأن الثرثرة لم تنقطع بعدُ، بل زادت وطغت في زماننا هذا.
    [مداخل إعجاز القرآن: 12]
    فلما فارقتُ المدرسة الثانوية إلى الجامعة لأول نشأتها، غمرتني ثرثرةٌ مدمرةٌ كان لها أبلغُ الأثر في حياتي، هي ثرثرة الحديث عن (الشعر الجاهلي) وأن الذي في أيدينا منه، مما يُسمَّى شعرًا جاهليًا، مصنوعٌ موضوعٌ منحولٌ كله، صنعته الرواة في الإسلام، وأن هذا الذي عندنا منه: (لا يمثل شيئًا، ولا يدلُّ إلا على الكذب والانتحال). وهذا لفظُ صاحب الرأي بنصه.
    سمعتُ هذه الثرثرة بأذني طالبًا في الجامعة، وقرأتها يومئذٍ مرارًا بعيني وعلى أنها لم تَزِد قطُّ على أن تكون ثرثرة فارغةً، كما استيقنتُ ذلك فيما بعد، إلا أنها كانت ثرثرةً صادفتْ قلبًا غضًا وفكرًا غريرًا، ونفسًا مغموسةً في ضروبٍ مختلفةٍ من ثرثرة زمانها، فأحدثت في جميعها رجَّةً ممزِّقة مدمِّرة، وبعد لأي ما نجوتُ من شرها غريبًا وحيدًا مستوحشًا، أعاني في سرِّ نفسي من الغربة والوحدة والوحشة ما أعاني. وشرُّ ما لم أزل أعانيه حتى اليوم، هو القلق الكامن تحت الاطمئنان، والحيرة المستخفيةِ من وراء اليقين، والتردد المستكنُّ في ظل العزيمة، وهذه الثلاثة هي التي تلد الهيبة المفْضِيَة إلى الإرجاء والتأخير.
    ومع أن هذا التشكيك في صحة ما بأيدينا من الشعر الجاهلي، لم يكن في حقيقته سوى ثرثرة فارغة، إلا أنها منذ بدأت،
    [مداخل إعجاز القرآن: 13]
    رمتْ بي في الأمر المخوفِ، وهو النظرُ في شأن (إعجاز القرآن)، لأن أصحاب هذا الشعر الجاهلي، هم الذين نُزِّل عليهم القرآن العظيم، وهم السابقون الذين آمنوا بأنه كلام الله سبحانه، وبأن التّاليه عليهم هو رسول الله إليهم وإلى الناس كافة، صلى الله عليه وسلم. فلما خَلصْتُ، بعد زمان طويل، من رجفة هذه الثرثرة، ناجيًا من شرها بحمد الله واسترحتُ، كان عُقْبَى الراحة، بعد هذه الرجفة المتمادية، إعراضًا تامًّا عن الحديث في شأن (الشعر الجاهلي)، لا إعراضًا عن مُدارَسته وتتبعه. وتطاوَل الإعراض حتى صرتُ أجدُني أتهيَّبُ الحديث في شأنه كلما راودتني نفسي أن أفعل. بيد أن الهيبة التي لا تدانيها هيبةٌ، هي التي أجدها عند الحديث عن إعجاز القرآن العظيم.
    ولكن كان من رحمة الله ومن سابق قضائه في عباده أن يرفع الهيبة أحيانًا عن نفوسهم، فَيُقْدِم أحدُنا على ما كان يُهابه كأنه لم يَهبْهُ قطُّ، وتلك خليقةٌ موروثة منذ عهد أبينا آدم عليه السلام، وقد قصَّ الله علينا قصته في مُحكَم كتابه، حين قَبَض الفَرَق والإشفاقُ والجزع خلائقه كلها هيبةً ورهبةً، وانفرد دونها آدمُ وحدَه كأن لم تخالط قلبَه هيبةٌ ولا رهبةٌ، وذلك حيث يقول سبحانه في شأنه وشأن سائر خلقه {إنا عرضنا الأمانة على السماوات
    [مداخل إعجاز القرآن: 14]
    والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما} [الأحزاب: 72 - 73].
    وكذلك ما يكون مني أحيانًا، وأنا من ولد آدم عليه السلام، تفارقني الهيبة، فأقدم على ما أهابه إقدام من لا يهاب، و(من أشبه أباه فما ظلم) وأسألُ الله سبحانه أن يتوب عليَّ إن أسأت، وأن يتغمَّدني بمغفرته إن زَللتُ، وأن يدخلني في رحمته التي وسعتْ كل شيء إنه كان غفورًا رحيمًا، كما وصف نفسه سبحانه) [مداخل إعجاز القرآن: 12-15]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي

    (2) معنى الإعجاز وتفسيره لغةً
    - قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): ( (2)
    أستعين الله متبرئًا إليه من كل حولٍ وقوةٍ، راجيًا أن تكون خطاي في الحديث عن (إعجاز القرآن) واقعةً في مواقعها، على مَهَلٍ وأناةٍ وتوقف، لأني أعلم أنِّي أسير في طريقٍ غامضٍ، كثيرةٍ أشواكه، محفوفةٍ جوانبُه بدواعي الزلل، مرهوبةٍ مسالكهُ، ولا عاصم إلا الله بحوله وقوته، ثمَّ بتأييده سبحانه وتوفيقه و(إعجاز القرآن) صفةٌ منصوبةٌ للدلالة على أنَّ القرآن كلام الله سبحانه أنزله بعلمه بلسان عربي مبين، فنزل به جبريل عليه السلام على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون معجزته التي تُوجب على من سمعها أن يشهد له بأنه رسولٌ أرسله الله إلى الناس كافةً، إنسهم وجنِّهم، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم. ولفظُ (الإعجاز) مصدرُ قولِنا في كل أمر يريدُ الرجل أن يفعله أو يأتيه، فيجهَدُ جُهْدَهُ كُلَّه، فلا يستطيع أن يفعله أو يأتيه، ويسقط عندئذٍ في (العَجْز) غير مُطيق لفعله، غير قادر على إتيانه، ويوصف هذا (الأمر) عندئذ بأنه (مُعجز) أي هو غير مقدور عليه البتَّة. هذا هو مجاز اللغة في تفسير لفظ (الإعجاز).

    وقد دَرَج علماء الأمة فيما كتبوا على تسميةِ (آيات الأنبياء) التي أيَّدهم بها ربهم عند بعثتهم إلى البشر، لتكون دليلاً قاطعًا على نبوتهم عند من يشهدها: (مُعْجزات الأنبياء). فإذا أردنا أن نضع تعريفًا منتزعًا من مجاز اللغة لقولهم (معجزات الأنبياء) مطابقًا معناه لمعنى (آيات الأنبياء) بلا زيادةٍ ولا نقصان فإن سبيل ذلك أن نقول: إنَّ الناس لا يسلِّمون تسليمًا لا تردُّد فيه بأن (الآية) دليل نبوةٍ لبشر مثلهم، ولرجل من أنفسهم نشأ فيهم صغيرًا إلى أن كَبر، فادَّعى ما ادَّعى من النبوة، لا يُسلِّمون تسليمًا، حتى ينقطع شكُّهم بيقين فاصلٍ: أنَّ الذي يشهدونه من صاحبهم خارجٌ عن طَوْقِ جميعهم، ثم عن طَوْقِ جميع الخلائق، وخارجٌ أيضًا عن طَوْقِ صاحبهم الذي نشأ بينهم منذ وُلِد فيهم إلى أن ادَّعى ما ادَّعى من النبوة. وخروج هذه (الآية) عن طَوْق جميعهم، عن طَوْقِ جميع الخلائق، معناه: عجْزهم وعجزُ جميع الخلائق، عن فعل مثل الذي شَهِدوه من مدّعى النبوة. وإذا كان مُدِّعى النبوة نفسُه، هو بيقين في العجز عن فعلها مثلهم، فالذي آتاه هذه (المعجزة) لتكون دليلاً قاطعًا على نبوته، هو الذي لا يُعْجِزه شيءٌ، هو الخالق البارئ المصوِّر، بديعُ السماوات والأرض، هو اللهُ رب العالمين. هذا هو مجاز اللغة في تسمية (آيات الأنبياء): (معجزات الأنبياء).
    وإذن فمعنى (المعجزة) هو أنها الآية الكاشفةُ عن عَجْز جميع الخلائق، المبْطِلة لجميع قدراتهم على مثلها، المبينةُ عن قدرة الله الذي لا يُعْجِزه شيء في السماوات والأرض. وبَيِّنُ أن (المعجزة) ليست من فعل النبي، ولا هي داخلةُ في قدرته، بل هي من عند الله (آية) ينزِّلُها عليه بمشيئته وحدَه، وحين يشاء سبحانه، وهذا هو صريح الدلالة التي يدلُّ عليها القرآن العظيم في قوله تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين} [العنكبوت: 50] وفي قوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} [الأنعام: 109]، وآيات أخر). [مداخل إعجاز القرآن: 15-17]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي

    (3) سبب تطلب المؤلف تفسيرَ لفظ الإعجاز والمعجزة لغة
    قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (3)
    وقد ألجأني إلى العناية بتفسير لفظ (الإعجاز) ولفظ (المعجزة) على ما يوجبه مجاز اللغة، أمور سوف أقتصر منها على أمرين. ولكن مهما بلغت هذه الأمور من الخَطَر، فإنها لا تستطيع أن تُسقِطَ هذين اللفظين: (إعجاز القرآن)، و(معجزات الأنبياء) من أقلام الكتاب المْحدَثين، ولا أن تنتزعه من تُراثِ اللغة المكتوبةِ في مصنَّفات علماء الأمة منذ القرن الثالث للهجرة إلى يومنا هذا. فكان أعدلَ الطُّرُق عندي هو إثبات تعريفٍ صحيحٍ من مجاز اللغة للفظِ (الإعجاز) ولفظِ (المعجزة)، لا يختلف الناسُ عليه، مهما تباينت آراؤهم والألفاظُ التي تستقرُّ في اللغة استقرارًا شاملاً مستفيضًا، يكون من الجهل والتهوُّر، محاولةُ انتزاعها وإسقاطها من أقلام الكتاب، ومن كتب العلماء قديمًا وحديثًا، بل الواجبُ الذي لا مِرْية فيه، هو محاولةُ تعريفها تعريفًا مطابقًا للحق الذي نراه، لأنَّ الذين وضعوها وكتبوها في كتبهم ومصنّفاتهم، وضعوها
    [مداخل إعجاز القرآن: 18]

    وضعًا مطابقًا لِحَقٍّ رأوْه، لا نخالفهم نحن في جوهره، وإن خالفناهُم في وجوه النظر التي أوجبت عليهم وضع هذه الألفاظ. وما دام مجاز اللغة قادرًا على تعريف اللفظ تعريفًا يرفع أسباب الاختلاف، ويسير بنا جميعًا على طريق مستتبّ، فلا معنى لإبطال ما استقرَّ عليه الكتاب والعلماء من التعبير عن الجوهر المتفق عليه.
    ولقد تكاثرت عليَّ الأمورُ التي تدعوني إلى النظر في تعريف (الإعجاز) و (المعجزة)، على هذا الوجه الذي بينتُه آنفًا، ولكنِّي اقتصرت على أمرين، هُما عندي من الخطر بمكان، وكان لهما من الخطر في مباحث علماء الأمة، ما لا يخطئه قارئ كتبهم على امتداد عشرة قرون على الأقل، وكلا الأمرين يتعلق بالألفاظ وبدلالة هذه الألفاظ.
    الأمر الأول: أن لفظ (الإعجاز) في قولنا: (إعجازُ القرآن) ولفظ (المعجزة) في قولنا (معجزات الأنبياء)، كلاهما لفظٌ مُحْدَث مولَّد. وبيقينٍ قاطعٍ، لا نجدهما في كتاب الله، ولا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أجدهما في كلام أحد من الصحابة، ولا في شيء من كلام التابعين ومن بعدهم، إلى أن انقضى القرنُ الأول من الهجرة، والقرنُ الثاني أيضًا، ثم نجدهما فجأةً يظهران
    [مداخل إعجاز القرآن: 19]

    على خَفَاء في بعضِ ما وصلنا من كلام أهلِ القرنِ الثالث، ثم يستفيضَان استفاضةً ظاهرة غامِرةً في القرن الرابع وما بعده إلى يومنا هذا. فكلاهما إذن مُحْدَث مُوَلَّد.
    الأمر الثاني: لفظٌ آخر مقترنٌ اقترانًا لا فِكَاك منه بلفظ (الإعجاز)، وهو لفظ (التحدي) في قولهم: إن النبي يتحدَّى أهل زمانه بما يظهر على يديه من (المعجزات). وهذا اللفظ أيضًا مُحْدَث مُوَلَّد، ليس في كتاب الله ولا في حديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نجده في كلام أحد من الصحابة أو التابعين ومَنْ بَعْدَهم، إلى أن يظهر بعضَ الظهور في كلام أهل القرن الثالث، ثم يستفيضُ هو أيضًا استفاضةً غامرة ظاهرة في القرن الرابع وما بعده إلى يومنا هذا). [مداخل إعجاز القرآن: 18-20]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي

    (4) لفظ التحدي، معناه ونشأته
    قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (4)
    والنظر في هذين الأمرين المقترنين لا مناصَ منه. وقد قدَّمْتُ الأمرَ الأول، لأنه ظاهرُ ظهورًا شديدًا، وهو الذي استأثر بالاستفاضة، حتى صارت ألفاظه عناوينَ للكتب في (إعجاز القرآن) وللكتب وأبوابها في (معجزات الأنبياء). ولكن فقدان هذه الألفاظ الثلاثة في القرآن والحديث وكلام الصحابة والتابعين
    [مداخل إعجاز القرآن: 20]
    ومن بَعْدَهم إلى أن ظهرت بعد ذلك مُقْتِرنة أو مفردة في زمان متقاربٍ، يُوجب الفحص عن أسبق الثلاثة وجودًا واستعمالاً: أهُوَ لفظ (التحدي) أم (الإعجاز) و(المعجزة). وقد فرغتُ آنفًا من بيان (الإعجاز) و(المعجزة)، فالآن أنظُر في معنى (التحدي) وكيف جاء.
    و(التحدي) في أصل اللغة من قولهم: (فلان يتحدى فلانًا، أي يباريه وينازعه الغلبة، وإلحادي: المتعمد للشيء، يقال: حَداه وتحدَّاه وتحرَّاه بمعنى واحد، أي تعمَّد الأمر وقصده. ومنه قول مجاهد: كنت أتحدى القُرَّاء فأقرأ، أي أتعمَّد لقاءهم. ويقولون أيضًا: (أنا حُديّاك بهذا الأمر: أي ابرز لي وجارني فيه). هذا هو الأصل، وظاهر جدًا أن معنى (التحدي) في اللغة هو: أن يتعمد الرجل المتحدي فعل شيء، وهو يريد بفعله هذا أن يباري خصمه ويعارضه في فعله، طالبًا بذلك مساماته وغلبته والظهور عليه. فالمتحدي إذن هو الذي يقصد أن يعارض بفعله خصمًا، طالبًا بذلك إظهار قدرته وتفوقه عن طريق معارضة يرتكبها هو نفسه. و(التحدي) بهذا المعنى قليل جدًا، لا تكاد تظفر به في كلام الناس إلا في الزمان بعد الزمان. وأما (التحدي) الذي نحن بصدده، وهو المستفيض على ألسنة الناس إلى اليوم، والمثبوت في
    [مداخل إعجاز القرآن: 21]
    كل كتاب، فهو على عكس هذا المعنى بلا ريب، وهو أن تفعل أنت فعلاً، ثم تطالب خصمك بأن يبذل غاية جهده في معارضته والإتيان بمثله، وأنت على ثقة من أنه غير قادر على مثل هذا الفعل، طالبًا بذلك إظهار عجزه وضعفه عن مساماتك أو غلبتك أو الظهور عليك. وهذا هو المعنى المقصود عند ذكر الأنبياء، وتحديهم الناس بمعجزاتهم. فالنبي لا يأتي إلى شيء مذكور عند الناس بالتفوق، فيقصد أن يعارض هذا الشيء طالبًا لمساماتهم والغلبة عليهم، بل يأتيهم بشيء يعلم أنه خارج عن قدرتهم، ويطالبهم بمعارضته والإتيان بمثله، طالبًا لإظهار عجزهم عجزًا يوجب عليهم التسليم له بأنه (نبي) من أنبياء الله سبحانه، وهذا عكس المعنى الأول الذي تنص عليه اللغة.
    ولست أدري متى جاء هذا المجاز؟ ولا كيف جاء؟ ولكن فقدانه في كلام أهل القرنين الأول والثاني من الهجرة، هو الذي أوجب أن أقول إنه محدث مولد، ليس من كلام صرحاء العرب، وإن كان جاريًا على بعض أساليبهم في مجاز اللغة. وأقدم ما وقفت عليه من ذكر (التحدي) بهذا المعنى المحدث، هو كلام أبي عثمان الجاحظ، (150 - 255هـ)، ولا سيما في رسالته (حُجَج النبوة) وهي رسالة كتبها بعد وفاة أبي إسحق النظام سنة 231 بزمان، فيما
    [مداخل إعجاز القرآن: 22]
    أرجح، وذكر فيها فتنة (خلق القرآن) التي تولى كِبْرها أصحابه من المعتزلة، ومع ذلك فلفظ (التحدي) لم يجر في كلامه إلا في الفرط والندرة، وفي أربعة مواضع، أولها في الصفحات الأولى من رسالته، والثلاثة الأخرى متتابعات في أواخر الرسالة. وقلة استعمال هذا اللفظ في كلامه، مع ظهور حاجته إليه في سياق الحديث عن (حجج النبوة) دال على أن مجاز هذا اللفظ كان حديث التوليد، وأنه كان مما جرى في حديثه مع صاحبه أبي إسحق النظام (المتوفى سنة 231هـ تقريبًا)، أو حديث غيره من شيوخ المعتزلة، ولكن حدوثه لا يكاد يتجاوز أواخر القرن الثاني للهجرة، فيما أرجح). [مداخل إعجاز القرآن: 20-23]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي

