بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله .
نقد الديموقراطية المعاصرة في الفكر الغربي
د. بشير زين العابدين
دكتوراه في التاريخ السياسي من جامعة بندن
"يروق للسياسيين استخدام مصطلح الديمقراطية - الذي تحبه الجماهير - لأنه يمنحهم أفضل فرصة لتجنب المسؤولية، ويمكنهم من سحق خصومهم ... باسم الشعب" [جوزف شمبتر [
[1]]].
يتميز الفكر الديمقراطي بأنه نشأ في عصر سابق للفترة التي نشأت فيها الإيديولوجيات الأوروبية كالقومية والرأسمالية والليبرالية خلال القرنين الثامن والتاسع عشر. فقد استخدم مصطلح "الديمقراطية" [
[2]] لدى فلاسفة اليونان خلال القرن الخامس قبل الميلاد، للتعبير عن نظام يمنح الشعوب حق حكم نفسها وتقرير مصيرها. ويعتبر المؤرخون بأن ظهور هذه الفكرة يمثل ردة فعل للأنظمة السائدة في ذلك العصر والتي تقوم على نفوذ النبلاء (الأرستقراطية) وتسلط الأقلية (الأوليجاركية) وحكم الفرد (الملكية).
وقد قامت الديمقراطية على افتراض أن الشعوب لا تحتاج إلى وصاية أقلية للقيام بأمرها، ولا بد - لتبني هذا الافتراض - من الثقة المطلقة بقدرة الشعوب على القيام بأمر الحكم وتحقيق المصلحة المشتركة، وتجنب الإضرار ببعضهم البعض، وأن أفراد الشعب متساوون في حقوقهم السياسية ولكل واحد منهم حق المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار وصياغة السياسات التي تحقق الأمن والرخاء للمجتمع.
وكان جان جاك روسو (1712 - 1778) من أبرز مفكري القرن الثامن عشر، الذين نادوا بتطبيق الديمقراطية الحقة حسب أصولها اليونانية، والتي نصت على ضرورة المشاركة الفعلية لجميع أفراد المجتمع الديمقراطي في سائر جوانب الحياة العامة. وقد جاءت جدليات روسو لتبين حجم التباين بين النظرية والتطبيق في الممارسة الديمقراطية في أوروبا الحديثة.
وتحاول هذه الدراسة تبيين أبرز نقاط الخلاف بين أصول الفكر الديمقراطي وتطبيقاتها خلال القرنين الماضيين. وقد استخدم المثال البريطاني لأنه يمثل أقدم ديمقراطية في العالم الغربي، ويعتبر مثالاً يحتذى في التطبيقات الديمقراطية المعاصرة.
بين النظرية والتطبيق:
حظيت الديمقراطية في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر باهتمام فئة من مثقفي الطبقة الوسطى، الذين أرادوا تحدي سلطة الملكية والكنيسة بشرعية الشعب. ويشير المؤرخ البريطاني ريتشارد جاي [
[3]] إلا أن المنتمين إلى هذه الطبقة كانوا يسعون في الحقيقة إلى حماية ثرواتهم من تسلط الملكية وطمع الطبقة الفقيرة على السواء. ولذلك فقد اعتبرت "سلطة الشعب" سلاحاً استخدمه الأوروبيون في صراعهم الطبقي المرير، ووسيلة لاستبدال نظام مندثر بآخر يمكن لفئة جديدة من ممارسة السلطة بشرعية جديدة لا تعبر بالضرورة عن رأي الجماهير.
وقد وقع العبء على عدد من المفكرين الغربيين مثل جيرمي بنثام (1748 -1832) وإدموند بورك (1729 - 1797) وجيمس ميل (1806 - 1873) للتوفيق بين فرضيات القرن الخامس قبل الميلاد وواقع أوروبا في عهد الثورة الصناعية. ونتج عن ذلك صورة جديدة لديمقراطية معاصرة تتغاير في أصولها مع الديمقراطية اليونانية. ويمكن تلخيص أبرز محاور هذا التباين في النقاط التالية:
أولا) الوصاية على الشعب:
