((مهلا يا عائشة لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك )).


الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالق الخلق أجمعين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد الخلق أجمعين.

أما بعد:
فهذه حديث عظيم من أحاديث النبي صلى اله عليه وآله وسلم فيه الحث على الإنفاق وبذل الخير وعدم الإحصاء والمحاسبة لما أنفقت وبذلت سواً على نفسك أو ولدك أو على ضيفك أو جيرانك أو إخوانك وأصحابك ، والدافع لي في نقل الحديث وشرح السلف له لهو شكاية بعض الشباب والأولاد من أبائهم وولاة أمرهم من أهليهم حيث ويمنعون عنهم أو يبخلون أو يقترون عليهم في النفقة في المأكل والمشرب والملبس مع غناهم وثراهم ،
مما قد يتسبب في ضياع النشئ ولجؤهم الى الحرام بحثاً عن المال أويبيع دينه للخوارج أو الروافض بعرض من الدنيا قليل .
فهذا حديث وموعظة لكل بخيل وشحيح ذكراً أو أنثى ، أردت به التذكير لي ولغيري؛ حيث ويظهر في أقوال وسلوك البعض شح وبخل، فيكون له تأثير في نقص إيماننا، وكراهية الغير لنا، وتفويت مصالح جمة لأمتنا.
والبخل يتسبب في ترك النفقة لمن تلزمه النفقة عليهم وآخر يترك النفقة الواجبة للفقراء كالزكاة وبعضهم تسبب الشح في قطع رحمه والبعض يُحرم من فعل الخيرات العظيمة كالإنفاق في سبيل الله أو بناء المساجد ...الخ
وصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قال : «
شر ما في رجل، شح هالع وجبن خالع»
«سنن أبي داود»
هي رسالة إلى كل نفس لم توق شحها، ولم تنج من شر نفسها، وسيئات أعمالها، علها تجد مكاناً واسعاً في قلب كل واحد: إذ الإيمان والشح (لا يجتمعان في قلب عبد أبداً).
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله : «شدة الحرص التي توجب البخل والظلم، وهو منع الخير وكراهته» ا.ه «مجموع فتاوى ابن تيمية» 14/480.
قال البيحاني رحمه الله: والشخ والبخل صفتان مذمومتان في كل إنسان، يطيع بهما نفسه وهواه والشيطان.إن هذه الخصلة الذميمة والخلة الشنيعة، طهَّر الله منها أنبياءه، ووقى شر تأصلها في نفوس أوليائه، ولها أثر شنيع وخطر فظيع على الأفراد والمجتمعات؛ حيث تورث النفوس الهلع والطمع، وتركيزها في جل تحركاتها على الجمع دون الإنفاق، والأخذ دون العطاء، والخروج بالأموال عما أعطيت له، من جعلها وسيلة يُتقى الله فيها، ويُتقرّب إليها بها براً وإحساناً، وإنفاقاً في سبيله، وجبراً ومواساة لعباده، إلى جعلها هدفاً وغاية ووسيلة لمحاربة الله ومحاربة دينه بها، جبياً من غير حلٍّ، وإنفاقاً في معصية وتعاملاً بما حَرُمْ.
***
وهاك ياللبيب حديث الحبيب أكرم البشر واسخاهم وأجودهم الحبيب محمد
صلى الله عليه وآله وسلم:

فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( أنفقي أو انفحي أو أنضحي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي الله عليك
{لا
توكي فيوكى عليك }))

رواه البخاري ومسلم وأبو داود
وجاء عند النسائي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال كنا يوما في المسجد جلوسا ونفر من المهاجرين والأنصار فأرسلنا رجلا إلى عائشة ليستأذن فدخلنا عليها قالت دخل علي سائل مرة وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرت له بشيء ثم دعوت به فنظرت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما تريدين أن لا يدخل بيتك شيء ولا يخرج إلا بعلمك قلت نعم قال :
((مهلا يا عائشة لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك )).
تحقيق الألباني : حسن ، صحيح أبي داود ( 1491 )
وبوب الأمام البخاري رحمه الله : باب الصدقة فيما استطاع وساق بسنده حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما
: أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال
(
لا توعي فيوعي الله عليك ارضخي ما استطعت )
ورواه مسلم

