بسم الله الرحمن الرحيم
بعد قراءة ما يأتي:

الانسجام
عرفه ابن أبى الأصبع(ت 654هـ): "هو أن يأتي الكلام منحدرا كانحدار الماء المنسجم بسهولة سبك وعذوبة ألفاظ وسلامة تأليف، حتى يكون للكلام موقع في النفوس وتأثير في القلوب ما ليس لغيره وإن خلا من البديع وبعُد عن التصنيع، واكثر ما يكون الانسجام غير مقصود، كمثل الكلام المتزن الذي تأتي به الفصاحة في ضمن النثر عفوا كأشطار وأنصاف أبيات وقعت في أثناء الكتاب العزيز...وأما القرآن فلم يقع فيه من ذلك إلا ما هو على مثال البيت المفرد-أي الشطر الواحد- فقط والبيت الواحد لا يسمى شعرا سواء قصد أو لم يقصد..."(بديع القرآن لابن أبي الإصبع المصري، ص166.).
ويقول السيوطي(ت911هـ) في الإتقان عند الكلام على الانسجام: «قال أهل البديع: وإذا قوي الانسجام في النثر جاءت قراءته موزونة بلا قصد لقوة انسجامه، ومن ذلك ما وقع في القرآن موزونا:
فمنه من بحر الطويل:﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف:29]
ومن المديد: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [هود: 37]
ومن البسيط: ﴿فَأَصْبَحُو لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الأحقاف: 25]
ومن الوافر:﴿وَيُخْزِ هِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾[التوبة: 14]
ومن الكامل: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 213]
ومن الهزج: ﴿فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً﴾ [يوسف: 93]
ومن الرجز: ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً﴾[الإنسان: 14]
ومن الرمل: ﴿وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ [سبأ: 13]
ومن السريع: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾ [البقرة: 259]
ومن المنسرح: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ [الإنسان: 2]
ومن الخفيف: ﴿لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ [النساء: 78]
ومن المضارع: ﴿يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ﴾ [غافر: 32-33]
ومن المقتضب: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [البقرة: 10]
ومن المجتث: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الحجر: 49]
ومن المتقارب: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: 183] »(الإتقان في علوم القرآن، ج3 ص296 – 297. ).

بينما نجد في الحديث
عن أنيس الغفاري مرويا في صحيح مسلم:
حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الأَزْدِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ خَرَجْنَا مِنْ قَوْمِنَا غِفَارٍ وَكَانُوا يُحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ فَخَرَجْتُ أَنَا وَ أخِي أُنَيْسٌ وَأُمُّنَا فَنَزَلْنَا عَلَى خَالٍ لَنَا فَأَكْرَمَنَا خَالُنَا وَأَحْسَنَ إِلَيْنَا فَحَسَدَنَا قَوْمُهُ فَقَالُوا إِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ عَنْ أَهْلِكَ خَالَفَ إِلَيْهِمْ أُنَيْسٌ فَجَاءَ خَالُنَا فَنَثَا عَلَيْنَا الَّذِى قِيلَ لَهُ فَقُلْتُ لَهُ أَمَّا مَا مَضَى مِنْ مَعْرُوفِكَ فَقَدْ كَدَّرْتَهُ وَلاَ جِمَاعَ لَكَ فِيمَا بَعْدُ. فَقَرَّبْنَا صِرْمَتَنَا فَاحْتَمَلْنَا عَلَيْهَا وَتَغَطَّى خَالُنَا ثَوْبَهُ فَجَعَلَ يَبْكِى فَانْطَلَقْنَا حَتَّى نَزَلْنَا بِحَضْرَةِ مَكَّةَ فَنَافَرَ أُنَيْسٌ عَنْ صِرْمَتِنَا وَعَنْ مِثْلِهَا فَأَتَيَا الْكَاهِنَ فَخَيَّرَ أُنَيْسًا فَأَتَانَا أُنَيْسٌ بِصِرْمَتِنَا وَمِثْلِهَا مَعَهَا - قَالَ- وَقَدْ صَلَّيْتُ يَا ابْنَ أَخِي قَبْلَ أَنْ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ-r - بِثَلاَثِ سِنِينَ. قُلْتُ: لِمَنْ قَالَ: لِلَّهِ. قُلْتُ فَأَيْنَ تَوَجَّهُ قَالَ أَتَوَجَّهُ حَيْثُ يُوَجِّهُنِي رَبِّى أُصَلِّى عِشَاءً حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أُلْقِيتُ كَأَنِّى خِفَاءٌ حَتَّى تَعْلُوَنِي الشَّمْسُ. فَقَالَ أُنَيْسٌ إِنَّ لِي حَاجَةً بِمَكَّةَ فَاكْفِنِي. فَانْطَلَقَ أُنَيْسٌ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ فَرَاثَ عَلَىَّ ثُمَّ جَاءَ فَقُلْتُ مَا صَنَعْتَ قَالَ لَقِيتُ رَجُلاً بِمَكَّةَ عَلَى دِينِكَ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ.
قُلْتُ فَمَا يَقُولُ النَّاسُ قَالَ يَقُولُونَ شَاعِرٌ كَاهِنٌ سَاحِرٌ. وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ. قَالَ أُنَيْسٌ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِى أَنَّهُ شِعْرٌ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ» (صحيح مسلم، ج4 ص 1919، برقم2473.).
نثا: أشاع وأفشى، نافر: تفاخر فى الشعر ثم تحاكم ومن معه إلى غيرهما، الصرمة: القطعة الواحدة من الإبل، الخفاء: الكساء وكل ما غطيت به شيئا، راث: أبطأ، أقراء الشّعْر: قوافيه وطرقه وبحوره.