    (5) علاقة لفظ التحدي بلفظي الإعجاز والمعجزة

    قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (5)
    ولفظ (التحدي)، الذي نجده منذ أواخر القرن الثالث ثم القرن الرابع إلى يومنا هذا، مقترنًا بلفظي (الإعجاز) و(المعجزة) هو، فيما أستظهر، أسبق الثلاثة وجودًا في لغة (المتكلمين)، وهم أصحاب علم الكلام كالمعتزلة وأشباههم. فالجاحظ = وهو خطيب الاعتزال، وأحد رؤوس فرق المعتزلة، وأقدمهم، وأكثرهم كتبًا وصلت إلى أيدينا = أتى بلفظ (التحدي)، على ندرة، في رسائله
    [مداخل إعجاز القرآن: 23]
    وكتبه، ولا سيما كتاب (حُجَج النبوة)، ثم لم يأت به إلا منفردًا، وهو أيضًا لم يذكر قط لفظ (الإعجاز) ولا لفظ (المعجزة). فهذا الانفراد، وغياب هذين اللفظين عن كتبه ورسائله غيابًا ظاهرًا مشهودًا، يدل دلالة قاطعة حاسمة على أن لفظ (التحدي)، من بين الألفاظ الثلاثة المقترنة أبدًا في كلام من جاء بعده، هو أسبقهن توليدًا ووضعًا واستعمالاً.
    ولكن وجود هذه الألفاظ الثلاثة مقترنة أبدًا لا تفترق في كلام (المتكلمين) الذين جاءوا من فورهم على إثر أبي عثمان الجاحظ، أي بعد وفاته في سنة 255 من الهجرة = توجب علينا أن نتوقف ونتأنى، لننظر نظرًا آخر، عسى أن نهتدي معه إلى تفسير واضح لسرعة ظهور لفظ (الإعجاز) و(المعجزة)، واقتران الثلاثة بعد ذلك اقترانًا لا فكاك منه. بل لعله يلقى ضوءًا كاشفًا، يسفر عن السبب الذي من أجله قل لفظ (التحدي) في كلام أبي عثمان، مع ظهور حاجته إليه في مثل كتابه (حجج النبوة). يقول أبو عثمان في أول موضع منه، ذكر فيه (التحدي).
    1- لأن رجلاً من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة، طويلة أو قصيرة، لتبين له في نظامها ومخرجها، وفي لفظها وطبعها أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها
    [مداخل إعجاز القرآن: 24]
    أبلغ العرب لظهر عجزه عنها، وليس في الحرف والحرفين، والكلمة والكلمتين. ألا ترى أن الناس يتهيأ في طباعهم، ويجري على ألسنتهم، أن يقول رجل منهم: (الحمد لله) و(إنا لله) و(على الله توكلنا) و(ربنا الله) و(حسبنا الله ونعم الوكيل)؟ وهذا كله في القرآن، غير أنه متفرق غير مجتمع. ولو أراد أنطق الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة، طويلة أو قصيرة، على نظم القرآن وطبعه وتأليفه ومخرجه، لما قدر عليه، ولو استعان بجميع قحطان ومعد بن عدنان). ثم يقول أبو عثمان في المواضع الثلاثة المتتابعة في آخر رسالته، حيث ذكر ترك العرب معارضة القرآن، مع طول المساءلة والمطالبة، و(أن تقريعهم بالعجز كان فاشيًا، وأن عجزهم كان ظاهرًا).
    2-
    ولو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم تحدهم بالنظم والتأليف، ولم يكن أيضًا أزاح علتهم حتى قال تعالى: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} [هود: 13].
    وعارضوني بالكذب = لقد كان في تفضيله له وتزكيته، وتقديمه له واحتجاجه ما يدعو إلى معارضته ومغالبته وطلب مساويه، ولو لم يكن تحداهم في كل ما قلنا، وقرعهم بالعجز عما
    [مداخل إعجاز القرآن: 25]
    وصفنا، إلا بمديحه له (أي بمديح القرآن) والإكثار فيه، لكان ذلك سببًا موجبًا لمعارضته ومغالبته وطلب تكذيبه، إذ كان كلامهم هو سيد عملهم، والمؤونة فيه أخف عليهم .... (فصل في كراهته، وامتناعهم عن معارضة القرآن، لعجزهم عنها) ... فحين استحكمت لغتهم، وشاعت البلاغة فيهم، وكثر شعراؤهم، وفاق الناس خطباؤهم بعثه الله عز وجل فتحداهم بما كانوا لا يشكون أنهم يقدرون على أكثر منه، فلم يزل يقرعهم بعجزهم، ويتنقصهم على نقصهم، حتى تبين ذلك لضعفائهم وعوامهم، كما تبين لأقويائهم وخواصهم، وكان ذلك من أعجب ما آتاه الله نبيًا قط، مع سائر ما جاء به من الآيات ومن ضروب البرهانات).
    وواضح كل الوضوح في هاتين الفقرتين من كتاب أبي عثمان (حُجَج النبوة) أن لفظ (التحدي) في كلامه محفوف بلفظ (العجز) من جميع نواحيه، فكان أقرب شيء أن يقول: إن القرآن (أعجز) العرب أن يأتوا بسورة من مثله، فيخرج له منه لفظ (إعجاز القرآن) أو لفظ (الإعجاز) غير مضاف، ولكنه اقتصر على قوله (يقرعهم بالعجز).
    وكان دانيًا أيضًا كل الدنو بعد ذلك أن يصف القرآن بأنه
    [مداخل إعجاز القرآن: 26]

    (معجز) وأنه هو معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه (كان أعجب ما آتاه الله نبيا قط مع سائر ما جاء به من المعجزات ومن ضروب البرهانات)، كما قال في آخر الفقرة الثانية، فدل هذا دلالةً قاطعةً على أن لفظي (الإعجاز) و(المعجزة)، لم يكونا على عهد أبي عثمان من الألفاظ الدائرة على ألسنة المتكلمين من المعتزلة وغيرهم.
    وأمر آخر لا بد من ذكره، ما دمنا في صحبة أبي عثمان. ذلك أن جميع من ألف في (إعجاز القرآن) ذكر لأبي عثمان كتابًا رد فيه على مقالة رأس المعتزلة أبي إسحق النظام، وهو كتاب ألفه قبل كتاب (حُجَج النبوة)، وقد وصفه الجاحظ نفسه في حجج النبوة فقال: (كتبت لك كتابًا أجهدت فيه نفسي، وبلغت فيه أقصى ما يمكن مثلي ... فلم أدع فيه مسألة لرافضي ولا لحديثي ولا لحشوي ... ولا لأصحاب النظام، ولمن نجم بعد النظام، ممن يزعم أن القرآن حق، وليس تأليفه بحجة، وأنه تنزيل، وليس ببرهان ولا دلالة. فلما ظننت أني قد بلغت أقصى محبتك ... أتاني كتابك تذكر أنك لم ترد الاحتجاج لنظم القرآن، وإنما أردت الاحتجاج لخلق القرآن). وهذا الكتاب هو (نظم القرآن، وسلامته من الزيادة والنقصان). والجاحظ أول من ألف كتابًا في شأن (إعجاز
    [مداخل إعجاز القرآن: 27]

    القرآن)، فكأن غياب لفظ (الإعجاز) في كلام أبي عثمان، هو الذي دعاه إلى تسميته (نظم القرآن) والكتاب لم يصلنا، ولو وصلنا لكان فيه نظر كثير، ولرأينا فيه لفظ (التحدي) محفوفًا أيضًا بلفظ (العجز).
    ولكن اللفظ الذي غاب من كلام الجاحظ وكان دانيًا له، وجد فجأة في كتاب ألفه أبو عبد الله محمد بن يزيد الواسطي المعتزلي. وقد تُوفي أبو عبد الله سنة 306 من الهجرة، فبين وفاته ووفاة الجاحظ في سنة 255 من الهجرة، إحدى وخمسون سنة ليس غير، فلعله لقي الجاحظ صغيرًا ورآه، أو لعله ولد في حياته ولم يره. ولكن الذي لا ريب فيه أن أبا عبد الله الواسطي المعتزلي قرأ كتب الجاحظ، ولا سيما كتابه (نظم القرآن)، وهو أول ما ألف في معنى (إعجاز القرآن)، فكتب أبو عبد الله كتابًا سماه (إعجاز القرآن). وكانت لهذا الكتاب شهرة مستفيضة عند المتقدمين من أصحاب البلاغة، وكلهم اعتمد عليه فيما كتب فأنا أظن أنه هو أول من استخرج ما كان دانيًا في كتب أبي عثمان وتجاوزه لسانه، فولد لفظ (الإعجاز) و(إعجاز القرآن)، وأكثر من ذكرهما مقترنين بلفظ (التحدي) فاستفاضت من بعده هذه الألفاظ الثلاثة وفشت وجرت بها الألسنة إلى يوم الناس هذا، والله أعلم.
    [مداخل إعجاز القرآن: 28]
    أما السبب الذي من أجله قل استعمال الجاحظ لفظ (التحدي) قلة ظاهرة، فإنه حين كان يذكر (تحدى) العرب أن يأتوا بسورة من مثله، كان أكثر كلامه أني قول: إنه دعاهم إلى (معارضته)، وطلب إليهم (أن يعارضوه)، وأشباه ذلك. ولفظ (المعارضة) و(طلب المعارضة)، كان في كلام من تقدمه وسبقه من العلماء والمتكلمين أكثر دورانا وتفشيا، فكان هذا اللفظ ينازع لفظ (التحدي) منازعة ظاهرة، لطول إلفه وقدمه، ولقلة إلف لفظ (التحدي) وحداثة ميلاده. وكل هذا دال على حداثة نشأة هذه الألفاظ الثلاثة جميعًا، وأنها قد ولدت واصطلح المتكلمون عليها في أزمنة متقاربة، وأنها لم تستقر مجتمعة مقترنة إلا في أواخر القرن الثالث من الهجرة. أما لفظ (المعجزة) فسيأتي الحديث عنه فيما بعد). [مداخل إعجاز القرآن: 23-29]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي

    (6) تولد لفظ الإعجاز عند المتكلمين

    قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (6)
    ولفظ (التحدي) وضعه المتكلمون واصطلحوا عليه لتصوير موقف مشركي العربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين تلا عليهم القرآن، وجاهرهم بأنه كلام الله يوحى به إليه، وأنه هو وحده الدليل على أنه نبي لله أرسله إليهم. فلما أكثر عليهم
    [مداخل إعجاز القرآن: 29]

    سألوه أن يأتي بآية كآيات الرسل من قبله، فأبى الله أن يجيبهم إلى ما سألوه، وأمره أن يقول لهم: {إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر} [المدثر: 24، 25] لكن الذي كان يتلى عليهم، حيرهم، فلم يملكوا إلا أن يكذبوه في أصل دعواه أن هذا الذي يتلوه عليهم آية من آيات الله كسائر آيات الأنبياء في الدلالة على صدق نبوته، فقال قائل منهم في حيرته يصف هذا القرآن: (إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر) فأقر بحيرته حين قال إنه (سحر) وما دام سحرًا فهو مما يقدر عليه بعض البشر، وهمه السحرة، وإذن فهو من قول البشر، وليس هو (كلام الله) كما يدعى هذا الساحر! فقال آخرون منهم بعد ذلك: إنه ليس كلام الله، بل هو كلام افتراه، فعندئذ جاء (التحدي) بمثل قوله تعالى: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} [يونس: 38]، فلما انقضت ثلاث وعشرون سنة، ولم يأت أحد من مشركي العرب بما طولبوا به، صار تركهم الإتيان بسورة مثله، (عجزًا) من مشركي العرب عن معارضة القرآن بسورة من مثله. فكان ظاهرًا جدًا أن يقال: إن هذا التحدي قد (أعجزهم إعجازًا) أي كشف عجزهم، أو أوقعهم في العجز عن معارضة هذا القرآن. فاستخرج المتكلمون
    [مداخل إعجاز القرآن: 30]
    لفظ (الإعجاز) للدلالة على هذا المعنى المقارن للتحدي وكان نتيجة له، وهو عجزهم عن فعل ما تحداهم به!
    وبين جدًا أن (الإعجاز) وهو ما كان من إظهار (عجز) مشركي العربي عن الإتيان بسورة من مثل هذا القرآن، منوط كله بلفظ (التحدي) الذي وضعه المتكلمون للدلالة على ما كان من أمر مشركي العرب، حين طولبوا بالإتيان بسورة من مثله، فانقضت السنون فلم يأتوا بشيء مما طولبوا به، فإذ لم يفعلوا، فقد ظهر منهم (العجز). فلما جرى على ألسنتهم قولهم: (إعجاز القرآن) كان تعبيرًا موجزًا عن صورة موقف مركب واضح: هو مجيء (التحدي) في القرآن يطالبهم بالإتيان بسورة من مثل هذا القرآن من ناحية، وإبلاس المشركين وانقطاعهم عن فعل ما طولبوا به في ناحية أخرى. وإذن، فقولهم: (إعجاز القرآن) صفة لهذا الموقف المركب، ولما يؤدى إليه من أنه أظهر (عجز) المشركين عن فعل ما طولبوا به ليس غير، وبلا زيادة أو نقصان.
    ولكن المتكلمين حين بلغوا هذا المبلغ، وهم في طريقهم إلى استخراج لفظ (إعجاز القرآن) للدلالة على صفة موجزة لهذا الموقف المركب، لم يلبثوا طويلاً حتى أخرجوه عن حيزه، لسبب ظاهر كل الظهور. فهم أهل كلام وجدل وتشقيق، ويرون أنفسهم
    [مداخل إعجاز القرآن: 31]
    أصحاب فحص وتقص واستنباط وتعليل، فلا تقنعهم صفة الموقف، بل لا بد أن يطلبوا السبب الذي من أجله كان (التحدي) مظهرًا (عجز) العرب عن فعل طولبوا به فنظروا في القرآن نفسه يتطلبون فيه الوجوه التي يمكن أن تكون كانت سببًا في إظهار (عجز) العرب بعد أن تحداهم بما تحداهم به فلما ظفروا ببعض ما ظنوا أنهمه أصابوه من هذه الوجوه، التمسوا له اسما جامعًا فكان أقرب شيء أن يسموه (إعجاز القرآن)، فنقلوا اللفظ من حيزه الأول، وجعلوه صفة للقرآن نفسه، وهو كلام الله الذي أنزله ليكون (آية) لنبيه صلى الله عليه وسلم، لا صفة للموقف المركب من (التحدي) وظهور (العجز).
    بيد أن هذا السياق المختصر الذي ارتكبته في البيان عن تولد هذه الألفاظ على ألسنة المتكلمين، ليس دقيقًا كل الدقة، ولا يدل على حقيقتها ولا على خطرها كل الدلالة. وسبب ذلك أني عزلتها عن منابتها عزلاً عنيفًا يكاد يكون ضارًّا بها وبمعانيها، لأنه أخفى كثيرًا من جذورها التي قامت عليها. ولكني لم أجد من هذا العزل بدا، طلبًا لإيضاح ما كان قائمًا في نفسي وأنا ألتمس المخرج من محنة الشعر الجاهلي، وهو الشعر الذي نزل القرآن على أصحابه، يطالبهم أن يتبينوا أنه (كلام الله)، وأن التاليه
    [مداخل إعجاز القرآن: 32]
    عليهم رسول من عند الله أمر أن يتلوه عليهم، وأنه هو وحده آية هذا الرسول الدالة على صدق نبوته، وأنه آية ملزمة بتصديقه كسائر آيات الأنبياء من قبله: من ناقة صالح، إلى نار إبراهيم، إلى عصا موسى، إلى إبراء عيسى الأكمه والأبرص وأحيائه الموتى، بلا فرق بين هذه الآيات كلها في الدلالة على صدق من أتى بها في دعواه أنه نبي مرسل.
    فأنا، إذن، غير منصف ولا محسن، إذا أنا تركتها في هذا العزل الذي فرضته عليها قسرًا، فواجب علي أن أردها إلى منابتها حيث نمت واستوت وأثمرت. ففي منتصف القرن الثاني للهجرة، انبثق أول بثق فاض منه ما نعرفه اليوم باسم (علم الكلام)، وهو باب من أبواب الرأي والنظر والفحص والاستدلال، أراد أصحابه بكلامهم فيه ونظرهم: إثبات الحجج في أصول الدين، ورد الشبه التي يوردها عليه الطاعنون والمخاصمون. ثم اتسع البثق وسال السيل على الأيام، وتميز (المتكلمون) بآرائهم وأقوالهم، يوم ظهرت رؤوس المعتزلة كأبي الهذيل العلاف، وأبي إسحق النظام، وأبي عثمان الجاحظ، ونبتت معهم نوابت زمانهم من الزنادقة المجادلين المشاغبين الطاعنين في النبوة وفي القرآن، من أمثال عبد الكريم بن أبي
    [مداخل إعجاز القرآن: 33]
    العوجاء، وإسحق بن طالوت، والنعمان بن المنذر، و(أشباههم من الأرجاس)، كما يقول أبو عثمان الجاحظ. احتدم الجدال والنظر والمحاورة والخلاف والرد والدفع بين هؤلاء المتكلمين أنفسهم، وبينهم وبين المشاغبين الطاعنين في النبوة وفي القرآن، وبينهم جميعًا وبين أهل الملل والنحل من اليهود والنصارى والبراهمة وغيرهم من الطوائف. وفي خلال هذا الجدال الساطع غباره، تولدت أربعة ألفاظ تتعلق بالنبوة وبالقرآن وهي: (طلب المعارضة) و(التحدي)، ثم (ترك المعارضة) و(العجز) فتلاقحت هذه الأربعة بضروب مختلفة من وجوه الرأي والنظر والفحص والاستدلال، متخاصمة في لدد أحيانًا، ومتصالحة على مضض أحيانًا أخرى = ثم قاصدة مشرفة على سمت من الهدى تارة، وجائرة طاعنة في تيه من الضلال تارة أخرى ثم لم تكد حتى بشر مخاضها جميعًا يدنو ولادة ثلاثة ألفاظ عظيمة الخطر، سيكون لها شأن أي شأن فيما بعد، وهي: (الإعجاز) و(إعجاز القرآن) و(المعجزة).
    كانت نشأة هذه الألفاظ التي نحن بصددها في حومة جدال مر وخصومة مستعرة، بين دفع ورد، وإثبات ونفي. لم تنشأ في بقعة منفردة معزولة، بل نشأت في تربة خصيبة أرفع خصب وأطيبه
    [مداخل إعجاز القرآن: 34]

