حديث : "إن الله لا يملُّ حتى تملُّوا" .
حاصلُ أقوال أهل العلم في تأويل هذا الحديث ، تؤول إلى مسلكين:
المسلك الأول: أن الملل صفة ثابتة لله تعالى بهذا الحديث ، وهي صفة كمال لا نقص فيها ، وقال بثبوتها : القاضي أبو يعلى ، وإبراهيم الحربي ، والشيخ محمد بن إبراهيم .
قال إبراهيم الحربي : " قال أبو زيد : ملَّ ، يَمَلُّ ملالةً ، وأمللته إملالاً ؛ فكأن المعنى لا يمل من ثواب أعمالكم ؛ حتى تملوا من العمل " .
وقال أبو يعلى :" اعلم أنه غير ممتنع إطلاق وصفه تعالى بالملل ، لا على معنى السآمة ، والاستثقال ، ونفور النفس عنه " .
وقال الشيخ محمد إبراهيم : " إن الله لا يمل حتى تملوا" من نصوص الصفات ، وهذا على وجهٍ يليق بالباري ، لا نقص فيه ، كنصوص الاستهزاء ، والخداع ، فيما يتبادر " .
المسلك الثاني : أن الحديث لا يدلُ على صفة الملل لله تعالى ، لأن الملل معناه : استثقال الشيء وإعراض النفس عنه ، وضجرها منه ، وهذا لا يجوز على الله جل في علاه .
قال بهذا : ابن قتيبة ، والطحاوي ، وابن عبد البر ، وابن رجب ، ولكنهم اختلفوا في الملل الوارد في الحديث على قولين :
القول الأول : أن المعني : لا يملُ إذا مللتم ، وإلى هذا ذهب ابن قتيبة ،والطحاوي .
قال ابن قتيبة : " أراد : فإن الله لا يمل إذا مللتم ؛ ومثال هذا : قولك في الكلام : هذا الفرس ؛ لايفتر حتى فتر الخيل ، لا تريد بذلك أنه يفتر إذا فترت ، ولو كان هذا هو المراد ، ما كان له فضل عليها ، لأنه يفتر معها ، فأية فضيلة له ؟ . وإنما تريد أنه لا يفتر إذا فترت ، حتى تنقطع خصومه ، تريدُ بذلك ؛ أنه لا ينقطع إذا انقطعوا ، ولو أردت أنه ينقطع ، إذا انقطعوا ؛ لم يكن له في هذا القول فضل على غيره ، ولا وجبت له به مدحة ، وجاء مثل هذا بعينه ، في الشعر المنسوب إلى ابن أخت تأبَّط شراً ، وقيل : إنه لخلف الأحمر :
صليت منِّي هذيل بخرقٍ .......لا يمل الشرَّ حتى يملُّوا
لم يرد أنه يمل الشر ، إذا ملوا ؛ ولو أراد ذلك ؛ ما كان فيه مدحٌ له ،لأنه بمنزلتهم ، وإنما أراد : أنهم يملون الشر ؛ وهو لا يمله " .
واستشهد هؤلاء بما روى عن النبي _صلى الله عليه وسلم _ أنه قال : " اكلفوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يملُّ من الثواب ؛ حتى تملوا من العمل " .
القول الثاني :أن معنى الحديث : " يترك الله الثواب ، والجزاء على العمل ؛ ما لم تملوه وتتركوه ، فيكون المراد بالملل لازم الملل ، لأن من ملَّ شيئاً تركه ، فكنى عن الترك بالملل ، الذي هو سبب الترك .
وهذا قول ابن عبد البر ، وابن رجب عليهما رحمه الله ، وهو قول جماعة كبيرٌ من أهل العلم .