كما نجد قولا لابن العربي في أحكام القرآن( أحكام القرآن، القاضي أبو بكر بن العربي، ج4 ص22، 28.): (...المسألة الثالثة قوله: ﴿وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾[يس:69] تحقيق في نفي ذلك عنه.
وقد اعترض جماعة من فصحاء الملحدة علينا في نظم القرآن والسنة بأشياء أرادوا بها التلبيس على الضعفة، منها قوله ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[المائدة:117] وقالوا: إن هذا من بحر المتقارب، على ميزان قوله:
فَأَمَّا تَمِيمٌ تَمِيمُ بْنُ مُرٍّ فَأَلْفَاهُمْ الْقَوْمُ رُءُوسًا نِيَامًا
وهذا إنما اعترض به الجاهلون بالصناعة؛ لأن الذي يلائم هذا البيت من الآية.
قوله: (فلما) إلى قوله (كل) وإذا وقفنا عليه لم يتم الكلام. وإذا أتممناه بقوله: ﴿شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[المائدة: 117] خرج عن وزن الشعر، وزاد فيه ما يصير به عشرة أجزاء كلها على وزن فعولن، وليس في بحور الشعر ما يخرج البيت منه من عشرة أجزاء، وإنما أكثره ثمانية.
ومنها قوله: ﴿وَيُخْزِهِم وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة:14] ادعوا أنه من بحر الوافر، وقطعوه: مفاعيل مفاعيل فعولن مفاعيل مفاعيل فعولن؛ وهو على وزن قول الأول:
لَنَا غَنَمٌ نَسُوقُهَا غِزَارٌ كَأَنَّ قُرُونَ جَلَّتِهَا الْعِصِيُّ
وعلى وزن قول الآخر:
طَوَالُ قَنَا يُطَاعِنُهَا قِصَارُ وَقَطْرُك فِي نَدًى وَوَغًى بِحَارُ
وهذا فاسد من أوجه: أحدها أنه إنما كانت تكون على هذا التقدير لو زدت فيها ألفا بتمكين حركة النون من قوله مؤمنين فتقول مؤمنينا.
الثاني: أنها إنما تكون على الروي بإشباع حركة الميم في قوله:﴿وَيُخْزِهِ مْ﴾[التوبة: 14] وإذا دخل عليه التغيير لم يكن قرآنا، وإذا قرئ على وجهه لم يكن شعرا.
ومنها قوله:﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ﴾ [الشعراء: 35]؛ زعموا أنه موافق بحر الرجز في الوزن، وهذا غير لازم؛ لأنه ليس بكلام تام، فإن ضممت إليه ما يتم به الكلام خرج عن وزن الشعر.