    وألينه، تنبت مئات متنوعة من الألفاظ ذوات المعاني والدلالات المتشابهة والمتنافرة، فتداخلت واشتجرت، وتشابكت فروعها الظاهرة، وتعانقت جذورها الباطنة، وأخذ هذا من هذا، وهذا من هذا: أخذ من رائحته، من طعمه، من لونه، فهي تسقى بماء واحد، ماء الجدال والخصومة، والعنف والجرأة، وطلب الغلبة والظهور على الخصم، وجاء ثمرها متشابهًا وغير متشابه. لم تنشأ هذه الألفاظ إذن، في عزلة كالتي ضربتها أنا عليها، ولا نشأت مقصورة على بحث محرر، يراد به تصوير الموقف المركب من مجيء (التحدي) أو (طلب المعارضة) في ناحية، و(ترك المعارضة) أو (العجز) عنها في ناحية أخرى، بل نشأت في تربة سوف أحاول وصفها على وجه التقريب والاختصار، وإلا خرج الأمر من يدي ودخلت أنا وأنت في مثل التيه الذي حار في أرجائه المتكلمون!). [مداخل إعجاز القرآن: 29-35]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي

    (7) حجج المتكلمين في تفسير لفظ الإعجاز

    قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (7)
    دخل المتكلمون ساحة النظر والاستدلال، ومعمعة الجدل والخصومة من بابين كبيرين: (باب الإلهيات) و(باب النبوات). فمن باب الإلهيات أفضوا على طلب البرهان على وجود الله سبحانه وتنزيهه وتوحيده، فنظروا اضطرارًا في كل شيء، لأن الله
    [مداخل إعجاز القرآن: 35]
    ليس كمثله شيء، وهو بائن من خلقه بعلوه وعظمته، وصفاته سبحانه مباينة لصفاتهم فطلبوا حقائق صفات الخلق، ليثبتوا بينونة الخالق سبحانه عن خلقه ففي معترك نظرهم وجدالهم وتخاصمهم، تولدت على ألسنتهم ألفاظ كثيرة جدا فشت فيهم، وجذبتهم جذبا إلى الاختلاف في حدودها ورسومها، وزادهم الاختلاف ضراوة في ارتكاب التشقيق والتفريع، والتوجيه والتأويل، والنفي والإثبات، فلما نظروا في حقائق خلقه دارت على ألسنتهم ألفاظ كثيرة، كقولهم: العرض، والجوهر، والجسم، والمحل والوجود والعدم، والحدوث والقدم، والحركة والسكون، والاتحاد والحلول، والفناء والبقاء. فلما جاءوا إلى النظر في صفاته سبحانه وأسمائه، تكلموا في العلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والحياة. واختلفوا في ذلك كله اختلافًا شديدًا، فنفوا وأثبتوا، حتى انتهوا إلى صفة من صفاته سبحانه، وهي صفة (الكلام) فعندئذ كثرت لجاجتهم في أن كلامه سبحانه عرض أو جسم، فإن كان عرضًا فقد أحدثه إحداثًا، وإن كان جسمًا فإن الجسم لا يقوم بالجسم = وشيئًا كثيرًا كهذا ليس هنا مكان تفصيله. وكان محصل اختلاف أكثر جماعاتهم في النظر هو أن الله ليس بمتكلم أصلاً، وأن كلامه سبحانه ليس قائمًا بذاته، بل هو خلق يحدثه فيكون (كلامًا).
    [مداخل إعجاز القرآن: 36]
    ولما بلغ نظرهم هذا المبلغ، سهل ذلك لطوائف منهم أمرًا أطبقوا عليه، وإن اختلفوا في صفته، وهو أن القرآن، كلام الله، مخلوقٌ حادثٌ في محل، ولا يوصف بأنه قديم. ونازعهم في ذلك آخرون يقولون إن: القرآن قديمٌ ليس بمخلوق، وهو كلام الله سبحانه منه بدأ وإليه يعود. وكانت الفتنة التي تعلم، والتي تولى كبرها صناديد المعتزلة وجبابرتهم، فتنة (خلق القرآن) وحمل الناس على القول بذلك قسرًا وجبرية وبلا عقل أيضًا. ابتدأت على يد المأمون في سنة 212 من الهجرة، إلى أن توفي سنة 218، ومرت على عهد المعتصم بالله، وعهد الواثق بالله، ثم أطفأها الله بيد المتوكل على الله سنة 242 من الهجرة. فاقرأ الآن بعض قول الجاحظ المتكلم المعتزلي الضالع مع هذه الفتنة إبان توهجها، لترى بعض هذه الألفاظ وسياق وضعها في خلال النظر والاستدلال، يقول: (والقرآن على غير ذلك جسم وصوت، ذو تأليف، وذو نظم وتقطيع، وخلق قائم بنفسه مستغن عن غيره، ومسموع في الهواء، ومرئي في الورق، ومفصل وموصل، ذو اجتماع وافتراق، ويحتمل الزيادة والنقصان، والفناء والبقاء، وكل ما احتملته الأجسام ووصفت به الأجرام (جمع جرم)، وكل ما كان ذلك فمخلوق على الحقيقة، دون المجاز وتوسع أهل
    [مداخل إعجاز القرآن: 37]
    اللغة). وقد زاد لفظ صوت)، وهو مما تكلم فيه المتكلمون، فذكروا (الصوت) و(الحروف)، وقد تكلموا فيهما، وفي أن (الصوت) (عرض لا يحدث من جوهر إلا بدخول جوهر آخر عليه، ومحال أن يحدث إلا وهناك جسمان قد صك أحدهما صاحبه، والجسم قد يحدث ولا شيء غيره - والعرض لا يقوم بنفسه ولا بد أن يقوم بغيره والأعراض من أعمال الأجسام، لا تكون إلا منها، ولا توجد إلا بها وفيها) = هذا كله لفظ أبي عثمان الجاحظ، وهو قليل من كثير، ولكنه يفي بالغرض من ملاحظة هذه الألفاظ ومواقعها، ودخولها في مباحث المتكلمين.
    ولما دخل المتكلمون من (باب النبوات) يلتمسون الحجة على تثبيت صحة بعثة الرسل وعلى وجوبها، نظروا في (آيات الأنبياء) الدالة على صدق نبوتهم، ونظروا في الفرق بين الآية والحيلة، وفي الفرق بين إخبار الأنبياء بالغيوب، وإخبار الكهان والمنجمين بالضمير وبالأمر المستور وببعض ما يكون. ونظروا في شرط (الآية) حتى تكون ملزمة للناس في تصديق مدعي النبوة والتسليم له بأنه نبي لله، فرأوا أن مدار (الآية) على (عجز) الخليقة، فلا تكون آية حتى تعجزهم.
    [مداخل إعجاز القرآن: 38]
    فلما أحكموا الاستدلال والنظر في هذا الشرط، وقلبوا له الوجوه حتى فرغوا = جاءوا إلى القرآن، وهو كلام الله، وآية نبيه صلى الله عليه وسلم على صدق نبوته، فرأوا أن الله سبحانه قد أبى على المشركين أن يجيبهم إلى ما طالبوا به من الإتيان بآية أخرى كآيات الأنبياء من قبله، وما هو إلا (القرآن، كلام الله) أوحى إليه ليكون آية دالة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم. وتورط المتكلمون في الحيرة، فقد خرجوا من (باب الإلهيات) ودخلوا (باب النبوات)، ومعهم اليقين بأن مدار (آية) النبي على (عجز) الخليقة، وأنها لا تكون آية حتى تعجزهم، فوجدوا هذه (الآية)، وهي القرآن كلام الله، مخالفة كل المخالفة، ومن كل وجه، لجميع آيات الأنبياء من قبله صلى الله عليه وسلم، في قرب تسليم المشاهد لها، والسامع بها بأنها خارجة عن طوقه وعن طوق جميع الخلائق، حتى يشهدوا على أنفسهم بالعجز عن فعلها، كآيات موسى وعصاه، وكآية عيسى في إحياء الموتى، مما لا تقدر عليه الخليقة، أو تطمع في فعل مثله. فكيف يكون (كلام عربي مبين) آية على شرطهم هذا في (العجز) الذي تسلم به بديهة المعاينة، وبديهة العقل، وبديهة قدرة الخليقة؟ كيف وفي سر أقوالهم وطوايا نظرهم في صفات الله سبحانه أنه ليس بمتكلم
    [مداخل إعجاز القرآن: 39]
    أصلاً، وأن كلامه ليس قائمًا بذاته، بل هو خلق يحدثه فيكون كلامًا؟ وهذا القرآن كلام عربي مخلوق أحدثه الله سبحانه وتعالى، جاء بلسان العرب، يسمعه قوم عرب أصحاب لسن وفصاحة وبلاغة، وأصحاب خطابةٍ وشعرٍ، وأهلُ بيان باللفظ القريب عن المعنى البعيد، وبالكلمة السهلة الظاهرة، عن المعاني المتوعرة البعيدة الغور، فكيف يكون (آية) ظاهرة ملزمة بظهور (عجز الخليقة)، وهذه العرب تسمع القرآن العربي يتلى عليها، فلا تنكر عربيته، ولكن يطبق جمهورهم الأعظم على تكذيبه وإنكار نبوته ثلاثة عشر عامًا؟ هو آية، ولم يملكوا إلا التسليم، فأين (عجز الخليقة)؟ كالذي يجدونه في نظرهم واستدلالهم في شأن ناقة صالح، ونار إبراهيم، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وكلها آيات، مجرد عيانها أو سماعها يشهد على جميع الخلائق بالعجز، صدق مشاهدوها أو سامعوها بنبوة صاحبها أو كذبوه؟ بل أكبر من ذلك: أن يشهد عقل هؤلاء المتكلمين ونظرهم = وهم وحدهم أهل العقل والنظر! = على جميع الخلائق بالعجز!
    وحاصوا حيصة في هذه المعمعة يطلبون المخرج! فقد سلموا بأن القرآن (آية) فأين تمام شرطهم في الآية، وهو (عجز الخليقة)؟ فعمدوا إلى القرآن نفسه يلتمسون فيه تمام شرطهم في
    [مداخل إعجاز القرآن: 40]
    هذه (الآية) التي لا تشبه شيئًا من آيات الرسل من قبله. فوجدوا أن الله تعالى قد طالب العرب المكذبين بنبيه في آيات من هذا القرآن: بأن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، ثم لم يجدوا أحدًا من مشركي العرب قد فعل ذلك أو حاوله، لا في قرآن، ولا في حديث، ولا في خبر من الأخبار. وطاروا بذلك فرحا، وطارت عقولهم، والتمسوا بألسنتهم العبارة عن هذا الموقف المركب. فإذا كان ما في القرآن (مطالبة) فما خلو القرآن والحديث والأخبار عن رجع هذه المطالبة؟ فلم ييأسوا، وأعانتهم عقولهم وألسنتهم فسموا الأول (طلب المعارضة) وسموا الآخر (ترك المعارضة). وهذا تصوير للموقف المركب لا أكثر، ولكنهم لا يريدون صفة هذا الموقف المحدد، بل يريدون أن يدخلوا به إلى معمعةٍ غير محددة من النظر والاستدلال والمحاورة في (آيات الأنبياء) التي لا تكون إحداهن آية حتى تعجز الخليقة فحاصوا حيصة أخرى يريغون منفذًا على المعمعة، وظفروا بما أراغوا، فسموا (طلب المعارضة) (تحديًا)، وسموا (ترك المعارضة)، (عجزا)، وخرجوا بهما جميعًا من صفة الموقف المركب، إلى صفة القرآن نفسه وهو الآية. ولم يكادوا حتى اختلط الأمر عليهم اختلاطًا شديدًا.
    [مداخل إعجاز القرآن: 41]
    والبرهان على أن هذا الذي قلته آنفًا كان طريقة فحصتهم ونظرهم، ما قاله خطيب المعتزلة وصاحب صناديدهم، أبو عثمان الجاحظ، فإنه يقول في كتاب الحيوان (4: 89): (ومثل ذلك ما رفع من أوهام العرب، وصرف نفوسهم عن المعارضة للقرآن بعد أن تحداهم الرسول بنظمه، ولذلك لم نجد أحدًا طمع فيه، ولو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلف بعضهم ذلك فجاء بأمر فيه أدنى شبهةٍ، لعظمت القصة على الأعراب وأشباه الأعراب، والنساء وأشباه النساء، ولألقى ذلك للمسلمين عملاً، ولطلبوا المحاكمة والتراضي ببعض العرب، ولكثرة القيل والقال). وهذا نص مبين جدًا). [مداخل إعجاز القرآن: 35-41]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي

    (8) نقض حجج المتكلمين في تفسير لفظ الإعجاز
    قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (8)
    ما كاد المتكلمون، ومعهم القرآن، يدخلون معمعة النظر والاستدلال بهذا (التحدي) كما سموه، وبما توهموه ضامنًا لتمام شرطهم في آيات الأنبياء وهو (العجز)، حتى وجدوا نظرهم لا يكاد يلتئم. فسنة هؤلاء المتكلمين في النظر والفحص، كانت توجب عليهم أن ينظروا نظرًا فاحصًا في حقيقة هذا (العجز) الذي جعلوه شرطًا في الآية، وهو (عجز الخليقة). وأنا لم أزل في
    [مداخل إعجاز القرآن: 42]

