(4)
الردُّ على قولهم : إنَّ اللغة بدأت بالوضع والاصطلاح
لعل أبا هاشم الجبائي كان هو أوَّل من تكلم في ذلك من المسلمين , فأخذ أبو عبد الله البصريُّ المعتزلي لفظ الوضع من كلام شيخه أبي هاشم في بدء اللغة , فأدخله في حدِّه للحقيقة والمجاز , ثم زاد فيه أبو الحسين البصري المعتزلي لفظ الاصطلاح ؛ وقولهم : إن اللغة بدأت بالوضع والاصطلاح ينسب إلى الفيلسوف اليوناني ديموقراطيس ( 1) , وهو من فلاسفة القرن الخامس قبل الميلاد , وهو من الفلاسفة الذريِّين , وهم أول من تكلم في الذرة وزعموا أن الكون كله مادة , وتلك المادة تتكون من ذرات , والذرات لا أول لها , فيهم من الدهريين الذين يقولون إن العالم لا أوَّل له , ولا يؤمنون بالغيب , وأكثر ما بقي من تراث ديموقراطيس هو ما نقله أرسطو في كتبه , وقسم تراسيليوس كتب ديموقراطيس إلى روابيع , وجعلها ثلاث عشر رابوعة , فيها اثنان وخمسون رسالة , وقيل : ستون رسالة , ومنها رابوعتان في اللغة والموسيقى والفن ( 2) , ولا يبعد أن أولئك المعتزلة كانوا وجدوا كلامه في بدء اللغة في بعض كتب أرسطو وشروحها , وكان بأيديهم كثير من تلك الكتب والشروح , وكان منهم من ينقل عن اليونانية بنفسه إلى آخر المائة الرابعة وبعدها , ولا يكتفون بما نقله حنين بن إسحاق وابنه إسحاق بن حنين , ولا ما نقله المترجمون قبلهما وبعدهما , وكان النظام وغيره قد نقلوا كثيراً من كلام ديموقراطيس وأصحابه في الذرة , وسمَّوها الجزء الذي لا يتجزأ , والجوهر الفرد , فكلام المعتزلة في الجزء الذي لا يتجزأ وكلامهم في بدء اللغة , وكلاهما نقلاً عن أولئك الفلاسفة الدهريين ديموقراطيس وأصحابه , ولم يك كلامهم بعيداً عن أولئك المعتزلة , ولعله لذلك قرن عبد القاهر الجرجاني بينهما , ولما أطال الكلام في المجازات والاستعارات , اعتذر بقوله : إن الكلام في الجزء الذي لا يتجزأ يملأ أجلاداً كثيرة.
وتكلم ديمواقرطيس في التاريخ , والأخلاق والسياسة واللغة وقال : إنها كلها ترجع إلى المادة والذرات , وكلام ماركس ولينين في التاريخ والسياسة مثل كلامه فيها , وقال ماركس : إنه أول عقل موسوعي بين مجموعة الفلاسفة اليونان , وقا ل لينين : إنه أعمق وأذكى رجل أوضح الفكر المادي في العصر القديم , وهو موجد الذرية وصاحبها . اهـ
وأعجب أصحاب دارون بقول ديموقرطيس في بدء اللغة , وذلك أنه يضاهي قولهم في التطور والنشوء والارتقاء , وكلامهم في بدء اللغة هو نفس كلام ديموقراطيس , أو هو بيان وتفصيل له , واتبعهم جورجي زيدان في كتابه : ((الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية)) وغيره ممن اغترَّ بهم .
وأولئك الفلاسفة يزعمون أن الإنسان كان لا يتكلم , ولم تكن له لغة , وكان يعيش كما يعيش الحيوان , ثم إنه حكى الأصوات التي يسمعها من الريح والماء والرعد وغيرها , فنشأت له بذلك ضعيفة , ثم تطورت تلك اللغة شيئاً فشيئاً , وكثر الناس وصاروا يعيشون بعد التفرق في جماعات , فتواضعت كل جماعة منهم على لغة يتكلمون بها , وساعدتهم اللغة الأولى , والأصوات التي كانوا ينطقون بها على ذلك التواضع والاصطلاح , وأنهم وضعوا الألفاظ أولاً للصور المحسوسة , وأنهم وضعوا تلك الألفاظ للصور عشواء من غير أن يدل اللفظ على خاصة أو صفة في تلك الصورة , ثم صارت تلك الصور المحسوسة رمزاً لما لها من الخصائص والصفات المعقولة , ونقلت تلك الألفاظ من الصور المحسوسة إلى الصفات المعقولة في تلك الصور وغيرها , وشبَّه الإنسان المعقولات بالمحسوسات فالإنسان عند أولئك الفلاسفة وضع الألفاظ أولا للمحسوسات , ثم نقلها إلى المعقولات , وشبه المعقولات بالمحسوسات .