***
معاني الكلمات :

لا توكى فيوكى الله عليك : كناية عن البخل والمنع يقال سألناه فأوكى علينا أي بخل علينا
لا تحصى : الإفراط في التقصي والاستئثار
وانضحى : كناية عن السماحة والإعطاء
انفحي : ويقال لا يزال لفلان نفحات بالمعروف يحلس إليها أي عطايا وفي الحديث
فإن لله نفحات من فضله يصيب بها من يشاء من عباده ونفح الريح هبوبها
ولا توعي فيوعي الله عليك : من الإمساك والشح أيضا
الرضخ : العطاء أيضا وارضخي ما استطعت أي ما قدرت عليه وإن قل
تفسير غريب ما فى الصحيحين البخارى ومسلم [ص 276]

***
قال ابن حجر رحمه الله :
وقوله لا توكى فيوكى الله عليك أي لا تضيقي على نفسك في النفقة
فتح الباري - ابن حجر [1 /206]

***
وقال ابن حجر رحمه الله :
ويقال أوعيت المتاع في الوعاء أوعيه إذا جعلته فيه ووعيت الشيء حفظته وإسناد الوعي إلى الله مجاز عن الإمساك والإيكاء شد رأس الوعاء بالوكاء وهو الرباط الذي يربط به والإحصاء معرفة قدر الشيء وزنا أو عددا وهو من باب المقابلة والمعنى النهي عن منع الصدقة خشية النفاد فإن ذلك أعظم الأسباب لقطع مادة البركة لأن الله يثيب على العطاء بغير حساب ومن لا يحاسب عند الجزاء لا يحسب عليه عند العطاء ومن علم أن الله يرزقه من حيث لا يحتسب فحقه أن يعطي ولا يحسب وقيل المراد بالإحصاء عد الشيء لأن يدخر ولا ينفق منه وأحصاه الله قطع البركة عنه أو حبس مادة الرزق أو المحاسبة عليه في الآخرة
فتح الباري - ابن حجر [3 /300]

***
قال ابن علان رحمه الله:
(وعن أسماء) بسكون المهملة بعدها ميم ألف ممدودة (بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما) تقدمت ترجمتها في باب برّ الوالدين (قالت: قال لي رسول الله : لا توكي) قال في «النهاية»: أي لا تدخري وتشدي ما عندك وتمنعي ما في يدك (فيوكي) بالنصب: أي فيقطع (ا عليك) مادة الرزق، والجزاء من جنس العمل وهذا مفهوم قوله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} (سبأ:39). (وفي رواية) هي لمسلم في الزكاة من «صحيحه» (أنفقي أو) شك من الراوي (انفحي أو انضحي) قال المصنف: بكسر الضاد المعجمة، والمعنى: أعطي النضح والنفح العطاء، ويطلق النضح على الصبّ فلعله المراد هنا ويكون أبلغ من النفح (ولا تحصي) أي تمسكي المال وتدخريه من غير إنفاق منه (فيحصى) كذا هو في نسخ الرياض بالمبنى للمجهول وفي الزكاة من البخاري ومسلم فيحصي الله (عليك) بذكر الفاعل ولعل حذفه من نسخ الرياض إن لم يكن من سبق القلم من المصنف من تحريف الكتاب: أي يمسك عنك مادة الرزق والبركة فيه ويناقشك الحساب في الموقف، إذ أصل الإحاطة بالشيء جملة وتفصيلاً، وهذا فيه تلف أيّ تلف، فيكون مطابقاً لأعط كل ممسك تلفاً، ويستفاد منه أن الممسك يعاقب بتلف ما عنده وحبس مادة رزقه والبركة فيه ومناقشة الحساب، وقد قال : «من نوقش الحساب عذّب» وهذا أبلغ وأليق بمقام التنفير والتغليظ (ولا توعي) أي لا تمنعي ما فضل عنك عمن هو محتاج إليه (فيوعي) بالنصب (ا عليك) أي يصيبك على أعمالك بالتشديد عليك في الحساب أو يمنع عنك فضله وجوده، وبهذا يعلم أن هذه بمعنى ما قبلها وأن القصد مزيد التأكيد والحث على الإنفاق (متفق عليه) رواه مسلم بجملته وإن اقتصر المصنف على عزو قوله وفي رواية إليه، والبخاري روى عنها في حديث أن النبي قال لها: «لا توكي فيوكى عليك» وعند بعض رواته قال: «لا تحصي فيحصي الله عليك» وفي حديث آخر عنها أن النبي قال لها: «لا توعي فيوعي الله عليك انضحي ما استطعت» (وانفحي) بسكون النون وفتح الفاء (وبالحاء المهملة وهو بمعنى أنفقي وكذلك) أي ككون انفحي بمعنى أنفقي (أنضحي) فانفحي المشار إليه مشبه به وانضحي مشبه، قال في «شرح مسلم»: معنى انفحي وانضحي: أعطي النفح، والنضح: العطاء.
دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين لـ ابن علان الصديقى [4 /123]