    ريبة من أمر هؤلاء المتكلمين منذ خالطت كلامهم، وأنا أشد ارتيابًا في الذين وضعوا هذا الشرط منهم أنظروا في حقيقة معنى (العجز) نظرًا فاحصًا، فرأوا ما فيه من الغموض والإبهام والفساد، ثم حملهم الهوى أن يتكاتموا بينهم ذلك المغمز الخفي في حقيقته = أم هم كانوا أسلم حالاً وطوية، إذ غمرهم الجدل بهذا الشرط المبهم الغامض، فأغفلتهم نشوة الظفر به عن ضرواتهم في الفحص والنظر، وعن غموضه وإبهامه وفساده، فتجاوزوه ومروا عليه مرور المطمئن الذي لا يرتاب في صحته وسلامته؟ وأي ذلك كان، فإن الذي أوقعهم فيه اللفظ المبهم، وهو (العجز)، من الحيرة والتخبط سوف يظهر ظهورًا بينًا بعد قليل.
    وأنا حين تورطت قديمًا في جدل هؤلاء المتكلمين، حرت حيرة مشتتة، رماني في تيهها هذا الشرط الغريب، وتخبطت معهم تخبطًا شديدًا، فما نجوت إلا بعد أن هداني الله برحمته إلى معاودة الفحص عن لفظ (العجز) فحصًا أرجو أن يكون قد قادني إلى محجة الصواب بحمد الله. وذلك أني وجدت أن آيات الرسل جميعًا، حاشى القرآن، (العجز) فيها قريب سهل المأخذ، وسهل أيضًا أن يقبله العقل قبولاً مغريًا بالركون إلى صحته والاقتناع به. أما (العجز) في شأن القرآن، فإني وجدت الآمر
    [مداخل إعجاز القرآن: 43]
    مختلفًا أبين الاختلاف، فلم أستطع أن أقبله قبولاً سهلاً، ولا أن أركن إليه وأطمئن اطمئنان اليقين الجازم فحملني القلق الذي لا يفارقني على إعادة النظر في هذا الشرط وفي لفظ (العجز) خاصة، مع ما في ذلك من المخاطرة بمخالفة جمهور علماء الأمة الذين أخذوا هذا اللفظ وهذا الشرط عن هؤلاء المتكلمين، وأمروه إمرارًا، وبنوا عليه أبوابًا من العلم واسعة، تشهد جميعها بأنهم سلموا تسليما يقطع بأنهم أطبقوا عليه، ولم يختلف أحد في صوابه.
    وبعد الحيرة المشتتة، انتهيت إلى أن آيات الرسل جميعًا، حاشى القرآن العظيم، (العجز) فيها ليس (عجزًا) عن فعل طولبت الخلائق بفعله أو بالإتيان بمثله، فظهر عجزهم عنه وقد حاولوا فعله = بل هو تسليم مبتدأ تسليمًا محضًا بأن الذي رأوه أو سمعوا به، داخل دخولاً مبينًا في قدرة الخلاق العظيم وحده، وخارج خروجًا مبينًا عن قدرة جميع الخلائق التي خلقها سبحانه، ومعنى ذلك أن هذا الذي سموه (عجزًا) من الخلائق، ليس على الحقيقة (عجزًا) منهم عن شيء طولبوا بفعله، بل (الآية)، التي يرونها أو يسمعون بها، هي فعل ممتنع أصلاً على جميع الخلائق غير داخل في قدرتها، كإحياء الموتى، وكدخول رجل النار
    [مداخل إعجاز القرآن: 44]
    تباشرها وتباشره ثم لا يحترق، فهذا أو هذا أمر شاده يغمر بدائه الخلائق كلها، عيانًا وسماعًا، بأنه فعل ممتنع أصلاً على جميعهم وعلى مدعى النبوة منهم، لأنه بديهة، من أفعال الله التي استأثر بها الخلاق العظيم دون خلائقه وعباده، من الجن والإنس والملائكة المقربين = وبأن هذه (الآية) تنزيلٌ من الله وحده، أنزلها على من يشاء منهم، حين يشاء حيث يشاء ولا قبل لأحد من خلقه على فعله أو الإتيان بمثلها.
    وإذن، فالأمر ليس (عجزًا) من الخلائق عن فعل طولبوا بمثله فعجزوا، أو يتوهمون توهمًا أنهم لو أرادوه لعجزوا عنه بل هو (إبلاس) محض من جميع الخلائق، ودهش وسكوت ووجوم وإطراق أحدثته مباغتة (الآية) عند المعاينة، ثم تسليم قاطع تستيقنه النفوس، بأنها فعل ممتنع أصلاً على هذا النبي وعلى جميعهم، بلا ريب يخامرها في ذلك. وإذن فالشرط الذي وضعه المتكلمون، وهو (مدار الآية على عجز الخليقة)، شرط فاسد المعنى، غير دال على حقيقة (الآية) = والشرط الصحيح هو أن نقول: (مدار الآية على إبلاس الخليقة)، ليس غير. وقد بينت معنى (العجز) في اللغة في أول كلامي (ص15 وما بعدها)، وذلك أن يريد الرجل أن يفعل فعلاً، فيحاوله، ثم لا يجد في نفسه
    [مداخل إعجاز القرآن: 45]
    قدرة على إتمامه أو إدراكه، فهو دلالة على نتيجة معالجة لفعل لم يجد في نفسه قدرة على تمامه وتحقيقه. وأما (الإبلاس) في اللغة فحالة طارئة تعتري النفس من أمر يأتي بغتة، أو يراه المرء بغتة، فيفجأه عنده حيرة ورهبة ودهش وخوف، فتنقطع لها حركة حسه، فيسكت يغشاه وجوم وإطراق. فالعجز ضعف يدركه المرء من نفسه عن بذل جهد ومعالجة، والإبلاس إحساس غامر بالحيرة والدهشة والانقطاع، تمنع المرء عن كل جهد ومعالجة فهذا فرق ما بين (العجز) و(الإبلاس).
    وبين أن (الإبلاس) عند رؤية ميت يقوم قائمًا يمشي ويتكلم، ويحرك رأسه ويديه، وينظر في وجه الناس بعينين تتلألآن، أو رؤية قضيب من شجر يلقى على الأرض فإذا هو حية تسعى، وتفغر فاها تلقف ما أمامها فتبتلعه ابتلاعًا = هو أول ما يأخذ الرائي والمشاهد بغتة ثم لا يفلته، بل يقطعه، باليأس قطعًا عن توهم أحد من الخلق يتوهم محاولة الإتيان بفعل كالذي يراه، بل إن لفظ (المحاولة) نفسه لا يكاد يخطر له ببال أليس ذلك كذلك؟ وإذن فإن (الإبلاس) هو أصدق اللفظين دلالة على ما يأخذ المشاهد عند معاينة (الآية)، بغتة، وهو أحق اللفظين بأن يكون عليه مدار (الآية)، وهو أحرى اللفظين بأن يدخل في شرط
    [مداخل إعجاز القرآن: 46]
    (الآية) فيقال: (مدار الآية على إبلاس الخليقة) = وباطل أن يقال: (مدار الآية على عجز الخليقة). وهذا كله بين كل البيان، ولا يمكن الخلاف عليه إن شاء الله). [مداخل إعجاز القرآن: 42-47]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي

    (9) تاريخ نشأة لفظ الإعجاز
    قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (9)
    هكذا كان ينبغي أن يكون نظر المتكلمين الأوائل في لفظ (العجز) فحصًا عن سلامة الشرط الذي وضعوه، فإن يكونوا قد أغفلوا ذلك سهوًا في نشوة الفرح بشرطهم هذا، فهو عجب، ولكنه سهو غير ممكن ... وبيان ذلك أن هذا الشرط الغامض المبهم، إذا صح أنه قد مر معهم مرورًا سهلاً في جميع آيات الرسل، حتى أغراهم بالاطمئنان إلى إحكامه وسلامته، فإنهم حين جاءوا إلى القرآن العظيم، وجوده (آية) لا تشبه شيئًا من آيات الرسل منذ آدم عليه السلام، حتى جاء آية فريدة في تاريخ البشر، أوتيها نبينا صلى الله عليه وسلم دون سائر الرسل، فوجدوا شرطهم مع هذه الآية، لا يطاوعهم كما طاوعهم من قبل. فحاروا حيرة مضنية، وقلبوا له الوجوه يلتمسون المخرج، ومعهم شرطهم سالمًا كل السلامة، محكمًا كل الإحكام. وهذا التقليب دال على أنهم أدركوا ما فيه من غموض وإبهام وفساد خفي، فآثروا أن يتغاضوا
    [مداخل إعجاز القرآن: 47]

    عن هذا كله، وذهبوا ينظرون: كيف كان مجيء (العجز) مع هذه الآية الفريدة في تاريخ البشر، وفي تاريخ الأنبياء والرسل؟ وهذا دليل قاطع على أن الأمر غير ممكن أن يكون كان سهوًا.
    فإذا كان ذلك كذلك، فليت شعري، من هؤلاء الذين وضعوا هذا الشرط، ثم أدركوا فساده، ثم تكاتموا ذلك بينهم، وذهبوا كل مذهب ينظرون كيف كان مجيء هذا (العجز) في هذه الآية الفريدة، وهي القرآن العظيم؟
    أما الصحابة والتابعون، فيقين حاسم، لم يتكلموا ولم ينظروا في شيء من ذلك ولا في شيء من مثله حتى إذا ما انقضت المئة الأولى من الهجرة وانتصفت المئة الثانية أو كادت جاء واصل بن عطاء الغزال البليغ الألثغ، فاعتزل وشق (الكلام) للمتكلمين من بعده، وصار هو رأس (المعتزلة)، ومبدأ طريقهم. وقد ولد واصل سنة 80 من الهجرة، ثم ذهب في سنة 131هـ، وكان حياته مشغولاً بالكلام في القدر والصفات، وأفعال العباد والمنزلة بين المنزلتين، وهي أصل عمل المتكلمين، ولا يعرف له قول في آيات الرسل، ولا في القرآن العظيم. ومضى أمر واصل وأصحابه على ذلك حتى نبغ أبو الهذيل العلاف البصري، المولود بعد وفاة واصل في نحو سنة 135 من الهجرة، حتى توفى سنة 235هـ، عن
    [مداخل إعجاز القرآن: 48]
    مئة سنة، وامرأته أخت امرأة واصل، وهما ابنتا عمرو بن عبيد. وكان أبو الهذيل قد أخذ الاعتزال عن بعض أصحاب سلفه واصل، حتى استوى له الطريق، فجعل يقرر للمعتزلة طريق الاعتزال، فمهد الطريق، وناظر عليها، حتى غدا الرئيس المقدم على طائفته بالبصرة، وكان في زمانه رجلان من المعتزلة، ولدا بالبصرة في صدر حياته، أولهما: ابن أخته أبو إسحق إبراهيم بن سيار النظام، ولد سنة 160 تقريبًا وتوفي سنة 231 = والآخر: أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ولد سنة 150، وتوفي سنة 255.
    أما أقدم هؤلاء الثلاثة ميلادًا، وهو أبو الهذيل العلاف، فشغل بواصل وأقوال سلفه واصل، يقرر مذهبه ويناظر عليه، ويوافق واصلاً ويخالفه، حتى صار شيخ المعتزلة ورئيسها، وشق لمن بعده من المتكلمين طريقًا واسع الأرجاء. بيد أنا لا نكاد نجد له قولاً يذكر في آيات الرسل ولا في القرآن، إلا مسألةً في (باب الإلهيات) ، وهي مسألة (كلام الله)، فإنه كان يقول إن بعضه في محل، وهو (كن) وبعضه في لا محل، كالأمر والنهي والخبر والاستخبار، إلى آخر ما يكون من ذلك.
    ثم دخل على أبي الهذيل ابن أخته، وتلميذه، وصاحبه أبو إسحق النظام، فأخذ عنه أخذًا كثيرًا، حتى إذا ما استوى واشتد
    [مداخل إعجاز القرآن: 49]
    ساعده وجمع علم أبي الهذيل في صدره، انفتل عنه وانفرد بعلمه انفرادًا كاد يخمل ذكر خاله أبي الهذيل العلاف، وهو حي معه بالبصرة بعد واجه خاله كفاحًا، وأخذ يناظر شيخه وخاله في مسائل (الكلام)، حتى يجعل صدر شيخه ضيقًا حرجًا، فيقوم من مجلسه منصرفًا عن تلميذه وصاحبه. يقول أبو عثمان الجاحظ في كتاب الحيوان (3: 60): (وقيل لأبي الهذيل: إنك إذا راوغت وتعاللت - وأنت تكلم النظام - وقمت، فأحسن حالاتك أن يشك الناس فيك وفيه! فقال أبو الهذيل: خمسون شكًا خير من يقين واحد) أراد بالشك: الشك في جنونهما واختلاط عقلهما). هذا تاريخ لا بد منه.
    وإذا كنا لم نجد لواصل الغزال، ولا لسلفه أبي الهذيل العلاف = وهما كبشا الاعتزال اللذان أسسا مذهب الكلام وناطحا عنه = قولا يذكر في آيات الرسل ولا في آية القرآن، فالأمر إذن بين. ويزيده بيانًا أن أبا إسحق النظام، الذي كان يلقى شيخه وخاله كفاحًا، يناظره حتى يكثر عليه ويحرجه، فلا يملك إلا المراوغة والتعلل بأسباب ملفقة حتى يفارق المجلس = وأنا أبا عثمان الجاحظ، خدن النظام ورفيقه في صحبة الشيخ، وهو الذي ينوه بذكر أبي الهذيل، وإن كان أحيانًا يتعقبه بالرد على بعض
    [مداخل إعجاز القرآن: 50]
    آرائه في كتبه، ويتلعب به أحيانًا أخرى متندرًا ببخله = كلا الرجلين لم يذكر له في هذا الباب شيئًا. إذن، فالذي وضع هذا الشرط في الآية ناس غير واصل وأبي الهذيل وغير أصحابهما الأول.
    فإذا كان ثالث الثلاثة أبو عثمان الجاحظ هو أول من ذكر الشرط صريحًا في كتبه، ولا سيما كتاب (حجج النبوة)، وكان هو وأبو إسحق النظام جميعًا، هما اللذين التمسا المخرج من إبهامه وغموضه، وذهبا معًا ينظران كيف كان مجيء (العجز) مع هذه الآية الفريدة في تاريخ الأنبياء والرسل = فالأمر البين الذي لا يستره إبهام ولا غموض، هو أنهما هما اللذان كانا أول من وضع هذا الشرط: (مدار الآية على عجز الخليقة)، ثم تداولاه معًا، حتى صاغاه هذه الصياغة، ثم مرا به معًا على آيات الرسل، فلما جاءا إلى القرآن العظيم، آية نبينا صلى الله عليه وسلم، وقفا معا على غموضه وإبهامه وفساده الخفي، فضنا بوليدهما الغض الإهاب، فتكاتما هذا المغمز الخفي في تكوينه، وانطلقا يلتمسان المخارج بكل حيلة، ومعهما شرطهما الحديث الميلاد، يحوطانه حتى يسلم وينمو ويستفحل. وقد كان! ومشيئة الله غالبة على كل ما كان وما يكون).
    [مداخل إعجاز القرآن: 47-51]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي

    (10) أسباب ظهور لفظ الإعجاز عند النظام والجاحظ

    قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): ( 10)
    منذ شرعت أكتب وأنا في حيرة محفوفة بالهيبة، وكنت لا أدري من أين أبدأ، ولكني بدأت حتى انتهيت إلى هذا المقطع من الكلام. والآن، كان من حيرتي أني لا أستطيع أن أكتم أن ما هتكت عنه الحجاب من أن أبا إسحق النظام وأبا عثمان الجاحظ، هما وحدهما اللذان تعاونا على صياغة هذا الشرط: (مدار الآية على عجز الخليق) = لم يجر على هذا الوجه السهل المرتب من النظر في آيات الرسل أولاً، ثم في القرآن من بعد. بل الأمر أعقد من ذلك، واستنباط ما تضمره القلوب، وما غيبه الفناء البعيد في أكفانه، أمر بليغ الوعورة والعسر. ولذلك أقول الآن إنه غير ممكن أن يكون الأمر بينهما كان جاريًا على هذا الوجه الذي أردت به التيسير فأبو إسحق وأبو عثمان رجلان من المسلمين، كانا يقرآن القرآن ويحفظانه منذ النشأة الأولى، وهما يعلمان علمًا يقينًا، تلقينا وتوارثا وتذوقا، أن القرآن آية نبينا صلى الله عليه وسلم حتى إذا ما بلغا من العلم مبلغًا أداهما إلى أن ينظرا نظر المتكلمين في باب تثبيت آيات النبوة، فالقرآن بلا ريب بأعينهما وفي صدورهما، هو الآية التي ختمت بها آيات
    [مداخل إعجاز القرآن: 52]