لم يكن لدى السياسيين في الحقيقة ثقة بقدرة الجماهير على حكم أنفسهم، فقد كانت الأكثرية من العمال والفلاحين تعيش في جهل وفقر مدقع تحت وطأة الأرستقراطية التي تحتكر السلطة السياسية، وقد زعم جيمس ميل بأنه يصعب تحميل هذه الطبقة من : "الجهلة، عديمي المسؤولية، والعاجزين عن تطوير أنفسهم فكرياً " مهمة الحكم المباشر. ولذلك فقد تم استحداث آلية برلمانية للموازنة بين سلطة الأرستقراطية في مجلس اللوردات وسلطة الشعب في مجلس العموم، واعتبار الملكية وصياً على هذا النظام الذي يتناقض في أصله مع النظرية اليونانية والتي تنص على ضرورة الثقة الكاملة بإمكانية حكم الجماهير أنفسهم. وقد استمر الجدال لفترة طويلة بين السياسيين الأوروبيين حول خطورة توسيع سلطة الشعب، والفوضى التي يمكن أن تنتج من جراء ذلك، وفي هذا المجال صرح السياسي البارز راندولف تشرشل، والد ونستون تشرشل، في الثمانينيات من القرن التاسع عشر: "إنني أثق بالشعب... ولا أخشى من الديمقراطية... فديمقراطية المحافظين تؤمن بأن الملكية - الوراثية - ومجلس اللوردات- الوراثي - هي أقوى الحصون التي شيدتها البشرية على مر العصور لحماية الحريات الديمقراطية، والتي تخضع وتدين بالولاء للمؤسسة الكنسية"!! [
[4]].
وقد بقي هاجس الخوف من حكم الشعب مسيطراً على السياسيين الغربيين، فكان الاقتراع محصوراً على عدد محدود من الذكور ولم يسمح لطبقة العمال والنساء والأقليات بالتصويت إلا في مرحلة متقدمة من القرن العشرين. ويمكن القول بأن الممارسة الديمقراطية المعاصرة لا تزال تخدم فئة محدودة من السياسيين الذين يغلب عليهم الحذر الشديد من مغبة التوغل في مفهوم حكم الشعب المباشر.
ثانياً) التمثيل:
لقد كان من أبرز الانتقادات للفكر اليوناني أنه نظر إلى المجتمع نظرة بدائية لا تتناسب مع واقع الحياة الغربية وتعقيداتها في القرن التاسع عشر. وقد جادل المفكرون الغربيون بأن الحكم المباشر للشعب أمر يستحيل تحقيقه لأن مشاركة أعداد كبيرة من الجماهير في جميع الأمور سيخلق جوا من الفوضى السياسية التي تودي بالمجتمع إلى الهاوية. ولذلك فقد كان البديل هو استبدال حكم الشعب بحق اختيار الشعب لمن يحكمهم ويعتبر هذا التنازل هو المنعطف الرئيسي الذي عرقل مسيرة تحقيق الديمقراطية بأصولها. ولا تزال هناك فئة من المفكرين الغربيين تنادي بضرورة تطوير آليات الحكم المباشر للشعب بدلا من تطوير آليات وسبل تمثيل الشعب. ويمكن القول بأن الديمقراطية المعاصرة قد حجبت عن الشعب حق الحكم ومنحته حق اختيار الحاكم وشتان بين الأمرين.
وتكمن الإشكالية في مبدأ التمثيل بأن المجالس النيابية في صورتها الحالية لا تمثل التركيبة الاجتماعية للمنتخبين ولا تنطق عن أفكارهم.
لقد رأى كل من ميل وبينثام في أواخر القرن الثامن عشر أن الطبقة الوسطى تملك أوضح رؤية لتحقيق مصلحة الشعب إذا ما قورنت بالأغلبية من الفقراء أو الأقلية من الأرستقراطيين، ولذلك فإنه يجب أن يكون أساس الممارسة الديمقراطية قائما على النواب الذكور الذين ينتمون إلى هذه الطبقة وتتجاوز أعمارهم سن الأربعين [
[5]]. ويبدو أن الديمقراطية الغربية لم تحقق الكثير من التقدم في مجال التمثيل، فمن المثير للاستغراب هو أن مجلس العموم البريطاني في أواخر القرن العشرين لا يزال يمثل هذه الأقلية من المجتمع، في حين أن الأغلبية لا تجد من يمثلها، ففي إحصائية لأعضاء البرلمان البريطاني عام 1981 تبين بأن 86.6% من حزب المحافظين 85.4% من حزب العمال هم من البيض المنتمين للطبقة الوسطى الذين تتجاوز أعمارهم سن الأربعين [[6]].
بل إن الحقيقة التي فرضت نفسها في انتخابات بريطانيا عام 1983 هي أن أعضاء المجلس لم يعكسوا تركيبة المجتمع، مما يعني أنهم غير قادرين على تمثيل الشعب، بل كانت أكثرية المجلس تمثل فئة واحدة وهي: البيض، الذكور، المنتمين للطبقة الوسطى، كما كان الحال في أواخر القرن الثامن عشر. ويوضح الجدول التالي توزيع النساء والأقليات في بريطانيا خلال الانتخابات الثلاثة الماضية [
[7]]:

