لا تغضب


بقلم : حمزة البكري




لا تغضب ... جملة لا تتعدَّى الكلمتين، ولا تزيد عن ستة أحرف، إلا أنها تجمع الخير كله.
عبارةٌ من السهل على كل واحد منا أن ينطقها ويتكلم بها، وربما أن ينصح بها بعض أصدقائه وأقاربه وأحبابه ... لكن من الصعب جداً ـ علينا في هذه الأيام ـ أن نطبقها ونلتزم بها ... ربما لأن الغضب أمرٌ فطريٌّ في النفس البشرية، ومَنْعُ النفس من تفريغ ما فيها من القوى أمرٌ شِبهُ مستحيل.
لكنْ مَن قال إن المراد بقولنا: «لا تغضب»: أن لا تنفعل أبداً في ظرف تعيشُه يدعوك إلى الغضب ... كلا ... بل معنى «لا تغضب»: أن لا يقودك الغضب إلى أن تعمل عملاً تندم عليه في الرضا، فكم ندم الناس على أمور فعلوها في الغضب ... وكم تحسَّر الناس على أقوال تكلموا بها في الغضب ... وكم من أخ هجر أخاه لغضبة غضبها ... وكم من زوج فارق زوجَه لخلاف بينهمـا منشؤه الغضب ... وكم من وَلَد فاته رضا والديه لخروجه عن أمرهما يوماً كان فيه غاضباً ... وكم من والد قصَّر في حقوق وَلَده لغضبة غضبها منه ... وقِس على ذلك.
الغضبُ ـ كما هو معلوم ـ قوةٌ خلقها الله تعالى في أنفسنا، ولذلك فليس المراد كَبْتُ هذه القوة وتجميدُها، وإنما المراد تنظيمها وضبط ما يترتب عليها، وهذا هو ما أراده النبيُّ صلى الله عليه وسلم عندما سأل أصحابه: «ما تَعُدُّون الصُّـرَعَةَ فيكم؟» (والصُّـرَعَةُ: الرجلُ القويُّ الذي لا يُغلَب)، قالوا: الذي لا يَصرَعُه الرجال، قال: «ليس بذاك، ولكنه الذي يملكُ نفسَه عند الغضب» (رواه مسلم برقم 2608)، فتأمَّل قولَه: «الذي يملكُ نفسَه عند الغضب»، يعني أن الغضب موجود، لكن هذا الرجل العاقل الشجاع القوي يسيطرُ على غضبه، فيملك نفسه، فلا يقول في غضبه قولاً، ولا يفعل في غضبه فعلاً، يندم عليه في رضاه.
وهذا المعنى قد أدركه الخليفةُ العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عندما كتب إلى أحد عُمَّـاله (أي: موظَّفيه)، كتب إليه: أن لا تعاقب عند غضبك، فإذا غضبتَ على رجل فاحبِسْه، فإذا سكن غضبُك فأخرِجْه وعاقِبْه على قدر ذنبه.
وإن كان لا بدَّ من تقريب حقيقة الغضب، فإنه أشبه ما يكون بأيام فيها بردٌ شديد، تكثر فيها الفيروسات والأمراض (كالزكام والإنفلونزا وغيرهما)، فإذا ما مرَّ أحدنا بتلك الأيام وكان قوياً صحيحَ الجسم سليمَ البدن قد احتاط لنفسه فلبس من الثياب ما يُناسبُ ذلك، فلا بدَّ أن يتجاوز تلك الأيام بسلام، أما إذا أهمل نفسَه وقصَّر في ذلك فلا بدَّ أن تسيطر عليه أمراضُ الشتاء وتكونَ أقوى منه ... وكذا الغضب، فالغضبُ ظرفٌ يستغلُّه الشيطان أحسنَ استغلال، ويستثمره أوفر استثمار، فيبدأ عند الغضب بإلقاء وساوسه ونَفْث سمومه، فتراه يُذكِّرُ الغاضب بأخطاء هذا الذي أغضبه واحداً تلوَ الآخر، ويُنسيه جميعَ ما هو عليه من خير ومعروف وإحسان، ثم يبدأ يُلقي في نفس الغاضب تحليلات لِـمَا هو فيه، فيتخيل أن هذا الذي أغضبه يريد من وراء فعله كذا، وإنما قال ما قال لأنه ينوي كذا وكذا، مما لم يخطر ببال ذلك المسكين أصلاً، فحالُه كحال مَن يسكب الوقود على النار.