    النبوة، ومحال أن يطيقا أن يعزلاه عن نظرهما عزلاً حتى يفرغا من النظر في آيات سائر الأنبياء، ثم يعودا بعد إلى صياغة هذا الشرط، بل لعل الأمر جرى على عكس ذلك.
    وقريب جدًا أن يكون هذان الرجلان المسلمان، لم يزالا يسمعان ويقرآن في كتاب الله، وفي مواضع مختلفة منه قوله سبحانه (قل فأتوا بسورة مثله) وما في معناها من الآيات، ويعلمان أيضًا علم يقين أن مشركي العرب لم يستجيبوا لما طولبوا به = فيكون أسرع شيء إلى أوهامهما بداهة: أن العرب لم يتركوا الاستجابة إلا وقد وجدوا في أنفسهم (عجزا) عما طولبوا به. وذلك أن القرآن كلام عربي، والعرب وغير العرب قادرون أبدًا على معارضة كلام بكلام مثله. فلو لم يجدوا في أنفسهم ضربًا من (العجز) عن الإتيان يمثله، لما تركوا الاستجابة لما طولبوا به، وينتهي الأمر بينهم وبين هذا النبي، إلى أن يتراضوا بينهم وبينه على حكم يتحاكمون إليه في تفضيل كلام على كلام، على ما ألفوه في حياتهم وأسواقهم من المنافرة والمفاخرة والتحكيم بين الشعراء أيهم أشعر كالذي كان بين امرئ القيس وعلقمة وأشباههما من الشعراء. فإذ لم يستجيبوا لذلك وآثروا القتال والدم، فهم إذن لم يتركوا مالا مؤونة فيه على أنفسهم وأرواحهم، ويرتكبوا ما فيه المؤونة كل المؤونة، إلا لهذا (العجز) الذي
    [مداخل إعجاز القرآن: 53]
    يجدون في سر أنفسهم.
    وقريب جدًا أيضًا أن يكونا في خلال حوارهما هذا كانا ينظران بعين إلى آيات من آيات الأنبياء، (عجز) البشر عن الإتيان بمثلها واضح كل الوضوح، كآية عيسى عليه السلام في إحياء الموتى، وآية موسى في إلقاء العصا، وآية إبراهيم في مباشرة النار الموقدة والخروج منها سليمًا لم يحترق هو ولا ثيابه. فكان هذا النظر بعين، مقنعًا ورضى عجل بهما إلى صياغة شرطهما في آية كل نبي (مدار الآية على عجز الخليقة)، وثبت عندهما لفظ (العجز) ثبوتًا لا يكاد ينزعه من مكانه شيء فكان شرطًا مرضيًا كل الرضى.
    ولكن سرعان ما انتبه الصاحبان، أبو عثمان وأبو إسحق، إلى أن (العجز) في مثل آية (إحياء الموتى)، أمر قائم في نفوس الخلائق جميعًا = أما (العجز) في آية القرآن، عن معارضة كلام بكلام، فليس أمرًا قائمًا في أنفس الخلائق، بل القائم في أنفسهما هو القدرة على هذه المعارضة. فكيف، إذن، وقد ثبت عندهما ثبوتًا لا شك فيه: أن العرب قد تركوا الاستجابة، وأنهم لم يتركوها إلا عن (عجز) وجدوه في ضمير أنفسهم؟ وعندئذ أسرعا إسراعًا يلتمسان تفسيرًا لهذا (العجز) الواقع الذي لا شك فيه.
    [مداخل إعجاز القرآن: 54]
    أما أبو إسحق النظام، فكان امرءًا ذكيًا ساطع الذكاء، صحب خاله أبا الهذيل العلاف، فأخذ عنه الجدل واللدد والمناظرة وغلبة الخصوم، وصحب أئمة العلم دهرًا، وصحب الخليل وغيره من العلماء باللغة وبالشعر، وصحب فحول الشعراء، فاكتسب طرفًا دانيًا من الفصاحة والبيان. ولكنه كان أيضًا ذكيًا متهورًا يطير مع الخاطر الأول: ثم يناظر عليه ويجادل فيه بلدد كثير الحيلة، وبذكاء متوهج، وبثقة بعقله تخرجه من حد العقل. وقد وصفه صاحبه وخدينه أبو عثمان الجاحظ في كتاب الحيوان، (7: 166) أجود صفة فقال: (كان أبو إسحق إذا ذكر الوهم، لم يشك في جنونه واختلاط عقله). [(الوهم): اصطلاح يراد به: قوة من قوى الجسم، تحكم بها الشاة على أن الذئب مهروب منه، وأن الولد معطوف عليه. وهذه القوة حاكمة على جميع قوى الجسم. وتستخدم هذه القوة جميع قوى الجسم استخدام العقل جميع قوى العقل].
    وثقة من أبي عثمان وأبي إسحق بذكائهما، التمسا تصحيح شرطها الوليد في آيات الرسل، وتكاتما بينهما مغمزه وفساده، فراما مراما بعيدًا: أن يجعلاه منطبقًا أيضًا على الآية
    [مداخل إعجاز القرآن: 55]
    الفريدة في تاريخ الرسل، بل في تاريخ البشر، وهي القرآن العظيم. وللمتكلمين، والفلاسفة أيضًا، جرأة يغلون فيها حتى ترميهم في الطيش، ثم لهم ذكاء ثاقب كشهاب ينقض، ما داموا في باب الحيل والمخارج والمداخل، وجدال الخصوم، وشهوة الغلبة على الأقران = ولكنهم إذا واجهوا بعض الحقائق الكبرى كفاحًا، خبا هذا الذكاء المتوقد وانطفأ، وعندئذ يلجأون إلى الحيلة، فيثيرون غبارًا ظاهرًا، يكتم ما تحته من مغالطات باطنة، ثم بالمكر والحيلة وبالمفاجأة المستغربة ينقلونك من باب الحقائق، ليدخلوا بك باب المراوغة المتشابكة طرقه ودروبه. وهكذا كان شأن أبي إسحق وأبي عثمان: جاءا برأي لا يكاد يخطر ببال عاقل = إلا ببال من اشتعل عقله اشتعالاً ساطعًا ثم انطفأ فجأة، ولكن بقى منه في الأعين الوهج لا غير، أما العقل المطروح على الثرى رمادًا هامدًا، فقد عميت عنه العيون). [مداخل إعجاز القرآن: 52-56]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي



    (11) تسمية الإعجاز بالصرفة ونقضها


    قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (11)
    لا أدري كيف ضل الرجلان في تيه الحوار والمناظرة، حتى اهتديا، بعد الإرهاق والتعب والهمود والخمود، إلى قول مذهل للعقول
    [مداخل إعجاز القرآن: 56]

    سمياه: (الصرفة)، لتكون هذه الصرفة في شأن القرآن مصححة أيضًا لشرطهما الذي أحدثاه، وهو: (مدار الآية على عجز الخليقة)، ولتخفى أيضًا ما في هذا الشرط من المغمز المفضي إلى فساده واضطرابه. وهذه (الصرفة)، كما وصفها أبو عثمان الجاحظ نفسه آنفًا، هي أن الله تعالى (رفع من أوهام العرب، وصرف نفوسهم عن المعارضة للقرآن، بعد أن تحداهم الرسول بنظمه ...)، وكذلك قال مواضع أخر من كتبه، ولم يزد على هذا.
    أما بيان مقالة أبي عثمان وأبي إسحق في (الصرفة) فهو كما ترى: الشأن في آيات الأنبياء جميعًا هو أن (العجز) عنها قائم في أنفس الخلائق، وذلك أن الله سبحانه حين فطر الخلائق سلبهم القدرة على أشياء استأثر بها سبحانه دونهم، لأنها داخلة دخولاً مبينًا في صفاته سبحانه، فإذا جاءت الخلائق (آية) هي حدوث شيء قد سلبوا القدرة عليه فطرة، وجدوا (العجز) عنه في أنفسهم وجدانًا ظاهرًا مغروزًا في طباع الإنس والجن والملائكة المقربين.
    والقرآن بلا ريب، هو لنبينا صلى الله عليه وسلم (آية)، دالة على صدق نبوته كآيات سائر الأنبياء، فإذا كان ذلك كذلك، فشرط الآية، وهو (عجز الخليقة)، يستوجب، كما استوجب في
    [مداخل إعجاز القرآن: 57]
    سائر آيات الأنبياء، أن تتلقى الخلائق القرآن بعجز تجده قائمًا في أنفسها مغروزًا فيها، لأنهم قد سلبوا القدرة على مثله فطرة فطروا عليها. هذا شرط لازم لآية كل نبي، بيد أن هذا (العجز) الذي يتطلبه شرط الآية هو في شأن القرآن غير مستبين ولا ظاهر، بل هو أمر مشكل. فالقرآن كلام عربي النظم والتأليف، وقدرة العرب على نظم كلام وتأليفه بلسانها، بل قدرة سائر الخلائق على نظم كلام وتأليفه بألسنتها، أمر مقطوع بأنه قائم في أنفسها قيامًا ثابتًا مغروزًا فيها، فطرة فطروا عليها. وإذن فقد صار محالاً أن تكون الخلائق مما تتلقى هذا القرآن العربي النظم والتأليف، بعجز قائم في أنفسها مغروز فيها، يقطعها قطعًا عن نظم كلام وتأليفه مع تمام قدرتها فطرة على نظم الكلام وتأليفه.
    ومع هذا المحال الذي لا شك في استحالته عقلاً، فإن (العجز) قد وقع، مع ظهور هذه الاستحالة ظهورًا بينًا لا محيص منه. فالعرب قد طولبوا في آيات من القرآن بأن يأتوا بسورة من مثله، بل أكبر من ذلك مجيء البيان القاطع للعرب وغير العرب من الإنس والجن بأنهم لا يستطيعون البتة أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فقيل لهم: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء: 88].
    [مداخل إعجاز القرآن: 58]
    وقد كان الأمر كما قد قيل لهذه الخلائق! لم ينتصب أحد من العرب لمعارضة هذا القرآن بسورة من مثله، وانقطعت الخلائق كلها انقطاعًا لا ريب فيه عن الإتيان بمثل هذا القرآن. فهذا الانقطاع المستبين هو (العجز) كل العجز عن نظم كلام وتأليفه يضارع نظم القرآن، مع أن قدرة الخلائق على نظم كلام وتأليفه بألسنتهم باقية على عهدهم بها لم تتغير ولم تتبدل. فهذا حادث واقع غير خفي، وإن كان محالاً في العقل.
    وإذن، فهذا المحال الذي صار واقعًا لا شك في وقوعه، لا يتأتى تفسيره، وإخراجه من الاستحالة، إلا على وجه واحد: أن يكون قد حدث في أنفس الخلائق (عجز) مستأنف مبتدع، جاء مقارنًا لتنزيل القرآن، هو نفسه (آية) أخرى دالة على صدق هذا النبي الذي أوحى إليه هذا القرآن، صلى الله عليه وسلم. ومعنى ذلك أن الله تعالى حين نزل القرآن على نبيه منذ أول يوم، كان قد أحدث في أنفس الخلائق (عجزًا) عن الإتيان بمثله، فتلقت الخلائق (آية القرآن) بعجز قائم في أنفسها عن الإتيان بمثله. وبين كل البيان أن (العجز) الذي هو شرط في آية كل نبي صار الآن (عجزان): عجز قديم مغروز في أنفس الخلائق عند الفطرة الأولى لأنهم سلبوا القدرة سلبًا جازمًا عن أفعال قد استأثر الله
    [مداخل إعجاز القرآن: 59]

    بها وحده سبحانه دون خلائقه جميعًا، فتأتي آيات الأنبياء جميعًا من هذا الباب، فتتلقاها الخلائق بالتسليم والعجز.
    هذا هو (العجز الأول)، ثم (عجز) أحدثه الله إحداثًا عند تنزيل آية نبينا صلى الله عليه وسلم، وهي القرآن، وهو (عجز) مستحدث فجأة في أنفس الخلائق، وهو عجز لا يسلبها القدرة على نظم الكلام وتأليفه بتة، فذلك إلحاق لها بالبهائم والعجماوات، بل هو عجز يسلبها القدرة على نظم الكلام وتأليفه في حالة واحدة ليس غير، هي الحالة التي تريغ فيها الخلائق، أو تسول لها أنفسها، معارضة القرآن بنظم وتأليف يشابهه أو يدانيه، فعندئذ يقطعها (العجز) قطعًا مبينًا على إتيان ما أراغته من الإتيان بمثل هذا القرآن، ثم هي بعد ذلك مطلقة قدرتها إطلاقًا على ما شاءت من نظم الكلام وتأليفه، بلا حرج عليها في ذلك! وهذا هو (العجز الثاني).
    على هذا الوجه زال الإشكال، فيما توهم أبو إسحق النظام وأبو عثمان الجاحظ، وسلم لهما الشرط الذي وضعاه وهو: (مدار الآية على عجز الخليقة)، وهذا (العجز الثاني) الذي ضرب على الخلائق كلها عند تنزيل القرآن سيظل مستقرًا في أنفس الخلائق حتى يرث الله الأرض ومن عليها بلا ريب في
    [مداخل إعجاز القرآن: 60]
    ذلك. وقد استحدثا لهذا (العجز) اسما، وهو (الصرفة)، لأن الله سبحانه حين نزل القرآن، كتب فجأة على العرب وعلى سائر الخلائق أن تكون أوهامهم مصروفة صرفًا سرمدًا عن القدرة على نظم كلام وتأليفه، إذا راموا معارضة القرآن أو الإتيان بسورة من مثله، مع بقاء قدراتهم سالمة على نظم الكلام وتأليفه في سائر أحوالهم. وهذه (الصرفة) كما ترى، تسلب نظم القرآن وتأليفه كل فضيلة، لأنهم معجزون بالصرفة لا غير!! بل أكبر من ذلك، أن هذه (الصرفة) تجعل مطالبة الخليقة في الإتيان بمثل القرآن مطالبة ظاهرها أنهم مخيرون في فعل ما طولبوا به تخييرًا مطلقًا، وباطنها أنهم مجبرون على ترك فعل ما طولبوا به إجبارًا مفاجئًا لا مخلص منه، ولا إرادة لهم فيه، ولا يملكون له دفعًا. فهم قادرون عاجزون في وقت معًا. وهذا عبث محض، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا).[مداخل إعجاز القرآن: 5-61]




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي

    (12) تردد الجاحظ في مفهوم الصرفة

    قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (12)
    هذا العبث الفاضح خليق أن يكون سجية من سجايا ذكاء أبي إسحق النظام وحده، وجبلة من جبلات عقله، لأنه مطبوع خلقة ووراثة على مثل هذه الحيل العابثة التي تتصرف مع هياج الطبائع المفطورة على إلف الجدل والمغالطة وحب الظهور على
    [مداخل إعجاز القرآن: 61]

    الخصوم. فأبو إسحق هو ابن أخت أبي الهذيل العلاف، وأبو الهذيل هو سلف واصل بن عطاء البليغ الألثغ، وثلاثتهم هم أئمة (الكلام) الذي أحدثوه، وثلاثتهم لا عمل لذكائهم إلا في الحيل التي تخلب العقول وتدلس عليها عند النظرة الأولى، مع ادعائهم تحكيم العقل، وتظاهر الشائعة عنهم في زمانهم وبعد زمانهم أنهم ملتزمون بما يلزمهم به العقل وحده. هذا عجب إن شئت، أو ليس بعجب إن شئت، ولكن الأعجوبة، كما يقول أبو عثمان الجاحظ، هو أن يكون أبو عثمان الجاحظ ممن تقنعه هذه الأغلوطة المفتعلة الظاهرة البطلان والتناقض، وأن يكون أبو عثمان ممن يدافع عنها ويعتقدها لنفسه مذهبًا. وتفسير هذه الأعجوبة يحتاج إلى كلام يطول ليس هذا مكانه، ولكنك سترى أن أبا عثمان لن يصبر طويلاً على هذا الخضوع لحيل صاحبه وخليله.
    وذلك أن أبا إسحق النظام لما أعجبته نفسه حين بلغ هذا المبلغ من تصحيح الشرط في الآية، وهو (عجز الخليقة) بما سماه (الصرفة)، استخفه تهوره، كما روى أبو عثمان الجاحظ في كتاب (حجج النبوة)، [انظر ما سلف ص27] فذهب يقول: (إن القرآن حق، (أي هو بالصرفة آية كآيات الأنبياء) وليس تأليفه بحجة، (أي: ليس نظمه وتأليفه آيه)، وأنه تنزيل، (أي: هو وحي من الله
    [مداخل إعجاز القرآن: 62]
    تعالى) وليس ببرهان ولا دلالة، (أي: أن الوحي ليس بآية كآيات الأنبياء). ثم إلا فذهب يقول: (إن الآية في القرآن والأعجوبة، هو ما فيه من الإخبار بالغيوب، وأن العرب لو خلى بينهم وبين معارضته، (ولم تأخذهم عنه الصرفة) لكانوا قادرين على الإتيان بمثله). ومعنى هذا أنه يسلب نظم القرآن وتأليفه وبيانه كل فضل وفضيلة. وأن الآية كل الآية هو فيما أحدثه الله، عند تنزيل القرآن، من صرف أوهام الخلائق جميعًا صرفًا سرمدًا عن معارضته، إذا هم هموا في أنفسهم بأن يفعلوا!).
    وعندئذ فزع أبو عثمان فزعًا شديدًا، وعلم أن الرجل قد خولط وأخذه ما أخذه، فهو يتخبط تخبطًا لا يصبر على مثله، ولم يشك أبو عثمان (في جنونه واختلاط عقله). وعلم علمًا يقينًا في قرارة نفسه أن الاقتصار على تفسير (العجز) بهذه (الصرفة) وحدها، مفض إلى مثل هذا الهوس، وإلى ما هو أبلغ منه وأفحش. وأدرك أيضًا إدراكًا لا ريبة فيه أن خليله أبا إسحق، على ذكائه توقده، وعلى بعض ما اكتسبه من تذوق البيان، قد ختم على تذوقه ختمًا بما ألف من اللدد والجدال وحب الغلبة على الخصوم، فانطمس حسه، وتجهم طبعه، ومحق ما اكتسب من التذوق محقًا لا حياة له من بعده. أما هو فقد أنجاه فزعه من مثل ما تخبط فيه
    [مداخل إعجاز القرآن: 63]