وأولئك الفلاسفة اليونانيون كانوا وثنيين , والوثنية أينما كانت تعبد الصُّور وهم كانوا يجعلون لكل شيء إلها , للحرب إليه , وللحب إله , وللمطر إله , وللريح إله , وغيرها , ويجعلون لكل إله صورة , فتكون ذلك الإله رمزاً لما ينفعهم به بزعمهم , فكذلك زعموا أن الألفاظ وضعت للصور , ثم صارت الصورة رمزاً للصفات المعقولة , ونقلت الألفاظ من الصور إلى الصفات وذلك القول هو شعبة من وثنيتهم , وعبادتهم للصور وسفاهة أحلامهم , وكفرهم بالغيب .
وقول أولئك الفلاسفة في بدء اللغة هو بعض قولهم في بدء الخلق , وهو باطلٌ كله وضلالٌ مبين , والقرآن يكذبه , والله تعالى خلق آدم بيده , وأسجد له ملائكته , وعلمه البيان , وعلمه الأسماء كلها وأمره ونهاه , وأسكنه جنته , وأهبطه منها , وأنزل إليه كلمات , وتاب عليه , وكان آدم أتم وأعظم خلقاً من بنيه , ولا زال الخلق بعده ينقص والأحاديث في ذلك بينة , ولا ريب أن لسان آدم كان لساناً تاماً بيناً , وأن آدم عليه السلام ذكر به الله تعالى , وذكر به ملائكته ,وجميع خلقه , وتكلم به عن الغيب والشهادة , وما يبصره بعينه , ويسمعه بأذنه , ويمسه بيده , ويعقله بقلبه , وتوسوس به نفسه , ونبّا بالأسماء كلها , وتكلم به بنوه من بعده حتى تفرقوا , فاختلفت ألسنتهم ونقصت .
فقولهم : إن الإنسان كان لا يتكلم ثم حكى ما يسمع من أصوات الرعد , والريح وغيرها , ثم اجتمعت كل أمة فتواضعت على لغة , ووضعوا الألفاظ أولاً للمحسوسات , ثم نقلوها بعد للمعقولات , كل ذلك باطل , لا برهان له.
وذلك القول الدهري الوثني يقيد البيان بالحسِّ , ويجعل القلب عبداً أسيراً للصور المحسوسة , لا يعقل شيئاً إلا أن يشبهه بتلك الصور , ويجعل الإنسان عاجزاً أن يتكلم عن شيء من الغيب إلا أن يشبهه بشيء من الشهادة , وأن يذكر الله إلا أن يشبهه بخلقه والبيان الذي علمه الله الإنسان أعظم وأعم من ذلك , والإنسان به يذكر الله وخلقه , ويتكلم عن الغيب والشهادة , ولا يشبه الله بخلقه ولا الغيب بالشهادة .
وأنكر قول أولئك الفلاسفة في بدء اللغة كثير من المتقدمين والمتأخرين والعرب والعجم ( 3) .
وأبو هاشم الجبائي وأصحابه أخذوا كلام أولئك الفلاسفة في بدء اللغة وتركوا كلامهم في بدء الخلق وحسبوا أنهم بذلك لم يخالفوا القرآن , وزعم ابن جنِّي أن قول الله تعالى : ((وعلم آدم الأسماء كلها )) لا يتناول موضع الخلاف , وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله : أقدر آدم على أن يواضع عليها . قال : وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة , فإذا كان ذلك محتملاً غير مستنكر سقط الاستدلال به ( 4) اهـ ؛ وذلك التأويل الذي زعمه ابن جنِّي لم يقل به أحد قبله , وآدم عليه السلام حين خلقه الله تعالى لم يكن معه بشر غيره , فمن الذي واضعه آدم على اللغة , والله تعالى كلم آدم , وكلم آدم ربه , وكلم الملائكة , وكلم زوجه , وكلمته زوجه , ووسوس الشيطان لهما وكلمهما ,والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة , وكلها حجة بينة على أن الله تعالى علم آدم الكلام والبيان، والقول الذي نقله ابن جني في أن اللغة بدأت بحكاية الأصوات المسموعة من الرعد والريح وغيرها , وقال : إنه عنده وجهٌ صالحٌ ومذهبٌ متقبَّل أهـ هو طور من الأطوار التي ذكرها القائلون بالوضع والاصطلاح , قالوا : إنه كان قبل الوضع والاصطلاح وليس هو قولاً وحده كما حسب ابن جنِّي .