مجموع مقاعد مجلس العموم عدد الأقليات عدد النساء انتخابات عام
635 0 27 1974
635 0 19 1979
650 0 23 1983

فأين هي المساواة بين جميع أفراد المجتمع، وما قيمة الشعارات التي يتبناها الغرب ويفرضها على الآخرين في ضرورة تحقيق المساواة السياسية بين المرأة والرجل؟ وثمة مشكلة أخرى في مسألة التمثيل تتلخص في أن أغلب المفكرين الغربيين يجادلون بأن عضو المجلس هو في الحقيقة مفوض وليس ممثلاً لمنتخبيه، أي أن انتخابه يعكس ثقة الجماهير بكفاءته وقدرته على تمثيل مصالحهم في البرلمان، لا لأن يكون مجرد صدى لآرائهم وأفكارهم. بل إن الجهة الوحيدة التي يجب أن يمثلها عضو المجلس هي الحزب الذي ينتمي إليه وليس منتخبيه. و بهذه الصورة تكون قد انقرضت آخر معالم الديمقراطية التي بدأت بحكم الشعب، وتنازلت إلى اختيار الشعب من يمثله في الحكم، ثم تطورت بعد ذلك إلى اعتبار الشخص المنتخب ممثلاً للحزب "بتفويض من الجماهير".
ثالثاً) الحزبية:
يرى كل من جان جاك روسو وجيمس ميل أن دخول الأحزاب في المجالس النيابية مناقض للديمقراطية ومناف لأصولها. فالأحزاب في الفكر اليوناني تفرق الشعوب وتنشر فيهم أجواء الخلاف وتناقض مفهوم المجتمع الواحد. والأحزاب كذلك تمثل وسيطاً سلبياً بين الشعب وآلية الحكم، مما يجعلها عائقاً لمباشرة الجماهير أمور حياتهم، والتعبير عن أنفسهم.
فالجماهير في الديمقراطية البريطانية على سبيل المثال لا تختار أعضاء المجلس والحكومة التي تمثلهم، وإنما ينتخبون الحزب الذي يحكم رئيسه حسب ما يقتضيه برنامج الحزب وبحكم تصوره للمصلحة العامة دون وجود أي مرجعية للشعب. إن الأغلبية من المنتخبين لا يحصلون أثناء الحملة الانتخابية إلا على الوعود، ثم تسود فترة طويلة من احتكار الحزب لآلية اتخاذ القرار. وقد عبر عن هذه الظاهرة اللورد هيلشام عام 1976 بقوله: " إننا نشهد عصر الدكتاتورية المنتخبة "، في إشارة إلى هيمنة حزبين متناحرين على زمام السلطة في بريطانيا طوال قرن كامل من الزمان، فقبل الحرب العالمية الثانية كانت المنافسة بين المحافظين والأحرار، ثم تحولت إلى منافسة بين العمال والمحافظين بعد الحرب. وإذا أخذنا في الاعتبار بأن عدد المهتمين بالنشاط الحزبي في بريطانيا لا يتجاوز نسبة 5% فقط [
[8]]، فإن الأغلبية المستقلة لا تجد من يمثلها في هذا النظام.
رابعاً) الأكثرية:
يتزعم ميل تيار المفكرين الذين يرون بأن ارتباط الأغلبية بالممارسة الديمقراطية أمر شديد الخطورة. فالديمقراطية في حقيقتها تسعى إلى حكم الشعب وليس حكم الأكثرية.
