تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، هذه الشهادة أعظم كلمة قالها مكلَّف ولا شيء أعظم منها؛ وذلك لأن معناها هو الذي قامت عليه الأرض والسماوات، وما تعبَّد المتعبدون إلا لتحقيقها ولامتثالها. شهادة أن لا إله إلا الله. الشهادة: · تارة تكون شهادة حضور وبصر. · وتارة تكون شهادة علم. يعني يشهد على شيء حضرَه ورآه أو يشهد على شيء علمه. هذان نوعان بمعنى الشهادة، فإذا قال قائل: أشهد. فيحتمل أنه سيأتي بشيء رآه أو بشيء علمه. وأشهد أن لا إله إلا الله هذه شهادة علمية، ولهذا في قوله: أشهد. العلم. والشهادة في اللغة وفي الشرع وفي تفاسير السلف لآي القرآن التي فيها لفظ (شَهِدَ) قوله: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[آل عمران:18]، وكقوله: ﴿مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾[الزخرف:86] (شَهِدَ) تتضمن أشياء: الأول الاعتقاد بما سينطق به: الاعتقاد بما شهده؛ شهد أن لا إلـه إلاَّ الله؛ يعني اعتقد بقلبه معنى هذه الكلمة، وهذا فيه العلم وفيه اليقين؛ لأن الشهادة فيها الاعتقاد، والاعتقاد لا يسمى اعتقادا إلاَّ إذا كان ثمَّ علم ويقين.الثاني التكلم بها ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ﴾[آل عمران:18]، صار اعتقادا وصار أيضا إعلاما ونطقا بها.والثالث الإخبار بذلك والإعلام به: فيَنطقه بلسانه من جهة الواجب، وأيضا لا يسمى شاهدا حتى يخبر غيره بما شهد. هذا من جهة الشهادة. فإذن يكون أشهد أن لا إله إلاَّ الله معناها: أعتقد وأتكلم وأُعلم وأخبر بأن لا إله إلا الله، فافترقت -إذن- عن حال الاعتقاد، وافترقت -إذن- عن حال القول، وافترت -إذن- عن حال الإخبار المجرد عن الاعتقاد، فلا بد من الثلاثة مجتمعة. ولهذا نقول في الإيمان أنه اعتقاد الجنان وقول اللسان وعمل الجوارح والأركان. لا إله إلاَّ الله هذه هي كلمة التوحيد وهي مشتملة من حيث الألفاظ على أربعة ألفاظ: الأول: لا، الثاني: إله.الثالث: إلاَّ. الرابع لفظ الجلالة: الله.أمَّا (لا) هنا فهي النافية للجنس؛ تنفي جنس استحقاق الألوهية عن أحد إلاَّ الله جل وعلا, يعني في ذا السياق. وإذا أتى بعد النفي (إلاَّ) -وهي أداة الاستثناء- صارت تفيد معنىً زائدا وهو الحصر والقصر. فيكون المعنى: الإلـهية الحقة أو الإلـه الحق هو الله بالحصر والقصر، ليس ثمَّ إلـه حق إلاَّ هو دون من سواه. وكلمة (إلـه)من جهة الوزن فِعَال، قالوا: فعال تأتي أحيانا بمعنى فاعِل وتأتي أحيانا بمعنى مفعول.وننظر هنا فنجد كلمة (ألَهَ) في اللغة بمعنى عَبَدَ. وقال بعض اللغويين أَلَهَ, يألَهُ فلان إذا تحيَّر، وسُمي عندهم الإلـه إلـها؛ لأنّ الألباب تحيَّرت في كنه وصفه وكنه حقيقته. وهذا القول ليس بجيد. بل الصواب كلمة إلـه فِعَال بمعنى مفعول يعني المعبود فإله مهناها المعبود، ويدل على ذلك ما جاء في قراءة ابن عباس أنه قرأ في سورة الأعراف ﴿أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وإلـهَتَك﴾[الأعراف:127] كان ابن عباس يقرؤها هكذا (وَيَذَرَكَ وإلـهَتَك)، قال: لأن فرعون كان يُعبد ولم يكن يَعبد فصوب القراءةبـ(وَيَذَرَكَ وإلـهَتَك) بمعنى وعبادتك، وقراءتنا وهي قراءة السبعة (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) يعني المتقدمين. فهذا معناه أن ابن عباس فهم الإلهة معنى العبادة، قد قال الراجز في شعره المعروف الذي ذكرته لكم من قبل:يعني من عبادتي. فإذن يكون الإله هو المعبود، لا إلـه يعني لا معبود، إلا الله، هنا لا معبود، لا النافية للجنس كما تعلمون تحتاج إلى اسم وخبر؛ لأنها تعمل عمل إنَّ؛
لله درّ الغانيات المـُــدّهِ سبّحن واسترجعن من تألهيفأين خبر لا النافية للجنس؟ كثير الناس من المنتسبين للعلم قدَّرُوا الخبر: لاإله موجود إلا الله.وهذا يحتاج إلى مقدمة قبله وهو أن المتكلمين الأشاعرة والمعتزلة ومن ورثوا علوم اليونان قالوا: إن كلمة (إلـه) هي بمعنى فاعل؛ لأن فِعَال تأتي بمعنى مفعول أو فاعل، فقالوا هي بمعنى آلِـهْ والآلِـهُ هو القادر، ففسروا الإلـه بأنه القادر الاختراع، ولهذا تجد في عقائد الأشاعرة ما هو مسطور في شرح العقيدة السَّنوسية التي تسمى عندهم بأم البراهين قال مانصه فيها: الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه. قال فمعنى لا اله إلا الله لا مستغنيا عما سواه و لا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله، ففسروا الألوهية بالربوبية، وفسروا الإلـه بالقادر على الاختراع أو بالمستغني عما سواه المفتقر إليه كل ماعداه.وبالتالي يقدرون الخبرموجود لا إله موجود؛ يعني لا قادر على الاختراع والخلق موجود إلا الله, لا مستغنيا عما سواه ولا مفتقرا إليه كل ما عداه موجود إلا الله؛ لأن الخلق جميعا محتاجون إلى غيرهم.وهذا الذي قالوه هو الذي فتح باب الشرك في المسلمين؛ لأنهم ظنوا أن التوحيد هو إفراد الله بالربوبية، فإذا اعتقد أن القادر على الاختراع هو الله وحده صار موحدا، إذا اعتقد أن المستغني عما سواه والمفتقر إليه كل ما عداه هو الله وحده صار عندهم موحدا، وهذا من أبطل الباطل أين حال مشركي قريش الذين قال جل وعلا فيهم ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾[العنكبوت:61] وفي آية أخرى﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ﴾[الزخرف:9]،ونحو ذلك من الآيات وهي كثيرة كقوله ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾[يونس:31-32] الآيات من سورة يونس, هذا معلوم أن مشركي قريش لم يكونوا ينازعون في الربوبية. فإذن صارت هذه الكلمة دالة على غير ما أراد أولئك وهو ما ذكرناه آنفا من أن معنى لا إله يعني لا معبود، فيكون الخبر:إما أن يكون تقديره موجود، فيكون المعنى لا معبود إلا الله،وهذا باطل لأننا نرى أن المعبودات كثيرة فقد قال جل وعلا مخبرا على قول الكفار﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾[ص:5] فالمعبودات كثيرة والمعبودات موجودة، فإذن تقدير الخبر بموجود غلط.
عَمَلَ إِنَّ اجْعَلْ لِلا في نَكِرَه ............................