ومنها قوله: ﴿وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ [سبأ: 13]؛ زعموا أنه من بحر الرجز، كقول الشاعر امرئ القيس:
رَهِينٌ مُعْجَبٌ بِالْقَيْنَاتِ
وهذا لا يلزم من وجهين:
أحدهما إنما يجري على هذا الروي إذا زدت ياء بعد الباء في قولك: كالجوابي، فإذا حذفت الياء فليس بكلام تام، فيتعلق به أنه ليس على وزن شيء.
ومنها قوله:﴿قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ ﴾[سبأ: 30]؛فقالوا: هذه آية تامة، وهي على وزن بيت من الرمل؛ وهذه مغالطة؛ لأنه إنما يكون كذلك بأن تحذف من قولك لا تستأخرون قوله: " لا تس " وتوصل قولك يوم بقولك تأخرون، وتقف مع ذلك على النون من قولك تأخرون، فتقول تأخرونا بالألف، ويكون حينئذ مصراعا
ثانيا، ويتم المصراعان بيتا من الرمل حينئذ، ولو قرئ كذلك لم يكن قرآنا، ومتى قرئت الآية على ما جاءت لم تكن على وزن الشعر.
ومنها قوله:﴿وَدَانِيَة ً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا﴾[الإنسان: 14].وهذا موضوع على وزن الكامل من وجه، وعلى روي الرجز من وزن آخر؛ وهذا فاسد؛ لأن من قرأ عليهم بإسكان الميم يكون على وزن فعول، وليس في بحر الكامل ولا في بحر الرجز فعولن بحال، ومن أشبع حركة الميم فلا يكون بيتا إلا بإسقاط الواو من دانية، وإذا حذفت الواو بطل نظم القرآن.
ومنها قوله:﴿وَوَضَعْنَ ا عَنْكَ وِزْرَكَ - الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾[الشرح: 2 - 3]﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾[الشرح: 4]زعموا أرغمهم الله أنها من بحر الرمل، وأنها ثلاثة أبيات كل بيت منها على مصراع، وهو من مجزوء على فاعلات فاعلات، ويقوم فيها فعلات مقامه، فيقال لهم: ما جاء في ديوان العرب بيت من الرمل على جزأين، وإنما جاء على ستة أجزاء تامة كلها فاعلات أو فعلات، أو على أربعة أجزاء كلها فاعلات أو فعلات؛ فأما على جزأين كلاهما فاعلات فاعلات فلم يرد قط فيها؛ وكلامهم هذا يقتضي أن تكون كل واحدة من هذه الآيات على وزن بعض بيت، وهذا مما لا ننكره وإنما ننكر أن تكون آية تامة، أو كلام تام من القرآن على وزن بيت تام من الشعر.
فإن قيل: أليس يكون المجزوء والمربع من الرمل تارة مصرعا وتارة غير مصرع، فما أنكرتم أن تكون هذه الآيات الثلاث من المجزوء والمربع المصرع من الرمل.
قلنا: إن البيت من القصيدة إنما يكون مصرعا إذا كان فيه أبيات أو بيت غير مصرع، فأما إذا كانت أنصاف أبياته كلها على سجع واحد وكل نصف منها بيت برأسه فقد بينا أنه ليس في الرمل ما يكون على جزأين، وكل واحد من هذه الآيات جزآن، فلم يرد على شرط الرمل.
ومنها قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾ [الماعون:1]﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾[الماعون:2] وهذا باطل؛ لأن الآية لا تقع في أقوال الشعراء إلا بحذف اللام من قوله:﴿فَذَلِكَ﴾[الماعون:2] وبتمكين حركة الميم من اليتيم، فيكون اليتيما.
ومنها قوله تعالى: ﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾[النمل:23]. فقوله: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا﴾[النمل:23] بيت تام، فقد بينا فساد هذا، وأن بعض آية وجزءا من كلام لا يكون شعرا.
فإن قيل: يقع بعد ذلك قوله:﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ [النمل: 23] إتماما للكلام على معنى النظمين، وقد جاء ذلك في أشعارهم قال النابغة:
وَهُمْ وَرَدُوا الْجِفَارَ عَلَى تَمِيمٍ وَهُمْ أَصْحَابُ يَوْمِ عُكَاظٍ إنِّي

شَهِدْت لَهُمْ مَوَاطِنَ صَالِحَاتٍ أَنَرْتُهُمُ بِنُصْحِ الْقَوْلِ مِنِّي
قلنا: التضمين على عيبه إنما يكون في بيت على تأسيس بيت قبله، فأما أن يكون التأسيس بيتا والتضمين أقل من بيت فليس ذلك بشعر عند أحد من العرب، ولا ينكر أحد أن يكون بعض آية على مثال قول الشعر، كقوله تعالى:﴿إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: 38] فهذا على نصف بيت من الرجز.
وكذلك قوله تعالى: ﴿وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى﴾[النجم: 34] على نصف بيت من المتقارب المستمر، وهذا كثير).