قال صاحب كشف المشكل :
وقوله :لا توكي فيوكى عليك أي لا تشدي يقال أوكيت القربة شددتها بالوكاء وهو الخيط أو السير وهذه استعارة للبخل والمعنى لا تحبسي المال بخلا وقوله لا تحصي الإحصاء الإفراط في التقصي والاستئثار وقوله لا توعي أي لا تجمعي في الوعاء إمساكا وبخلا وقوله انفحي النفح الرمي بالشيء إلى المعطى وهذه كناية عن السماحة والجود وكذلك قوله انضحي أصل النضح رش الماء وقوله ارضحي الرضح العطية القليلة والمعنى أعطي ما قدرت عليه وإن قل

كشف المشكل من حديث الصحيحين [ص 1276]

قال صاحب مشارق الانوار
وقوله : لا توكي فيوكي الله عليك أي لا تشتد وتضيق على نفسك في نفقتك وعبر عنه بالربط على ما في الوكاء وقد روى لا توعي فيوعى عليك بمعناه وسنذكره كما قال اعط ممسكا تلفا وقوله عليكم بالموكأ مضموم الميم ساكن الواو مقصورا أي السقاء المربوط
مشارق الأنوار على صحاح الآثار [2 /572]

قال المباركفوري رحمه الله :
( لا توكي ) من أوكى يوكي إيكاء يقال أوكي ما في سقائه إذا شده بالوكاء وهو الخيط الذي يشد به رأس القربة وأوكى علينا أو بخل ( فيوكي عليك ) بفتح الكاف بصيغة المجهول وفي رواية مسلم فيوكي الله عليك
قال الجزري في النهاية أي لا تدخري وتشدي ما عندك وتمنعي ما في يدك فتنقطع مادة الرزق عنك انتهى
فدل الحديث على أن الصدقة تنمي المال وتكون سببا إلى البركة والزيادة فيه وأن من شح ولم يتصدق فإن الله يوكي عليه ويمنعه من البركة في ماله والنماء فيه ( يقول لا تحصى فيحصى عليك ) هذا تفسير لقوله لا توكي فيوكي عليك من بعض الرواة وضمير يقول راجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم
تحفة الأحوذي [6 /80]

فائدة :
الفرق بين الشح والبخل والهلع
قال ابن القيم رحمه الله : «الشح: هو شدّة الحرص على الشيء، والإخفاء في طلبه، والاستقصاء في تحصيله، وجشع النفس عليه. والبخل: منع إنفاقه بعد حصوله، وحبه وإمساكه، فهو شحيح قبل حصوله، بخيل بعد حصوله.
فالبخل ثمرة الشح، والشح يدعو إلى البخل، والشح كامن في النفس؛ فمن بخل فقد أطاع شحه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووُقِي شره، وذلك هو المفلح {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9].
وقال أيضاً: «الاقتصاد خلق محمود، يتولد من خلقين: عدل وحكمة... وهو وسط بين طرفين مذمومين،.... والشح: خلق ذميم يتولد من سوء الظن وضعف النفس، ويمده وعد الشيطان حتى يصير هلعاً، والهلع: شدة الحرص على الشيء والشره به....»ا.ه
«الوابل الصيب» (ص64)، «الروح» (ص353-354)، كلاهما لابن القيم.

وكتبه : أبو الخطاب فؤاد بن علي السنحاني
ظهر الثلاثاء 13محرم1434