قال ابن عبد البر : " معلومٌ أن الله ، لا يمل ، سواء ملَّ الناس ، أو لم يملوا ، ولا يدخله ملال في شيء من الأشياء ، جل وتعالى علواً كبيراً ، وإنما جاء لفظ هذا الحديث ، على المعروف من لغة العرب ، بأنهم كانوا إذا وضعوا لفظاً بإزاء لفظٍ وقبالته ، جواباً له وجزاءً ، ذكروه بمثل لفظه ، وإن كان مخالفاً له في المعنى ، ألا ترى إلى قوله تعالى : {وجزآؤا سيئةٍ سيئةٌ مثلها }، وقوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم ، فاعتدوا عليه بمثل ما ا عتدى عليكم } .
والجزاء لا يكونُ سيئةً ، والقصاصُ ، لا يكون اعتداءً ؛ لأنه حقٌ واجبٌ .
وكذلك قوله _صلى الله عليه وسلم _ : " إن الله لا يمل حتى تملوا " ، أي : إن من مل من عملٍ يعمله ؛ قطع ع نه جزاؤه ، فأخرج لفظ قطع الجزاء ، بلفظ الملال ، إذ كان بحذائه وجواباً له " .
والراجح : اثباتُ صفة "الملِّ" لله تعالى ، على وجهٍ يليق به سبحانه جلَّ في علاه ، ويكون إثباتها من باب الصفات التي لا ينبغي أن يوصف الله عز وجل بها بإطلاق مثل :صفة الاستهزاء ، والمكر ، والخداع ......." .
وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة والطحاوي من أن معنى الحديث : " إن الله لا يملُّ إذا مللتم ، فغيرُ وجيهٍ ، لأن "حتى" ، لا تأتي بمعنى "إذا" ، وإنما تأتي على أربعة معانٍ هي :
1-انتهاء الغاية ، وهو الغالب .
2- والتعليل .
3-وبمعنى : "إلَّا وهذا أقلها .
4-وتأتي عاطفةٌ عند بعضهم ، وهو قليل .
ثم إن "حتى" حرفٌ ، وتفسيرها بــــ"إذا" يخرجها من الحرفية ، إلى الإسمية ، لآن "إذا" ظرفٌ ، والظروف أسماء ، كما أنه يجعل لها محلاً من الإعراب ، وهو النصب ، على الظرفية ، مثل "إذا" ، وقد أجمع النحاة على أن الحروف لا محل لها من الإعراب " .
وأما ما ذهب إليه ابن عبد البر وابن رجب _عليهما رحمة الله _ ، من تفسير "الملل" بلازمه ، وهو "الترك" ، وذلك تنزيهاً لله تعالى ، عن معنى الملل ، فهو خروجٌ بالنصِّ عن ظاهره المتبادر منه ، علماً أنه لا يلزم من إثبات هذه الصفة لله تعالى بالقيد المذكور ، أن يكون الله تعالى متصفاً بالنقائص والعيوب ، كيف وقد وصفه بذلك ؛ من هو أعظم الناس تنزيهاً لربه ، وأعلمهم بمراده ، وهو الرسول _صلى الله عليه وسلم _ .
كما لا يلزم من إثباتها نفي اللوازم الصحيحة لها ، فإن لازم الحق حقٌ ، لكن لا ينبغي أن يكون إثبات اللازم ؛ طريقاً لنفي الأصل ، وهو "الصفة" ، فالصفة ثابتةٌ ، ولوازمها الصحيحة ثابتةٌ .
ولعل الذي ألجأهم إلى هذا التأويل : هو ما فهموه من معنى الملل ، في حق المخلوقين ، ومعلومٌ أن الخالف ، لا يماثله أحدٌ من خلقه بشيء من صفاته ، فللخالف صفاتٌ تليق به ، وللمخلوقات صفاتٌ تليق بهم ، والاتفاق في الأسماء ؛ لا يلزم من الاتفاق في المسميات ، والله أعلم .
من كتاب"أحاديث يتوهم إشكالها" لسليمان بن محمد الدبيجي (بتصرف).