وقد نشأ مبدأ الاحتكام إلى الأكثرية لتحديد أعضاء المجلس وسياسة المجتمع من وجود خلل في التطبيق الديمقراطي لمبدأ الثقة بقدرة الجماهير على حكم نفسها، وضرورة وجود من يمثل الشعب في الحكم بدلاً من مباشرة الأفراد لذلك. ولهذا السبب فقد ارتبطت الأغلبية بالديمقراطية ارتباطاً وثيقاً وصارت الشرعية تستمد من الأكثرية. وتكمن الخطورة في هذه الصورة الجديدة من الشرعية في النقاط التالية:
أ) إن الذي وقع بالفعل هو استبدال تسلط الأقلية (في الأنظمة القديمة) باستبداد الأكثرية في الممارسة الديمقراطية الحديثة. فقد مكنت آلية الاحتكام للأكثرية إلى استفادة فئة من المجتمع على حساب المجموعات الأضعف من الأقليات الدينية والعرقية والنساء وطبقة الفقراء. وقد تبين معنا في الصفحات السابقة كيف سيطرت الطبقة الوسطى من البيض على زمام الممارسة الديمقراطية خلال قرن من الزمان. ومع مرور الوقت تزداد قوة الفئة المتحكمة، وتحتكر المزيد من السلطات على حساب الفئات الأخرى التي لا تتمكن من مباشرة الحكم بنفسها ولا تجد من يمثلها في هذا النظام.
ب) يتساءل الكثير من المفكرين الغربيين: هل الأغلبية دائماً على حق؟
وهل يعني تأييد الغالبية لرأي معين بأنه رأي صحيح؟ أليس من الخطأ افتراض أن الأقلية دائماً على باطل؟
والحقيقة هي أن الأكثرية تصوت لتحقيق المصالح الخاصة وليس لتحقيق المصلحة العامة ورفاهية المجتمع. وكثير ما لاحظ مؤرخو الغرب أن الشعوب تؤيد من يحقق مصلحة غالبية أفرادها ولو كان ذلك على حساب الأقلية أو على حساب الحرية أو الديمقراطية نفسها. ولذلك فقد اعتبر تأييد أغلبية المجتمع الألماني لأدولف هتلر في أواخر الثلاثينيات إجماع على باطل لأنه كان ضد الأقلية من اليهود!
ج) إذا وافقنا جدلاً على شرعية الأغلبية، فهناك مشكلة أخرى تتمثل في أن أنظمة الانتخابات لا تفرز حكومات مدعومة بأغلبية الشعب. ففي بريطانيا على سبيل المثال لم يحصل أي حزب خلال الخمسين عاما الماضية على 50% من أصوات الناخبين بل تكون النتيجة عادة هي أن الحزب الحاكم يمثل أصوات أكبر أقلية في المجتمع. ويشير إلى هذه الظاهرة روبرت دال بقوله: " إن الأكثرية لا تحكم أبداً، فالنظام السياسي يعطينا الخيار بين حكم أقلية أو حكم مجموعة من الأقليات" [
[9]].
ثم تأتي بعد ذلك لعبة توزيع مراكز الاقتراع، بحيث تتفاوت قيمة الأصوات. وسبب ذلك هو الخلل في آلية التصويت، فمحور الديمقراطية هو المساواة السياسية بين أفراد المجتمع، ولكن الواقع هو أنه قد يفوق صوت شخص واحد عشرات الأصوات في مكان آخر، وتدل نتائج الانتخابات البريطانية عام 1983 على هذا التباين الخطير:
مجموع مقاعد مجلس العموم نسبة الأصوات عدد الناخبين الحزب
379 42.4% 13.012.315 المحافظون
209 27.6% 8.456.934 العمال
23 25.4% 7.780.949 الأحرار الاشتراكيون