والإنسان عندها إما أن يَضعُفَ له أو يقوى عليه ... فإن ضَعُفَ له غضب أشدَّ الغضب، وتكلَّم في غضبه بما لا ينبغي، وفعل فيه ما لا يليق، حتى إذا انتهى غضبه وسكن ندم على كثير مما حصل.
أما إن قوي عليه، فإنه يغضب، لكنه يبقى متَّزناً في أقواله، مستقيماً في أفعاله، لا يظهر الغضب إلا بمظهر تعبيرات خارجية ـ على الوجه غالباً ـ تدل على كراهيته لِمَا هو فيه الآن، وعدم رضاه به.
وقد أرشدنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ضبط الغضب بعدَّة أمور، أهمها: أن يتعوَّذَ الغاضب من الشيطان الرجيم، وأن يُغيِّـرَ هيئته التي هو عليها، وأن يسكت فلا يتكلم، ثم أن يتوضأ.
أما التعوُّذ بالله من الشيطان الرجيم فوقايةٌ وحَصانةٌ من وساوسه وسمومه التي يُلقيها في نفس الغاضب عند الغضب، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلان يستبَّان، فاحمرَّ وجه أحدهما من شدَّة الغضب، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ذهب عنه ما يجد» (رواه البخاري برقم 3282، ومسلم برقم 2610).
وأما تغيير الهيئة، فإن غضب وهو قائم جلس، وإن غضب وهو جالس اضطجع، وذلك لأن القائم متهيِّئٌ للانتقام أكثر من الجالس، والجالس أكثر من المضطجع، ففي إرشاد الغاضب إلى ذلك إبعادٌ له عن الانتقام الذي قد يقوم به في غضبه، ويندم عليه بعد ذلك.
وأما السكوت عند الغضب ففيه ـ زيادة على ما سبق ـ أنه أبلغ جواب تُجيبُ به من أغضبك، فكثير من الناس يشعر وهو يخاصم غيره إذا رأى منه غضباً وتهوُّراً أنه نال منه ما يريد، بخلاف ما إذا رآه متزناً مستقيماً وهو يثيرُه اغتاظ لذلك ولم يدرِ ما يفعل، وقد ذكروا أن رجلاً تكلَّم مع عمر بن عبد العزيز، فاشتدَّ في الكلام، وأغلظ له في القول، فسكت عمر قليلاً، ثم قال: «أردتَ أن يستفزَّني الشيطان بعزِّ السلطان، فأنال منك اليوم ما تنالُه مني غداً (يعني: يوم الحساب والجزاء عند الله).
وأما الوضوء فلأن الغضب حرارةٌ تُطفأ ببرودة الماء.
ولهذا كان العبد المنضبط في الغضب أهلاً لثناء الله سبحانه وتعالى عليه، وذلك في قوله تعالى مادحاً عباده الصالحين: (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) [الشورى: 37]، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك كلمةَ الحقِّ في الرضا والغضب» (رواه النسائي برقم 1305). وجاءه صلى الله عليه وسلم رجل فقال: أوصِني، فقال: «لا تغضب»، فردَّد عليه مراراً، وهو يقول: «لا تغضب» (رواه البخاري برقم 6116). وقيل لعبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: اجمعلنا حُسْنَ الخُلُق كله في كلمة، فقال: «تَرْكُ الغضب».