وزعم أبو عبد الله البصريُّ وأصحابه أن الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في أصل اللغة , فصارت الحقيقة عندهم هي اللفظ المستعمل ليدل على شيء محسوس , والمجاز هو تشبيه المعقول بالمحسوس , ونقل اللفظ من المحسوس إلى المعقول , وزعموا أن لفظ أسد وضع للسبع أولاً , وضع لصورة ذلك السبع , وضع لها عشواء من غير أن يدل على شيء لا شجاعة , ولا غيرها , ثم صارت تلك الصورة المحسوسة رمزاً للجرأة والشجاعة , فسمِّي الرجل الشجاع أسداً , وشبه الرجل بالسبع ونقل ذلك اللفظ من تلك الصورة المحسوسة إلى الشجاعة المعقولة , ولعله ذلك قال السكَّاكي : إن لفظ أسد وضع للهيكل المخصوص , ولم يقل للحيوان , ولا السبع , ولا غيرها من الألفاظ التي ذكرها من قبله , ولا ريب أنه اختار ذلك اللفظ الهيكل المخصوص قصداً وعمداً , وأراد أن يؤكد به قول أولئك الفلاسفة , إن اللفظ وضع أولاً للصورة وحدها من غير شيء فيها , وضع لها عشواء , ذلك الصوت لتلك الصورة , وكان الجرجاني قبله زعم أن لفظ أسد وضع للشجاعة في تلك الجثة والصورة خاصة دون غيرها , وكلام السكَّاكي أشبه بمذهب أولئك الفلاسفة من كلام الجرجاني , وهو يدل على أن السكَّاكي كان أدرى بذلك المذهب الدهري الحسي في اللغة من الجرجاني وغيره , وكان لسان السكاكي وألفاظه أقرب إلى كلام أولئك الفلاسفة الدهريين وألفاظهم , ولعله لذلك فرَّق أولئك المعتزلة بين الاسم والصفة , وزعم أبو علي الفارسي وغيره منهم أن الاسم يكون واحداً وغيره صفات عند أولئك المعتزلة ( 5) , والأسد له اسم واحد عند العجم وليس عند العرب ( 6) ؛ وأراد أولئك المعتزلة أن يجعلوا الاسم للصورة وحدها دون ما فيها من الصفات , ولعلهم لذلك زعموا أن لفظ أسد نقل من السبع إلى الرجل الشجاع , ولم يزعموا أن لفظ الشجاع ليس اسماً لتلك الصورة , وأن اسمها هو الحية , وهذه الصورة صورة الحية ليست هي عندهم رمز الشجاعة وصورتها ولكن صورة الشجاعة عندهم هي الأسد .
وكذلك زعم أولئك المعتزلة أن لفظ اللسان وضع أولاً لذلك اللحم الذي يتكلم به الإنسان خاصة , ثم نقل إلى الكلام الذي يلفظ الإنسان به , ولفظ جناح وضع في أصل اللغة لجناح الطائر خاصة , ثم شبِّه به جناح الرجل , وجناح الملك , وجناح الجيش , وغيرها , ولفظ رأس وضع لرأس الإنسان خاصة , ثم قيل : رأس الأمر ورأس القوم , ورأس المال , ورأس الجبل , وغيرها , ولفظ اليد وضع لتلك الجارحة من الإنسان خاصة , وغيره مشبَّه به ,وغير ذلك من زعمهم , وجعلوا يدعون في كل معقول أنه مشبه بمحسوس , وأن اللفظ وضع للمحسوس حقيقة , ثم نقل إلى المعقول مجازاً , وزعم ابن جنّي وغيره أنه لابد في كل مجاز من التوكيد والتشبيه , والتوكيد عنده هو تشبيه المعقول بالمحسوس والعرض بالجوهر.
