كثرةُ الكلامِ مِن أسبابِ قسوةِ القلب
قال عطاء بن أبي رباح : "إن من قبلكم كانوا يعدّون فضول الكلام ما عدا كتاب الله أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو أن تنطق في معيشتك التي لا بد لك منها ، أتذكرون أن عليكم حافظين كراما كاتبين ، عن اليمين وعن الشمال قعيد ، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ، أما يستحي أحدكم لو نشرت صحيفتُهُ التي أملى صدر نهاره وليس فيها شيء من أمر آخرته".
إن من القلوب القاسية من لا يصلح معه إلا مثل هذه اللهجة القاسية، وإن كثرة الكلام بالباطل لا تُعالَج إلا بقوة كلام الحق، لكن عبد الله بن المبارك كان أخف لهجة حين خاطب من كان قلبه بين القساوة والحياة قائلا:
وإذا ما هممت بالنطق في الباطل فاجعل مكانه تسبيحا
فاغتنام السكوت أفضل من خوض وإن كنت في الحديث فصيحا
إن كثرة الكلام هي علامة واضحة على قسوة القلب، لكن كثرة الكلام كذلك من أسهل الطرق الموصلة إليه، لذا قال بشر بن الحارث: "خصلتان تقسيان القلب: كثرة الكلام وكثرة الأكل"، وأخطر من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:
«وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة أسوؤكم أخلاقا الثرثارون المتفيهقون المتشدِّقون».
و«الثرثارون» أي الذين يُكثرون الكلام تكلفا وتشدقا، و«المتفيهقون»هم مدَّعو الفقه الذين يتوسعون في الكلام ويفتحون به أفواههم تفاصحا وتفاخرا؛ وهو مأخوذ من الفهق وهو الامتلاء والاتساع، لأنه يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه إظهارا لفصاحته وفضله واستعلاء على غيره؛ ليميل بقلوب الناس وأسماعهم إليه، أما«المتشدِّقون» فهم الذين يتكلمون بأشداقهم ويتقعرون في مخاطبتهم من غير احتياط واحتراز، لكن يبادرنا هنا سؤال:
ما الدافع إلى كثرة الكلام؟!
قال المناوي:
"كثرة الكلام تتولد عن أمرين: إما طلب رئاسة يريد أن يرى الناس علمه وفصاحته، وإما قلة العلم بما يجب عليه في الكلام".
فكثرة الكلام نابعة من قسوة القلب، فإن القلب القاسي إما أن يمتلئَ بحب الرئاسة، أو يمتلئَ غفلة وعدم إدراك عواقب الكلام، وكلٌّ منهما دافع إلى كثرة الكلام، أما حب الرئاسة فيدفع صاحبه إلى التباهي بما فيه وما ليس فيه، فيمتلئ فخرا وينطق زهوا، وأما قلة العلم فتجعل صاحبها ينسى أنه محاسب على فلتات لسانه ومنتجات فمه، فيكثر كلامه وإن كان فيه الهلاك، وصدقك نصر بن أحمد النصيحة حين أنشدك محذِّرا :
لسان الفتى حتف الفتى حين يجهل *** وكل امرىء ما بين فكيه مقتل
وكم فاتحٌ أبواب شرٍّ لنفسه *** إذا لم يكن قفل على فيه مقفل
إذا ما لسان المرء أكثر هذره *** فذاك لسان بالبلاء مُوَكَّل
إذا شئت أن تحيا سعيدا مُسلَّما *** فدبِّر وميِّز ما تقول وتفعل
و يُتبَعُ بإذنِ الله
لكن إن تأخّرتُ فعُذرًا
وأظنُّها تكفينا هذهِ الجُرعةُ اليوم
واللهُ المُستعان!
د.خالد أبو شادِي
بأيّ قلبٍ نلقاه
سلسلة رُدّ إليّ روحِي