فقد حصل العمال على 6ر27% من مجموع الأصوات وفازوا ب 209 مقعداً في مجلس العموم بينما حصل الأحرار/الاشتراكيون على 4ر25% من الأصوات وفازوا ب 23 مقعداً فقط، أي أن الفرق بين الحزبين هو 2.2% من الأصوات وفرق المقاعد هو 186 مقعداً! بينما حصل المحافظون على 42% من صوت الناخبين و61% من مقاعد مجلس العموم، فأين هي المساواة السياسية التي تنادي بها الديمقراطية؟
الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية:
لقد خاضت الرأسمالية الغربية حربين عالميتين ضد الفاشية والدكتاتورية، وحرباً ثالثة "باردة" مع الشيوعية، وفي هذه الأثناء تم استخدام الديمقراطية بديلاً إيديولوجيا، وأصبحت في قاموس المصطلحات السياسية رديفاً للحرية، وتحرير البشرية، واحترام حقوق الإنسان، وصيانة ملكية الفرد. ويمكن ملاحظة تطورين مهمين في المسار الديمقراطي في العالم:
1) اتجهت الحكومات الغربية نحو مزيد من المركزية في الحكم. وأبرز آثار هذه المركزية هو سيطرة الدولة على مقاليد أمور المجتمع بما في ذلك الاقتصاد، بينما تلعب أجهزة الاستخبارات دوراً رئيسياً في الداخل والخارج. ويشعر الأوروبيون بالخطر من تزايد سيطرة الدولة على جميع أمورهم، فالديمقراطية والرأسمالية على السواء تدعوان إلى محدودية دور السلطة في حياة الشعب، والواقع في أوروبا هو أن السلطة الحقيقية قد حجبت عن الجماهير لصالح الأحزاب التي تهيمن على آلية الحكم، ومع مرور الوقت فقدت المجالس البرلمانية نفوذها لصالح الحكومات التي قلما تمثل إرادة الشعب، أو حتى أغلبية الجماهير. وإذا اعتبرنا اللجان البرلمانية مقياساً لمدى مركزية النظام، فإن عهد رئيس الوزراء العمالي كليمينت آتلي (1945-1951) قد شهد تشكيل 466 لجنة لتحديد سياسات الدولة وصياغة القوانين، بالمقارنة مع 190 لجنة في عهد جيمس كالهان (1976-1979)، و150 لجنة فقط في الفترة (1979-1985) من عهد مارغريت تاتشر [[10]].
ويرى ريتشارد جاي بأن مستقبل الديمقراطية في الغرب لا يدعو إلى التفاؤل في ظل نمو البيروقراطية وتضخم أجهزة الحكم وتزايد اعتماد الجماهير على الدولة في تسيير شؤون حياتهم اليومية، وإذا استمر الحال على ما هو عليه فإن : " عوامل حكم الشعب نفسه معرضة للانقراض" [
[11]]. والحقيقة هي أن السلطات السياسية في الغرب كانت كلما وسعت دائرة الناخبين لتشمل النساء والشباب والأقليات كانت في المقابل تحدد من سلطة الشعب، ويعترف الكثير من أعضاء مجلس العموم اليوم بأنهم لا يملكون أي سيطرة على آلية اتخاذ القرار لأن زمامها أصبحت في يد قيادة الحزب بالتحالف مع الشركات العملاقة وأجهزة الاستخبارات السرية وإمبراطوريات الصحافة.