    خليله، وهداه ما فطر عليه من تذوق البيان، ومن يقظة الحس، ومن بشاشة الطباع، فأدرك إدراكًا خفيًا أن الأمر أجل من أن يتردد فيه متردد، فإن نظم القرآن وتأليفه وبيانه، يهز القلوب هزًا ويهيجها على الأريحية، ويقرع الأسماع قرعًا يأطرها على الإصغاء والإطراق أطرًا لا ينكره إلا معاند. فإن يكن خليله أبو إسحق قد اختلبه اختلابًا حتى سلم عقله بالصرفة، فإن تذوقه للبيان، وبراعته هو في البيان، وبشاشة قلبه للبيان، قطعت ما بينه وبين خليله أبي إسحق، فتجرد لتأليف كتابه (الاحتجاج لنظم القرآن، وسلامته من الزيادة والنقصان)، ووصفه في (حجج النبوة) حيث يقول: (كتبت لك كتابًا أجهدت فيه نفسي، بلغت منه أقصى ما يمكن مثلي في الاحتجاج للقرآن، وللرد على كل طعان، فلم أدع فيه مسألة لرافضي ولا لحديثي ولا لحشوى، لا لكافر مباد، ولا لمنافق مقموع، ولأصحاب النظام، ولمن نجم بعد النظام، ممن يزعم أن القرآن حق، وليس تأليفه بحجه، وأنه تنزيل، وليس ببرهان ولا دلالة). ثم يبين عن رفضه كل ما قاله خليله أحسن إبانة حيث يقول: (لأن رجلاً من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة، طويلة أو قصيرة، لتبين له في نظامها ومخرجها، وفي لفظها وطبعها، أنه عاجز عن مثلها. ولو تحدى بها
    [مداخل إعجاز القرآن: 64]
    أبلغ العرب لظهر عجزه عنها. وليس ذلك في الحرف والحرفين، والكلمة والكلمتين. ألا ترى أن الناس قد كان يتهيأ في طبائعهم، ويجري على ألسنتهم أن يقول رجل منهم: (الحمد لله)، و(إنا لله)، و(على الله توكلنا) و(ربنا الله) و(حسبنا الله ونعم الوكيل). وهذا كله في القرآن، غير أنه متفرق غير مجتمع، ولو أراد أنطق الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة، طويلة أو قصيرة، على نظم القرآن وطبعه، وتأليفه مخرجه، لما قدر عليه، ولو استعان بجميع قحطان ومعد بن عدنان). [انظر ما سلف ص: 24، 25].
    وهاتان الكلمتان اللتان كتبهما أبو عثمان، تدلان دلالة ظاهرة على أن الخُلة بين الخليلين قد تهتكت، وأن أبا عثمان قد رمى بعقل خليله أبي إسحق النظام تحت قدميه، ووطئه وطأة المتثاقل. ولكن الأعجوبة أن هذا الظاهر الذي لا شك في تبلجه ووضوحه، لم يكن إلا تناقضًا فاضحًا في مذهب أبي عثمان. فإنا نراه لم يزل مصرًا على اعتقاد (الصرفة)، وعلى التبجح بها إلى أن ألف أواخر كتبه، ككتاب الحيوان. بيد أن ما كان منه، من تأليفه كتاب (الاحتجاج لنظم القرآن) وكتاب (حجج النبوة) يدل أيضًا على أنه فزع وخالف النظام مخالفة صريحة في أقواله الخبيثة التي ولدتها (الصرفة). وأوضح من ذلك بيانا، كما رأيت منذ قريب،
    [مداخل إعجاز القرآن: 65]
    أنه يرى أن نظم القرآن وتأليفه وطبعه ومخرجه، لا يقدر على مثله أحد من العرب، ولو استعان بجميع قحطان ومعد بن عدنان = وأنه لو تحدى أبلغ البلغاء بسورة واحدة، طويلة أو قصيرة، لظهر عجزه عنها. ومعنى ذلك أنه يرى نظم القرآن وتأليفه، يظهر (العجز) في أنفس الخلائق. إذن، فقد صار بينا أن عند أبي عثمان ضربًا من (العجز) ثالثًا، غير (العجز) الأول القديم المغروز في أنفس الخلائق. فيما استأثر الله به وحده، وهو الباب الذي جاءت عليه آيات جميع النبيين قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وغير (العجز) الثاني الذي أحدثه الله تعالى فجأة في أنفس الخلائق عند تنزيل القرآن، وهو (الصرفة)، فصار عجزًا سرمدًا عن أمر واحد، هو معارضة القرآن والإتيان بسورة مثله. ثم هذا (العجز) الثالث، وهو ما يوجبه نظم القرآن وتأليفه، من قطع أطماع البلغاء من إدراكه أو الإتيان بمثله. ومعنى هذا أن مع القرآن العظيم (عجزين) عجز مرده إلى الصرفة، وعجز مرده إلى نظم القرآن وتأليفه والذي لا شك فيه أن أحدهما كاف من صاحبه، فإما (العجز) بالصرفة، وإما (العجز) بنظم القرآن وتأليفه. أما الجمع بين (العجزين) فليس يجتمع في عقل أحد يعقل، فأحدهما يلغى الآخر، (كما ألغيت في الدية الحوارا)، [كما يقول ذو الرمة].
    [مداخل إعجاز القرآن: 66]
    لكن هكذا كان ما كان من أبي عثمان الجاحظ، البليغ المعتزلي!! عقل واحد يجمع بين المتناقضين جمعًا لا غضاضة فيه عليه! (وهل يجمع السيفان، ويحك في غمد)؟ كما تعجب أبو ذؤيب الهذلي من أمر صاحبته أم عمرو، فأنا أتعجب أيضًا من أمر صاحبي أبي عثمان). [مداخل إعجاز القرآن: 61-67]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي



    (13) تتمة الحديث في نقض الصرفة

    قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (13)
    ومع ذلك، فأنا أظن أن أبا عثمان، كان يعاني المشقة من هذا التناقض: بين ما ألفه زمنا مع صاحبه أبي إسحق في تأليف القرآن من القول في (الصرفة) التي اخترعاها معًا، وما أدت من القول الخبيث الذي قاله أبو إسحق النظام = وبين ما هدى إليه بالتذوق من أن نظم القرآن وتأليفه، يعجز كل أحد. ودليل ذلك أني رأيته في كتاب الحيوان، وهو من آخر كتبه، ذكر مسألة هدهد سليمان وآيات أخرى مما جاء في كتاب الله سبحانه، وأدار أمر تفسيرها على (الصرفة) بأسلوب جديد، واستغرق في ذلك أوراقا كثيرة (الحيوان 4: 90) فلما بلغ أواخر تفسيره قال هذه الكلمة الصريحة الدلالة (وفي كتابنا الذي يدل على أنه صدق، نظمه
    [مداخل إعجاز القرآن: 67]
    البديع الذي لا يقدر على مثله العباد، مع ما سوى ذلك من الدلائل التي جاء بها من جاء به).
    ثم ختم هذا الفصل بعد ذلك بتعريض القول بالصرفة لمناقشة الخصوم، وإعادة النظر في أمرها! وهذا حسبك من الشك في سلامتها، فقال هذه الكلمة الجليلة (الحيوان 4: 93): (فبهذا وأشباهه من الأمور، نحن إلى الإقرار به مضطرون بالحجج الاضطرارية، فليس لخصومنا حيلة إلا أن يواقفونا (أي أن نجتمع نحن وهم معًا للمناظرة) وينظروا في العلة التي اضطرتنا إلى هذا القول (وهذه العلة هي الصرفة)، فإن كانت صحيحة، فالصحيح لا يوجب إلا الصحيح = وإن كانت سقيمة، علمنا أنما أوتينا من أقاويلنا).
    فهذا تشكك، ومعاناة ظاهرة مما يشعر به من التناقض بين قوله بالصرفة، وبين ما هدى إليه، بعد بذل أقصى الجهد، كما قال فيما كتبه في (الاحتجاج لنظم القرآن)، وأظنه لولا الحياء والإلف، لفارق أبو عثمان الشك المتلفع إلى اليقين السافر، ولطرح (الصرفة) حيث تستحق أن تطرح).[مداخل إعجاز القرآن: 67-68]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي



    (14) كتاب نظم القرآن وتأسيس الجاحظ علم إعجاز القرآن

    قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (14)
    كان فزع أبي عثمان الجاحظ من هذه الأقوال الخبيثة التي أفضت إليها (الصرفة) حافزًا له على إعادة النظر في الأمر كله. ولما قال صاحبه النظام مقالته التي تسلب القرآن كله فضيلة، وأن العرب لو خلى بينهم وبينه لقدروا على الإتيان بمثله = لم يصبر المعتزلي البليغ المتذوق على ضلالة صاحبه المعتزلي وخليله، وأبى أن يقر بأن (العجز) كان مرده إلى الصرفة وحدها، لأن تذوقه وتذوق الأمة من قبله قاض قاطع بأن بديع نظم القرآن وتأليفه (مما لا يقدر على مثله العباد).
    ومضى على هذا الفزع زمان، حتى جاءته رسالة من صديق يسأله أن يكتب له شيئًا عن القرآن وكانت عبارته مبهمة، أو هكذا زعم أبو عثمان، فأسرع يكتب ما كان يشغله من أمر نظم القرآن وتأليفه، مع أن صديقه كان كتب إليه يسأله أن يكتب له عن (الاحتجاج لخلق القرآن)، كما ذكر أبو عثمان، وقال لصديقه فيما بعد: (فكتبت لك أشق الكتابين وأثقلهما وأغمضهما، وأطولهما طولاً) فكان هذا لكتاب هو (الاحتجاج لنظم القرآن، وسلامته من الزيادة والنقصان) وقد ذكر أبو عثمان ما لقي في
    [مداخل إعجاز القرآن: 69]

    تأليف هذا الكتاب فقال: (كتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسي، وبلغت منه أقصى ما يمكن مثلي)، وقد سماه هو في كتاب الحيوان (1: 9) (الاحتجاج لنظم القرآن، وغريب تأليفه، وبديع تركيبه).
    وهذا الكتاب اليوم مفقود، مع شهرته المستفيضة، كانت، عند أهل القرنين الرابع والخامس من الهجرة، وليس في أيدينا منه نصوص تذكر، فحكمنا عليه غير ممكن، وإنما نقتصر في ذلك على قول أبي عثمان نفسه، وعلى بعض أقوال من رأى الكتاب، وكان أقربهم إلى أبي عثمان زمنا هو ابن الخياط المعتزلي (أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد بن عثمان)، المتوفى أوائل القرن الرابع، فهو يقول في كتابه (الانتصار في الرد على ابن الراوندي الملحد) (توفى سنة 298هـ): (لا يعرف المتكلمون أحدًا منهم نصر الرسالة واحتج للنبوة، بلغ في ذلك ما بلغه الجاحظ، ولا يعرف كتاب في الاحتجاج لنظم القرآن وعجيب تأليفه، وأنه حجة لمحمد صلى الله عليه وسلم على نبوته = غير كتاب الجاحظ).
    وهذه شهادة مهمة جدًا من رجل، لعله رأى الجاحظ المتوفى سنة 255هـ أو كان قريبًا أن يراه، وهي تقطع بأن أول قائل في القرآن، من جهة النظم والتأليف، هو أبو عثمان. وقد ذكره ابن
    [مداخل إعجاز القرآن: 70]

    الخياط أيضًا في أول كتاب الانتصار (ص: 25) فقال: (فمن قرأ كتاب عمرو بن بحر الجاحظ في الرد على الشيعة، وكتابه في الأخبار وإثبات النبوة، وكتابه في نظم القرآن = علم أن له في الإسلام غناء عظيمًا لم يكن الله عز وجل ليضيعه له.
    ثم يمضي بعد ذلك أكثر من ثلاثة أرباع قرن، فنجد القاضي الباقلاني (المتوفى سنة 403هـ) يصف هذا الكتاب في كتابه (إعجاز القرآن) (ص: 7) فيقول: (وقد صنف الجاحظ في نظم القرآن كتابًا، لم يرد فيه على ما قاله المتكلمون قبله، ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى) وهذه كلمةٌ فيها بعض الغَبْنِ لما كان في كتاب أبي عثمان. أما الغَبْنُ الأعظم فهو إيهام الباقلاني أن المتكلمين قد سبقوا إلى مثل ما سبق إليه الجاحظ في هذا الكتاب. وقد رأيت سياق ما كتبت أنا عن نشأه فكرة هذا الكتاب، ومن أين جاءت ولم؟ ورأيت أيضًا مقالة ابن الخياط: (لا يعرف كتاب في الاحتجاج لنظم القرآن ... غير كتاب الجاحظ)، فهذا هو الحق الذي أنكره القاضي الباقلاني، غضًا من أبي عثمان بغير حق، وتحاملاً عليه.
    ونحن لا ندري على وجه التحقيق ماذا يتضمن كتاب (نظم القرآن) ولكن سلف ما ذكره الجاحظ نفسه عن (نظم القرآن
    [مداخل إعجاز القرآن: 71]

    وبديع تأليفه)، وبقى ما قاله في كتاب الحيوان (3: 86)، وأنا أقطع بأنه يعني هذا الكتاب: (ولي كتابٌ جمعت فيه آيات من القرآن، لتعرف بها فصل ما بين الايجاز والحذف، وبين الزوائد والفضول والاستعارات، فإذا قرأتها رأيت فضلها في الإيجاز، والجمع للمعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة، على الذي كتبته لك في باب الإيجاز وترك الفضول ... وهذا كثير قد دللتك عليه، فإن أردته فموضعه مشهور) وإذن، فغير منكر أن يكون الجاحظ قد سلك في أبواب من هذا الكتاب مسلك المتكلمين، كما قال القاضي الباقلاني، فإن الجاحظ نفسه قد دلنا على ذلك فيما نقلته آنفًا من كلامه [ص: 67]، ولكنه أيضًا قد سلك غير مسلك المتكلمين في أبواب أخرى منه، كالتي أشار إليها في هذا النص القريب السالف، وتكلم في وجوه ليس للمتكلمين فيها منفذ، لأنها من عمل الكتاب والبلغاء والذين يتذوقون البيان تذوقًا أرهفته الخبرة والإلف والشغف المهوف بالبيان.
    وقد يكون الباقلاني معذورًا فيما قاله مما يغض من شأن أبي عثمان، وذلك أن الجاحظ، بلا ريب، دخل إلى (نظم القرآن وبديع تأليفه) من باب (الكلام) كما رأيت آنفًا، وقد أعد عدته لإثبات أن (نظم القرآن وتأليفه) آية كسائر آيات الأنبياء، وأن هذه
    [مداخل إعجاز القرآن: 72]

    الآية حجة لنبينا صلى الله عليه وسلم على الناس، وأن مثل هذا النظم والتأليف لا يدخل في قدرة أحد من العباد. فلعل أبا عثمان كان قد خلط في كتابه هذا بين المسلكين: مسلك المتكلمين، ومسلك المتذوقين من أهل البيان. فلما جاء الباقلاني بعد أكثر من مائة سنة، وبلغ من العلم ما بلغ، وقرأ كتبًا في (نظم القرآن وتأليفه) كتبت بعد كتاب الجاحظ، ولعلها خلصت الخلط بين المسلكين = ثم قرأ كتاب أبي عثمان، لم ير فيه إلا عمل المتكلمين من المعتزلة، ولم يخطر له ببال أن أبا عثمان هو أول من كتب في هذا الباب كتابًا، كما يشهد بذلك ابن الخياط آنفًا، وهو ما يدل عليه أيضًا تاريخ القول في (إعجاز القرآن). كما أسلفت بيانه). [مداخل إعجاز القرآن: 69-73]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي



    (15) تتمة الحديث عن تأسيس الجاحظ وظهور مصطلح (بلاغة القرآن) عند الواسطي والرماني

    قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (15)
    1- بعد هذا، أجدني قد أشرفت الآن على باب من النظر في بقايا أقوال أبي عثمان في (نظم القرآن) وهي أقوال تفرقت فيما بقى لدينا من كتبه المشهورة، وقد أسلفت نقل كثير منها ثم إعادة النظر في الأثر الذي أحدثه كتابه الذي لم يصلنا، وهو كتاب (الاحتجاج لنظم القرآن، وغريب تأليفه وبديع تركيبه)، كما سماه هو، أو كتاب (الاحتجاج لنظم القرآن، وسلامته من الزيادة
    [مداخل إعجاز القرآن: 73]
    والنقصان) كما سماه القاضي عبد الجبار في كتاب (تثبيت البنوة). وهذا الباب يحتاج إلى فضل تأمل، للفصل بين حقيقة ما قاله أبو عثمان، وبين الطريق الذي سلكه من جاء بعده معتمدًا على كتابه.
    وقد بينت آنفًا أن أبا عثمان قد افتتح القول في (نظم القرآن وبديع تأليفه). من موقف المناكرة لما أدت إليه مقالته هو ومقالة صاحبه أبي إسحق النظام في (الصرفة). لم يتنكر أبو عثمان للصرفة، ولكنه تنكر أشد التنكر لما أدت إليه أقوال خليله أبي إسحق النظام، وأقوال من نجم بعد النظام، وهي الأقوال الخبيثة التي تسلب القرآن كل فضيلة، وتزعم أن لو خلى بين العرب وبين معارضة القرآن لكانوا قادرين على الإتيان بمثله، لولا (الصرفة)! وقد فزع أبو عثمان إلى تذوقه لبيان القرآن، وهو التذوق الذي كان عليه سائر المسلمين منذ عهد الصحابة الأول، وتبينهم تبينًا لا لبس فيه أن هذا القرآن الذي نزل عليهم بلسان عربي مبين، ليس يشبه بيانه بيان أئمة الشعراء وأصحاب الألسنة البليغة، وأنه نمط متفرد، لا يطابق تأليفه وتركيبه أنماط المألوف من بيانهم. وهم مطبقون جميعًا، بهذا التذوق، على أنه كلام رب العالمين، المباين لكلام البشر. وتدل الكلمات الباقية في كتب أبي عثمان، والتي ذكر فيها نظم القرآن وغريب تأليفه وبديع تركيبه،
    [مداخل إعجاز القرآن: 74]
    على أمر مهم جدًا، هو أنه كان في جميع ذلك يصف هذا التذوق، الغامض الغامر الساري في نفسه. كان يصفه صفة المتأمل المستبطن لما يتذوقه، لا صفة المعتزلي المتكلم المفسر لحقيقة هذا التذوق بالتقسيم والتبويب والتفصيل، وكل كلماته دالة أبين الدلالة على أنه كان يستخرج من أعماق اللغة نعتًا بعد نعت لأقصى ما يجده في أغوار نفسه من أثر تذوق هذا الكتاب العربي، المباين نظمه وتأليفه سائر تأليف الكلام العربي وتركيبه ونظمه. وقد وصف الجاحظ هذا الجهد في الاستخراج في كتاب (حجج النبوة) حيث قال لصاحبه: (كتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسي، وبلغت منه أقصى يمكن مثلي في الاحتجاج للقرآن، والرد على كل طعان). والنصوص السالفة التي نقلتها من كلامه، دالة على أنه كان ينعت شيئًا مستقرًا في نفسه وفي نفوس الأمة، البيان عن مستعص، والألسنة عن إبرازه باللفظ عاجزة، فاجتهد وحاول وجاء في ذلك بما لم يسبقه إليه من الناس من ألفاظ جعلها نعوتًا وأوصافًا للقرآن نفسه، ولصنيعه في النفوس، وتأثيره في القلوب.
    وأظن أن أبا عثمان قد استطاع ببراعته وبيانه وتدفقه، أن يضع في هذا الكتاب ألفاظًا عظيمة الوقع في النفوس بإبهامها واستثارتها، ونثرها في جمل بارعة الصياغة متألقة الألفاظ فجاءت مثيرة لكوامن الخواطر، قريبة الإيحاء بالمعاني البعيدة. ومن هذه
    [مداخل إعجاز القرآن: 75]
    الألفاظ ما مر بنا من مثل قوله: (نظم القرآن، وبديع تركيبه، وغريب تألفه = وطبع القرآن، ومخارج آياته، وحسن بيانه، وجمع المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة = والقرآن كتابنا المنزل الذي يدلنا على أنه صدق نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد = ولو تحدى أبلغ العرب بأقصر سورة منه لتبين في نظامها ومخرجها ولفظها وطبعها أنه عاجز عنها).
    وحسب أبي عثمان فضيلة وفضلا أنه هو الذي افتتح هذا الباب بألفاظه البارعة القوية الإيحاء، وبثها في سياق تركيب كلامه، حاملة تدفقه في نعت ما يجده في نفسه من وقع القرآن عليها وتأثيره فيها، فمهد لمن بعده أن يتناول القضة تناولاً يعينه على أن يصوغها صياغة قابلة للإثبات، وذلك بأن يستخرج العلة التي كان هذا القرآن، بنظمه وبيانه، مما لا يقدر على مثله العباد = ومن أي وجه يتبين للبليغ، إذا سمع سورة منه، أنه عاجز عنها؟ ولكن مما لاحظت: أنا أبا عثمان، لم يذكر قط (بلاغة القرآن)، ولم يجعلها الوجه الذي كان منه عجز العرب عن معارضته، مع أنه كان يذكر في هذا الصدد (بلاغة الشعراء والخطباء)، ويذكر (أبلغ العرب) وأشباه ذلك، دون أن يستخرج منه أن وجه (إعجاز القرآن) هو بلاغته. وهذه ملاحظة لا بد منها، ولأن الأمر سيظهر ظهورًا بينًا بعد قليل.
    [مداخل إعجاز القرآن: 76]
    2- جاء بعد أبي عثمان الجاحظ (المتوفى سنة 255) أبو عبد الله محمد بن يزيد الواسطي المتكلم المعتزلي، (المتوفى سنة 306)، [انظر ما سلف: ص28] وهو أول من نعلم أنه أنشأ كتابًا يحمل عنوانه لفظ (إعجاز القرآن) وهو اللفظ الذي كان دانيًا في كلام أبي عثمان الجاحظ ثم تجاوزه، كما قلت آنفًا، واستخرجه استخراجًا من كتب أبي عثمان، ولا سيما كتابه (الاحتجاج لنظم القرآن). وإذا كان قد فعل ذلك، فإنه من القريب الذي لا يكاد يدفع، أنه هو نفسه الذي استخرج لفظ (المعجزة) وهو يريد بها (آية النبي) التي يستدل بها على نبوته، كإحياء الموتى وإبراء الأكمه. ومن الدليل على أنه هو أول من فعل ذلك، على الأرجح، أن أبا عثمان لم يستعملها قط، ولا استعملها أحد من معاصريه من علماء الأمة على اختلافهم، وإنما كانوا يقولون: (آيات الأنبياء)، و(دلائل النبوة)، و(أعلام النبوة) و(حجج البنوة) و(وبرهان النبوة)، وذلك واضح جدًا في كتب الأئمة كالبخاري وغيره. ثم نجد لفظ (إعجاز القرآن)، ولفظ (معجزة النبي) و(معجزات الأنبياء)، قد وجد فجأة في الكتب التي جاءت بعد كتب الواسطي. فالأشبه بالحق أن يكون هو أول من أكثر استخدام هذين اللفظين، حتى غلبا على ألسنة الناس جميعًا إلى يومنا هذا.
    [مداخل إعجاز القرآن: 77]
    ولم يصلنا كتاب أبي عبد الله الواسطي، ولا نجد في أيدينا منه شيئًا يذكر سوى عنوانه، مع أنه كان كتابًا مشهورًا عند أئمة علم البلاغة إلى القرن الخامس الهجري، ولذلك لا نستطيع أن نقول فيه قولا يعتد به، ولكن تاريخ القول في شأن القرآن وإعجازه، يدل على أنه جاء بعد أبي عثمان الجاحظ مباشرة، وأنه استخرج منه عنوان كتابه (إعجاز القرآن)، وأفرد القول فيه على حدة، وأنه صار أصلاً لمن جاء بعده ممن ألف كتابًا في (إعجاز القرآن). وأنا أرجح أيضًا أنه أول من استخرج من ثنايا أقوال أبي عثمان الجاحظ، في نعت تذوق القرآن، وما بثه في خلال ذلك من الاحتجاج لنظم القرآن = استخرج ما سوف يدور عليه القول في إعجاز القرآن، إلى يومنا هذا. وذلك أنه هو الذي بين بيانا واضحًا أن الوجه الذي كان منه القرآن معجزًا هو: بلاغته، وأن (بلاغة القرآن) هي (الآية). وهذا ما يدل عليه السياق التاريخي للتأليف في (البلاغة).
    3- والدليل على ذلك أن الرجل الثالث النحوي المتكلم المعتزلي، بعد أبي عثمان الجاحظ، وأبي عبد الله الواسطي، وهو أبو الحسن علي بن عيسى الرماني المعتزلي، (296 – 386هـ)، والذي كان قد بلغ الثانية عشرة من عمره حين مات الواسطي = أنشأ
    [مداخل إعجاز القرآن: 78]
    كتابا سماه، (نكتب في إعجاز القرآن)، فذكر فيه وجوه (إعجاز القرآن)، وخص من هذه الوجوه (بلاغة القرآن)، فذكر طبقات البلاغة ثم أقسامها، وهذا شيء لم يكن على عهد أبي عثمان الجاحظ، وإن كان هذا الباب أيضًا مستخرجًا من كتب أبي عثمان، ولا سيما كتاب (البيان والتبيين). ولا بد من إثبات ما قاله الرماني في افتتاح كتابه، لأن هذا يجعل الأمر كله واضحًا كل الوضوح، قال: (وجوه إعجاز القرآن تظهر من سبع جهات: ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة = والتحدي للكافة = والصرفة = والبلاغة = والأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة = ونقض العادة = وقياسه بكل معجزة. فأما البلاغة فهي على ثلاث طبقات، منها ما هو في أعلى طبقة، ومنها ما هو في أدنى طبقة، ومنها ما هو في الوسائط بين أعلى طبقة. فما كان في أعلاه طبقة فهو (معجز)، وهو بلاغة القرآن، وما كان دون ذلك فهو ممكن، كبلاغة البلغاء من الناس ... وأعلاها طبقة في الحسن بلاغة القرآن، وأعلى طبقات البلاغة للقرآن خاصة. وأعلى طبقات البلاغة معجز للعرب والعجم، كإعجاز الشعر للمفحم، فهذا معجز للمفحم خاصة، كما أن ذلك معجز للكافة ... والبلاغة على عشرة أقسام: الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس،
    [مداخل إعجاز القرآن: 79]
    والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان = ونحن نفسرها بابًا بابًا، إن شاء الله تعالى).
    وينبغي أن لا نخلط هنا بين لفظ (البلاغة)، كما جرى في حديث الجاحظ والواسطي والرماني، وبين (علم البلاغة)، كما عرف بعد عبد القاهر. وهذا فصل لا بد منه هنا. أما هذا الضرب من تدريج طبقات البلاغة، فإنما هو عمل من أعمال المعتزلة المتكلمين، لا أصل له في العقول، بل هو تخطيط عقلي مبهم لا قيمة له البتة، وعادة سيئة من التحكم في المعاني بغير دليل ولا برهان، إلا الخداع المجرد بالتزام العقل وأحكامه! وسياق حديثي هنا يعفيني من تتبع عورات هؤلاء المتكلمين، ولا سيما المعتزلة). [مداخل إعجاز القرآن: 73-80]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

    كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
    صفية الشقيفي





    (16) بحث أبي سليمان الخطابي وأبي بكر الباقلاني عن بيان كيفية بلاغة القرآن

    قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (16)
    كانت ثمرة هذا السياق الذي اتصل منذ عهد أبي عثمان الجاحظ (150 – 255هـ)، إلى أن انتهى إلى الرماني (-386هـ) هو: أن التحمت خمسة ألفاظ التحامًا واحدًا، في الفكر وفي الاستعمال، في كل بحث يكون في شأن القرآن، وفي كلام المتفقين والمختلفين على السواء، وهذه الألفاظ الخمسة هي: (الإعجاز، والمعجزة = التحدي، والعجز = البلاغة)، وكان لفظ (البلاغة)
    [مداخل إعجاز القرآن: 80]
    هو أشدهن سحرًا، حين وضع في حيز الإبانة عن أعظم وجوه (إعجاز القرآن)، وذلك لأن لفظ (البلاغة) الذي أسند إليه (إعجاز القرآن) كان، ولم يزل، لفظًا مبهمًا غير بين المعالم والحدود والدرجات، فكان لهذا الإبهام، مع حضور التذوق في الأنفس حضورًا واحدًا حيًا في تذوق نظم القرآن وتأليفه، وفي تذوق نظم الشعر والكلام البليغ = كان له سحر يربط هذا التذوق، بلفظ له في نفسه دلالة مغرية، فيوهم المرء بأن معناه بين، والحقيقة أن معناه ليس ببين ولا محدود. ولم يغفل بعض القدماء عن موطن هذا الغموض والإبهام، بل انتبهوا له، ولكن جرفهم سحر لفظ (البلاغة) في حيز (إعجاز القرآن)، فسكتوا عنه، أو ذكروه ثم تجاوزوه، وعادوا إلى البلاغة، بلا غضاضة ولا تردد.
    4- ومن الدليل على ذلك أن الرجل الرابع، بعد الثلاثة الأول، كان أول من صرح بغموض هذا اللفظ، ثم عاد إليه مسحورًا به، وسار في الطريق الذي مشى فيه من قبله، وسيمشي فيه من بعده، وهذا الرجل هو الإمام الجليل القدر في أهل السنة، وعند أهل الأدب واللغة،: أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي، من ولد زيد بن الخطاب أخي عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. وقد ولد أبو سليمان الخطابي سنة 319، وتوفي
    [مداخل إعجاز القرآن: 81]
    سنة 388هـ، فهو معاصر لأبي الحسن الرماني المعتزلي، وإن كان أبو الحسن أسن منه، وخليق أن يكون في مرتبة شيوخه. وقد كتب أبو سليمان رسالة سماها (كتاب بيان إعجاز القرآن)، والوقوف على ما افتتح به كتابه، أمر لا بد منه، لنعرف السياق الصحيح الذي سار فيه تاريخ (إعجاز القرآن). يقول أبو سليمان في فاتحة رسالته: (القول في بيان إعجاز القرآن. قال أبو سليمان: قد أكثر الناس في هذا الباب قديمًا وحديثًا، وذهبوا فيه كل مذهب من القول، وما وجدناهم صدروا عن رمى، وذلك لتعذر معرفة وجه إعجاز القرآن، ومعرفة الأمر في الوقوف على كيفيته)، فأبان عن الحيرة التي تبحث عن شيء مبهم تتلمسه تلمسًا، ثم ذكر أربعة وجوه في إعجاز القرآن، فأولها: ما كان من ترك معارضته، مع وقوع الحاجة إليها، وهذا دليل (العجز) ثم وصفه فقال: (وهذا من وجوه ما قيل فيه، أبينها دلالة، وأيسرها مؤونة، وهو مقنع لمن لم تنازعه نفسه مطالعة كيفية وجه الإعجاز فيه) = ثم ذكر الوجه الثاني، وهو (الصرفة) فرده وأبطله = ثم ذكر الوجه الثالث، وهو الإخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان، فضعفه ولم يرده، - ثم ذكر الوجه الرابع، فأتى فيه بكلام مهم جدًا، ينبغي أن تقرأه بعناية، قال أبو سليمان: (وزعم آخرون أن إعجازه من جهة
    [مداخل إعجاز القرآن: 82]
    البلاغة، وهم الأكثرون من علماء أهل النظر، وفي كيفيتها يعرض لهم الإشكال، ويصعب عليهم منه الانفصال. ووجدت عامة أهل هذه المقالة قد جروا في تسليم هذه الصفة للقرآن على نوع من التقليد، وضرب من غلبة الظن، دون التحقيق له وإحاطة العلم به. ولذلك صاروا إذا سئلوا عن تحديد هذه البلاغة التي اختص بها القرآن، الفائقة في وصفها سائر البلاغات، وعن المعنى الذي يتميز به عن سائر أنواع الكلام الموصوف بالبلاغة، قالوا: إنه لا يمكننا تصويره ولا تحديده بأمر ظاهر نعلم به مباينة القرآن غيره من الكلام، وإنما يعرفه العالمون به عند سماعه ضربًا من المعرفة لا يمكن تحديده، وأحالوا على سائر أجناس الكلام الذي يقع فيه التفاضل، فتقع في نفوس العلماء به عند سماعه معرفة ذلك ... قالوا: وقد يخفى سببه عند البحث، ويظهر أثره في النفس، حتى لا يلتبس على ذوي العلم والمعرفة به قالوا: وقد توجد لبعض الكلام عذوبة في السمع، وهشاشة في النفس، لا توجد مثلها لغيره منه، والكلامان معًا فصيحان، ثم لا يوقف لشيء من ذلك على علة. قال أبو سليمان الخطابي. قلت: وهذا لا يقنع في مثل هذا العلم، ولا يشفى من داء الجهل، وإنما هو إشكال أحيل إبهام).
    [مداخل إعجاز القرآن: 83]
    ولست هنا بصدد بيان مقالة أبي سليمان أو غيره في إعجاز القرآن، بل همى هنا أن أظهر هذه الحقيقة، وهي أن (البلاغة) التي جعلوها وجهًا من وجوه الإعجاز، إذا أنت ذهبت تتطلب بيانها، وجدتها محفوفة بالإبهام، لا تثبت على النظر! ثم لا أكتم عجبي من أن أبا سليمان قد كشف هذا الإبهام كشفًا لا مرية فيه، فلما أراد أن يقول في الإعجاز برأيه، لم يزد على ما فعله الرماني في تقسيم أجناس الكلام الفاضل ومراتبه، وجعلها ثلاثة: (البليغ الرصين الجزل = والفصيح القريب السهل = والجائز الطلق الرسل = فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه، والثاني أوسطه وأقصده، والثالث أدناه وأقربه، فحازت بلاغة القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة ...، وقد توجد الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام، فأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه، فلم توجد إلا في كلام العليم القدير ...)! والعجب من هذه المبهمات الثلاثة التي لا حدود لها، إذا هي اجتمعت، كيف يخرج منها ما نسميه (إعجاز القرآن)؟ وسر هذا الاضطراب بعد الاستقامة والوضوح، هو سحر لفظ (البلاغة). كما أسلفت.
    5- أما الرجل الخامس، الذي كان مع الرماني المعتزلي، وأبي سليمان الخطابي من أهل السنة في زمان واحد، (توفى سنة
    [مداخل إعجاز القرآن: 84]
    403) فهو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد الباقلاني، (شيخ السنة، ولسان الأمة)، وهو أحد بحور العلم في القرن الرابع، وهو رأس الطبقة الثانية من أصحاب أبي الحسن الأشعري، (علي بن وإسماعيل بن أبي بشر)، من ولد أبي موسى الأشعري الصحابي (260 – 324هـ). وكان متكلمًا لا يبارى في نصرة مذهب الأشعري، ولكنه كان أيضًا أديبًا جيد التذوق ينفي عن نفسه صدأ الكلام. وقد ألف القاضي الباقلاني كتابًا جليل القدر، فريدًا، هو كتابه (إعجاز القرآن)، وقد ذكرت بعض قولي فيه آخر (المدخل الثالث) من هذا الكتاب بما يغنى عن ذكره هنا. وكتابه دال على أنه كان قد اطلع على جميع كتب من سبقه منذ عهد أبي عثمان الجاحظ، ممن كتب في إعجاز القرآن، وكل من قال فيه قولاً. وقد ذكر كتاب الجاحظ المعتزلي (نظم القرآن) وجار عليه فيه، ثم أشار تعريضًا لا تصريحًا إلى كتاب الرماني المعتزلي حيث يقول: (قد أبنا لك أن من قدر البلاغة في عشرة أوجه من الكلام، لا يعرف من البلاغة إلا القليل، ولا يفطن منها إلا لليسير)، [انظر ما سلف: 79] ولكن الغريب عندي أن ظاهر كتابه لا يدل على أنه اطلع على كتاب أبي سليمان الخطابي، فلو كان قد رآه، لأشار إلى تلك الحقيقة التي كشف عنها الخطابي في
    [مداخل إعجاز القرآن: 85]
    صدر كتابه، من إبهام معنى (البلاغة)، وأن العلماء سلموا بهذه الصفة للقرآن على نوع من التقليد وغلبة الظن ... وأنهم قالوا إنهم لا يستطيعون تحديد هذه البلاغة بأمر ظاهر (يعلم به مباينة القرآن غيره من الكلام) كما نقلت ذلك منذ قليل. وهذا غريب جدًا من بحر متكلم كالقاضي الباقلاني! بل إن ظاهر كتابه يدل أيضًا على إنه لما ذكر (البلاغة) ذكرها ذكر الواثق المطمئن الذي لا تدخله ريبة في أنه قد فرغ من تحديد معناها في قلبه تحديدًا سالمًا من العيب، وتصورها في نفسه تصورًا لا يحجبه شك أو غموض.
    ولكني بعد التأمل، وجدت الأمر يحتاج إلى نظر، وأنه إما أن يكون القاضي لم يطالع قط على كتاب الخطابي، ولكن ساوره في شأن (البلاغة) ما ساور الخطابي، وإما أن يكون اطلع عليه، ثم سكت عنه وعن التصريح بهذه المقالة، ولم يعاملها معاملة المتكلم، مع أن آفة كتابه هو أنه يحمل آفة المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة جميعًا في النظر، بلجوئهم إلى التكثير والتشقيق والمماحكة التي تنال بها الغلبة على الخصوم. وقد تبين لي أن القاضي رحمه الله منذ بدأ القول (في كيفية الوقوف على إعجاز القرآن) (كتابه ص: 271) إلى انتهى من كتابه (ص: 462)، كان في الحقيقة يحاول محاولة صادقة لإزالة (الإبهام) عن معنى (البلاغة) و(الفصاحة)، ولكنه
    [مداخل إعجاز القرآن: 86]
    كان كسائر المتكلمين، يصرفه الجدال وحب الغلبة عن الطريق الواضح الذي يلوح له من قريب، وتشغله عنه المسالك والمضايق التي تكشف عن البراعة في الجدال والنظر. والقاضي المتكلم، كان أيضًا أدبيًا ذواقة، فكان إذا حزبه الأمر وهو في فحصه عن البلاغة ونظره فيها على طريقة المتكلمين، فزع إلى التذوق الذي يعصمه من الزلل، فكان دائم الأوبة إلى الطريق الذي سلكه من قبله أبو عثمان الجاحظ، وهو أن ينعت ما يجده في نفسه من تذوق القرآن، وبديع تركيبه، وغريب نظمه، ودقة رصفه، وروعة بيانه. ومعنى ذلك في الحقيقة أن فراره من طريق المتكلمين، إلى النعوت التي يجريها أهل البيان والتذوق، تكشف عما يجده في نفسه من غموض معنى (البلاغة) وما فيها من الإبهام. وقد بلغ القاضي في ذلك مبلغًا أربى فيه على أبي عثمان الجاحظ، وإن كان في كثير من ألفاظه عالة عليه، ونازعًا منه، ولكنه كان أشد تنبهًا من أبي عثمان إلى أن بيان القرآن مفارق لبيان البشر، ولذلك كان أحسن منه بيانًا عن هذا المعنى، وإن كان قد شغل عنه بحل إشكال (البلاغة)). [مداخل إعجاز القرآن: 80-87]