ولما زعم أولئك المعتزلة أن تلك الألفاظ وما يشبهها وضعت كلها في أصل اللغة لتلك الصورة المحسوسة , قالوا : إنها لا تليق بالله تعالى , وإنها تشبيه لله عز وجل بتلك الصور المحسوسة فأخذوا يخبطون ويتهوكون في تأويلها بتلك المجازات والاستعارات , وزعموا أنهم بذلك يوحدون الله تعالى , وينزهونه عن مشابهة خلقه , واتبعوا أولئك الفلاسفة , وأعجبهم ذلك القول الدهري الوثني في بدء اللغة , وحسبوه حجة يجادلون بها عن بدعتهم , وتلك المجازات والاستعارات التي يذكرونها كلها تشبيهات , واللغة كلها عند أولئك الفلاسفة الذين اتبعوهم هي تشبيه للمعقول بالمحسوس والغائب بالشاهد , وسلفهم من المعتزلة والجهمية الذين أحدثوا تلك البدعة ونفوا تلك الألفاظ عن الله تعالى , كانوا مثل أولئك الفلاسفة عجماً , قلوبهم أسيرة للصور , وألسنتهم مقيدة بالتشبيه , فلذلك أحدثوا تلك البدعة وأهلكتهم العجمة .
واتبعهم عبد القاهر الجرجاني وغيره , وحسب أن تلك التشبيهات والتمثيلات والمجازات والاستعارات هي أسرار البلاغة , ودلائل الإعجاز , وتشبيه المعقول بالمحسوس على طريقتهم هذه هو عجزٌ وعيٌّ وليس بلاغة وإعجازاً , وأي بلاغة أو إعجاز في ذلك التشبيه الحسي ؟ ولو كانت أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز في شيء من تلك المجازات والاستعارات , والتشبيهات والتمثيلات , لكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نزل القرآن بلسانهم فعلموا إعجازه وآمنوا به , أسبق الناس إلى بيان تلك المجازات والاستعارات , وذكرها لمن بعدهم ؛ لئلا يخفى عليهم إعجاز القرآن .
وذلك القول الدهري الوثني في بدء اللغة كله باطلاً , لا حجة له , ولعل بعض اللغويين قبل أبي هاشم وأصحابه كانوا يقولون به , ويبدءون اشتقاق الألفاظ من شيء محسوس , فيزعمون أن ذلك اللفظ كان لكذا وكذا من المحسوسات , ثم ينتقلون منه إلى غيره , ولكن أبا هاشم وأصحابه كانوا هم أول من صرح بذلك القول وأظهره , ونقلوه عن الفلاسفة , واحتجُّوا به لبدعتهم .
وقولهم : المحسوسات والمعقولات , والحسي والمعنوي , كلها من ألفاظ المتكلمين , وليست من كلام العرب , وكلها تقسيمات باطلة , وتلك الألفاظ والتقسيمات كانت أضر شيء على دين الناس وقلوبهم , وكانت أفسد شيء لفطرتهم وبيانهم .
==========================(ا حواشي)
1-ترجمته في ((طبقات الأطباء الحكماء)) لابن جلجل ص 33 , رقم (11) , و((الملل والنحل)) (2/112, 114 , رقم (11) , و((فلاسفة يونانيون من طاليس إلى سقراط)) ص 93-101 , و(( تاريخ الفلسفة اليونانية)) وولتر ستيس , ترجمة /مجاهد عبد المنعم ص 65- 69الذريون , و((خريف الفكر اليوناني)) د. عبد الرحمن بدوي , ص 170 , و((موسوعة الفلسفة)) له 1/507- 509 الذريون , وعربه بعضهم ديموكريت
2-((فلاسفة يونانيون من طاليس إلى سقراط)) ص 94
3-ومنهم فرنسوا لامي (1636- 1711) , ودوبونال (1754-1840) , وغيرهما , وانظر : ((اللغة)) ج . فندريس , ص 29-42 , ترجمة الدواخلي والقصاص , و((الفلسفة اللغوية)) جورجي زيدان , ص 127-129 , و132- 134 و((علم اللغة)) د. علي وافي , ص88 وما بعدها , و((المدخل إلى علم اللغة)) د. رمضان عبد التواب , ص111 , و((في علم اللغة العام)) د. عبد الصبور شاهين ص 71 , وغيرها .
4-الخصائص : (1/41)
5-الصاحبي : (ص114) , المزهر : (1/404-405)
6-الصاحبي : (ص21)