2) أما التطور الثاني: فهو تحول الديمقراطية إلى نظام يفرض على حكومات وشعوب "العالم الثالث"، وارتباط المساعدات الاقتصادية والعلاقات الدبلوماسية بتبني النظام الديمقراطي. بل واحتلال بعض الدول وفرض الوصاية عليها حتى تحقق المزيد من التطور الديمقراطي. والملاحظ في هذه الصورة المشوهة هو أن الديمقراطية لا تعني سوى الانتخابات الشكلية، دون الاكتراث بنظام الحكم إن كان ملكيا وراثياً أو دكتاتورياً عسكرياً أو حكم عصابة من تجار المخدرات، ودون الاهتمام برأي الجماهير في تلك الدول إذا كانت معادية للغرب لأنها شعوب: "جاهلة، غير واعية، وغير قادرة على تحمل المسؤولية" كما وصفها جيمس ميل. لقد هيمنت هذه الصورة المعاصرة من الديمقراطية وأصبحت الإيديولوجية التي يجب أن تسود العالم، والنظام الأوحد الذي تسير البشرية في ركابه. وهكذا تكتمل دورة تطور الفكر الديمقراطي للتمحور حول ثلاثة أصول:
أ) الوصاية على الشعوب غير الواعية.
ب) مركزية الحكم بسبب تعقد الحياة.
ج) فرض هذا النظام على جميع الشعوب لأنه يحقق الحياة الأمثل للبشرية.
وهذه بحد ذاتها هي محاور إيديولوجيات الفاشية، والدكتاتورية الوحدوية، والشيوعية على السواء. وقد عبر عن هذه المخاوف كثير من مفكري الغرب وفلاسفته في القرن العشرين. إن من المؤسف أن نقد الفكر الديمقراطي قد أخذ بعداً سياسياً، فأصبح كل من يتكلم في نقد الديمقراطية بالمقابل: متشدداً، معادياً لحريات الشعوب وحقوق الإنسان، بل انبرى بعض المفكرين "الإسلاميين" للدفاع عن الديمقراطية وتبرير شرعية الأكثرية والنظم البيروقراطية والتعددية الحزبية، مع أن هذه الأفكار دخيلة على الفكر الديمقراطي ومنافية لأصوله كما مر معنا.
لقد كانت مشكلة الديمقراطية أنها بنيت على أصول باطلة وفرضيات مثالية يستحيل تطبيقها، فاضطر فلاسفة القرن الثامن والتاسع عشر لتسييرها في مسار "واقعي" بعيد عن أصولها الافتراضية. وكما استغلت الأقلية من الطبقة الوسطى شرعية الجماهير في معركتهم ضد الأرستقراطية فإن الدكتاتوريين في "العالم الثالث" يستخدمون الديمقراطية نفسها كمصدر شرعية للتسلط على رقاب الشعوب وبنسب تزيد في العادة عن 99% من الأصوات.
لقد اختصر جان جاك روسو مجمل بحثه في ديمقراطية الغرب بقوله: " يظن الشعب الإنجليزي نفسه حراً، ولكنه مخطئ في ذلك خطأ فادحاً... إنه حر فقط عند انتخاب أعضاء البرلمان، وبعد ذلك تهيمن عليه العبودية من جديد" [
[12]].
ربيع الأول / 1422 هـ


[1] Capitalism, Socialism and Democarcy, (London 1952), p. 268.

[2] وهي مزيج من كلمتين ديموس (Demos) وتعني: الشعب، وكراتوس (Cratos) وتعني: السلطة، أي سلطة الشعب

[3] R. Jay. Democracy. in (Political Ideologies), (London 1985) P. 162

[4] R. J. White (ed) The Conservative Tradition, (London 1964) PP. 228-30.

[5] R. Jay, Democracy, in (Political Ideologies) (London 1985) P. 166.

[6] M.Ryle, (The Commons Today), (London 1981) PP. 45-50

[7] D. Stephenson, (British Goverment and Poltics) (London 1987), P. 103.

[8] Ibid, P.174

[9] Ibid, P 1730

[10] Ibid, P. 24

[11] R. Jay, Democracy, in (political Ideologies) (London 1985) P. 181

[12] The Social Contract, (London 1913) P78.