    (17) محاولة عبد الجبار الهمداني وعبد القاهر الجرجاني بيان بلاغة القرآن
    قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (17)
    6- ثم جاء الرجل السادس، وهو معاصر للرماني المعتزلي، وللخطابي والباقلاني من أهل السنة، وهو قاضي القضاة (عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني)، البحر المتكلم المعتزلي، عمر دهرًا طويلاً قارب المئة، وتوفى سنة 415 من الهجرة، وكان في المعتزلة، كالقاضي الباقلاني في الأشاعرة من أهل السنة. وهو الذي نافح عن الاعتزال، وألف الكتب الكبار الجامعة للمذهب، وصحح منه وزاد فيه. ولكنه لم يكن كالقاضي الباقلاني في التذوق، وإن ضارعه في التكلم (أي في علم الكلام)، وقد كتب القاضي كتابه الكبير: (المغني)، فعقد جزءًا من أجزائه للكلام في مسألة (خلق القرآن)، وعقد جزءًا آخر للكلام في (إعجاز القرآن) وحشد في هذا الجزء مذاهب أهل الاعتزال في (إعجاز القرآن). وقد سلك قاضي القضاة عبد الجبار سبيل من سبقه من المتكلمين في الإعجاز، ولكنه في خلال ذلك أراد أن يزيد الإبهام عن معنى (الفصاحة) و(البلاغة)، ويفعل ما لم يفعله أحد قبله ممن كتب في (إعجاز القرآن). وكان سبيله إلى ذلك مجرد النظر على أسلوب المتكلمين، وهو أسلوب يعلوه صدأ كثير يجلب من الضرر أضعاف
    [مداخل إعجاز القرآن: 88]
    ما يجلب من النفع، ولا سيما فيما يتعلق بآداب اللسان وتذوق النفوس. وقد كان كلام القاضي خالصًا لعلم الكلام منذ بدأ ذلك في كتابه المغني (16: 197 – 315). ولكن هذه المحاولة في كشف (الإبهام) والتي تجاوزها القاضي الباقلاني، سوف يكون لها أثر عظيم في تاريخ اللغات والألسنة، والظاهر أن أقوال القاضي عبد الجبار المعتزلي، كانت قد استفاضت وأثارت ضروبًا من الصراع والمناقشة بين المعتزلة والأشاعرة، في شأن البلاغة والفصاحة، وامتد الصراع والنظر إلى من يخصهم تفسير (الفصاحة) و(البلاغة) من الأدباء والعلماء وأصحاب اللغة والشعر، ولكنه كان مشوبًا بالعصبية للمذهب والتأثر به، وهذا شيء ينبغي أن يتتبعه باحث حتى يقول فيه قولاً مرضيًا، من خلال دراسة كتب الآداب والنقد، فيما بين زمن حياة القاضي عبد الجبار، وزمن حياة عبد القاهر.
    7- ثم جاء الرجل السابع، جاء أمة وحده، جاء ليضع ميسمه على علم قائم برأسه، لم يسبقه إلى مثله أحد، ثم جاء من بعده ليتموا عمله ببراعة واقتدار ومع ذلك ظل عمله هو منفردًا بسجاياه عن أعمالهم: هو الإمام أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني، لعله أدرك أواخر القرن الرابع، ثم توفى في
    [مداخل إعجاز القرآن: 89]
    القرن الخامس سنة 471 من الهجرة، وعبد القاهر فقيه شافعي، ومتكلم على مذهب أبي الحسن الأشعري، كان إمامًا في النحو واللغة والأدب، استوعب ما كان من علم أبي علي الفارسي وأبي الفتح بن جني، وهو الذي تولى شرح كتاب (الإيضاح) في النحو لأبي علي الفارسي، وسماه (المغني) وهو في ثلاثين مجلدًا. كانت نشأة عبد القاهر في زمن يموج موجًا بالعلم، وبالصراع بين المذاهب، وبعصبية صاحب كل بضاعة من العلم لبضاعته، وتناثرت أقوال غريبة وتضاربت، إذ كان الفساد قد دخل على الناس، فأصاب منه حصته كل عالم وجاهل، وقد وصف بعض هذا عبد القاهر نفسه في أول كتابه (دلائل الإعجاز)، وأفرد منهم بالذكر طائفة ترى أن (البيان) هو الإفهام لا غير، أما ما يسمونه (الفصاحة والبلاغة والبراعة) فلا معنى لها سوى الإطناب في القول، وأن غاية (البيان) أن تعرف أوضاع اللغة، ومغزى كل لفظة وأن تتجنب ظاهر اللحن في الإعراب فإذا فعلت ذلك فأنت (كامل الأداة، بالغ من البيان المبلغ الذي لا مزيد عليه، منته إلى الغاية التي لا مذهب بعدها!.
    وقد طعنت هذه الطائفة في شيئين: في الشعر (فليس فيه كثير طائل، وأنه ليس إلا ملحة أو فكاهة، أو بكاء منزل أو طلل.
    [مداخل إعجاز القرآن: 90]
    أو إسراف قول في مدح أو هجاء وإنه ليس بشيء تمس الحاجة إليه في دين أو دنيا)، [دلائل الإعجاز: 6] = وطعنت في النحو. (فهو ضرب من التكلف، وباب من التعسف، وشيء لا يستند إلى أصل، ولا يعتمد فيه على عقل، وأن ما زاد منه على معرفة الرفع والنصف والجر وما يتصل بذلك، مما تجده في المبادئ، فهو فضل (أي زيادة) لا يجدى نفعًا، ولا يحصل منه على فائدة)، [دلائل الإعجاز: 6]، هكذا قال عبد القاهر. وأقول: هذا كله شبيه بما يقوله جهلة زماننا عن الشعر، وعن تبسيط النحو واختصاره، والبلاء واحد، ولكنه اليوم أخطر وأبشع وأخبث، لأن الحق اليوم أضعف ناصرًا وأقل عددًا].
    وكان عبد القاهر نحويًا متكلمًا، ولكنه استودع قدرًا باهرًا من تذوق البيان، فلم يطمس عليه صدأ الكلام والمتكلمين، وزاده تذوقه بصيرة في (النحو). وقريب جدًا أن يكون منذ نشأته قد شارك في معمعة الصراع بين الأشاعرة والمعتزلة في كل أبواب (الكلام) التي شغلوا بها واصطرعوا عليها، ولكن يظهر أن عبد القاهر كان يجعل مشاركته هذه مشوبةً دائما بالحس المتذوق للبيان، فلما استوى واشتد، واتسع علمه بالأدب والشعر واللغة حتى صار فيها إمامًا، كانت تشغله قضية (إعجاز القرآن) التي هي جزء
    [مداخل إعجاز القرآن: 91]
    من أجزاء (علم الكلام)، وجزء مما اختلف فيه المختلفون من المتكلمين، وكتب عبد القاهر: (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة)، وبعض رسائله، وكلها تدل على أنه لم يفته شيء مما قاله الجاحظ، وأبو عبد الله الواسطي، والرماني، والخطابي، والباقلاني، وعبد الجبار، فوقف على ألفاظ الجاحظ الموحية المثيرة، والتي كان ينعت بها ما يجده في نفسه من تذوق القرآن، واستوعب ما زاد عليه فيها الباقلاني، وهو يحاول أن يكشف الإبهام عن معنى (البلاغة).
    وأنا أرجح أن الذي أرق عبد القاهر دهرًا طويلاً منذ أول اشتغاله بالعلم والأدب هو ما قاله الخطابي في افتتاح كتابه (انظر ص: 87 – 89)، حيث ذكر أن (البلاغة) معنى مبهم غامض، وأن المتكلمين، حين طلبوا وجه (إعجاز القرآن) اقترحوا أن يكون وجه الإعجاز هو (البلاغة)، وأن الناس قد جروا في تسليم هذه الصفة للقرآن على نوع من التقليد وضرب من غلبة الظن، وأنهم عاجزون عن تحديدها وتصويرها، وأن الكلامين يتفاضلان بالعذوبة في السمع وبهشاشة النفس له، ولكنهم لا يقفون على العلة التي تجعل لأحدهما على الآخر فضيلة ومزية.
    فلما جاء القاضي عبد الجبار، رأس المعتزلة، حاول كشف الإبهام والغموض عن معنى (البلاغة) و(الفصاحة)، وسلك في
    [مداخل إعجاز القرآن: 92]
    ذلك مسلك المتكلمين، فطرح (الكلام) صدأه على ما كتب، ولم يستطع أن يزيد على ضروب من تشقيق الكلام، تجعل البلاغة والفصاحة ضربًا من الكلام، لا دروة من درى البيان. وظاهر أن أقوال القاضي عبد الجبار، كانت مما دخل في نزاع المتكلمين وغير المتكلمين من الأدباء والشعراء، وأن عبد القاهر كان قد شارك الأشاعرة، منذ نشأته، في حوارهم وحديثهم وجدالهم وفي كل ما نازعوا فيه المعتزلة، إلا أنه كان في خلال ذلك كله أديبًا متذوقًا، قبل أن يكون أشعريًا متكلمًا. ومع الأيام، ظهر له قدر الفساد الذي أحدثه القاضي عبد الجبار، ببعض ما قاله فيما حاول به كشف الإبهام عن (الفصاحة والبلاغة). هذا، فضلاً عما وصفه قبل من فساد الناس، وفساد أقوالهم في الشعر والنحو. وقد هيج هذا كله تذوقه الذي كان يزداد على الأيام صقلاً، فعزم عندئذ على أن يقول قولاً في كشف هذا الإبهام الذي يكتنف (الفصاحة والبلاغة). وقد دل عبد القاهر نفسه على صحة ما قلت، في أول كتابه (دلائل الإعجاز) (ص34 – 38) حيث يقول، في فصل مهم جدًا:
    1- ولم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى الفصاحة والبلاغة، والبيان والبراعة، وفي بيان المغزى من
    [مداخل إعجاز القرآن: 93]
    هذه العبارات وتفسير المراد بها، فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء، وبعضه كالتنبيه على مكان الخبئ ليطلب، وموضع الدفين ليبحث عنه ويخرج، وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه، وتوضع لك القاعدة لتبنى عليها. ووجدت المعول على أن ههنا نظمًا وترتيبًا، وتأليفًا وتركيبًا، وصياغة وتصويرًا، ونسجًا وتحبيرًا = وأن سبيل هذه المعاني في الكلام الذي هي مجاز فيه، سبيلها في الأشياء التي هي حقيقة فيها ...)، ثم يقول (ص30 – 31).
    2- ولا يكفي في علم الفصاحة أن تنصب لها قياسًا ما، وأن تصفها وصفًا مجملاً، وتقول فيها قولاً مرسلاً، بل لا تكون من معرفتها في شيء حتى تفصل القول وتحصل، وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم، وتعدها واحدة واحدة، وتسميها شيئًا شيئًا، وتكون معرفتك معرفة الصنع الحاذق الذي يعلم علم كل خيط من الإبريسم الذي في الديباج، وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطع، وكل آجرة من الأجر في البناء البديع).
    فالفقرة الأولى دالة على أن كلام الخطابي في إبهام (البلاغة) كان يشغله ويهمه، والفقرة الثانية تشير إلى محاولة
    [مداخل إعجاز القرآن: 94]
    القاضي عبد الجبار في كشف الإبهام، وما في محاولته من العيب، فضلاً عن بعض أقواله الفاسدة التي أشار إليها عبد القاهر في مواضع من كتابه غير هذا الموضع. بيد أن الذي يهمني هنا أن أشير إليه، هو هذه الألفاظ الثمانية التي وضعت تحتها خطا في الفقرة الأولى. فهذه الألفاظ، كما ترى، هي نفس ألفاظ أبي عثمان الجاحظ. ومن بعده القاضي الباقلاني. كان أبو عثمان ينعت بها وبأخوات لها ما كان يجده في نفسه من تذوق هذا القرآن العظيم، حين أفزعته النتائج التي أفضت إليها (الصرفة) من سلب القرآن كل فضيلة، [كما بينت ذلك آنفًا ص65 – 69] وهي أيضًا ألفاظ الباقلاني، مع أخوات لها، كان يفزع إليها الباقلاني، حين يخامر قلبه الشك في إبهام هذه (البلاغة) ما هي؟ ولا يجد عند نفسه قدرة على الإبانة عنها، فيلجأ هو أيضًا عند ذلك إلى نعت ما يجد في نفسه من تذوق القرآن، بألفاظ الجاحظ، وبألفاظ أخرى استخرجها ببيانه وبراعته.
    وقد قلت آنفًا إن أبا عثمان قد استطاع ببراعته وبيانه وتدفقه، أن يستخرج من أعماق اللغة نعوتًا لأقصى ما يجده في أغوار نفسه من أثر تذوق القرآن العظيم، فجاءته ألفاظ عظيمة الوقع في النفوس بإبهامها واستثارتها، وكان يبثها في سيا كلامه
    [مداخل إعجاز القرآن: 95]
    حاملة صدقه وإخلاصه وتدفقه ونفاذ تذوقه، فتألقت تألقًا يثير كوامن الخواطر. من مثل قوله (نظم القرآن، وبديع تركيبه، وغريب تأليفه ...) = فالذي لا أشك فيه أن هذه الألفاظ في كلام الجاحظ، ومن بعده الباقلاني، هي التي ظلت تقع في نفس عبد القاهر موقعًا بعد موقع، كما وصفها في الفقرة (1)، بأنها كالرمز الإيماء والتنبيه على مكان الخبيء إلى آخر ما قال الشيخ الإمام، وصدق. وكان عليه أن يحل رموز هذه الألفاظ، ويكشف عن خباياها، ويذهب المذاهب مع كل إيماءة وإشارة، فكانت تستجيب له مفاتحها، شيئًا بعد شيء، وذلك لأنها كانت تحمل صدق النعت ودقته، عن إحساس مرهف صادق، ببيان هذا القرآن العظيم. ومن تأمل هذه النعوت الصادقة الدقيقة، المعبرة عن أقصى الحقيقة في نفس أبي عثمان، وقد وصف هو نفسه ما بذله من الجهد فيها، فيما سلف (ص: 69 – 76] من تأملها استخرج عبد القاهر أصول كتابيه العظيمين: (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز)، وانفرد وحده في تاريخ آداب الأمم جميعًا بتأسيس علم لم يسبقه إلى مثله أحد، ولم يزل ما يتضمنه هذان الكتابان ساميًا سامقًا تعيي أقلام الدارسين والكتاب عن بلوغ بعض دراه الشامخة).
    [مداخل إعجاز القرآن: 88-96]
    يتبع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •