سلسلة: درك البصيرة للنجاة من الفتن الخطيرة (8)


دعاة من
( جنس هاروت وماروت )


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :

فإن من الآثار المترتبة على السحر إحداث الفرقة بين المتحابين كالزوجين بالتباغض والعداء، كما قال – تعالى - : {فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}.

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - عن امرأة وزوجها متفقين وأمها تريد الفرقة فلم تطاوعها البنت – فقال: " ... وإذا كانت الأم تريد التفريق بينها وبين زوجها فهي من جنس هاروت وماروت لا طاعة لها فى ذلك - ولو دعت عليها - اللهم إلا أن يكونا مجتمعين على معصية أو يكون أمره للبنت بمعصية الله والأم تأمرها بطاعة الله ورسوله الواجبة على كل مسلم" (مجموع الفتاوى: 33/113) .

فكل من أوجب التفريق بين المؤتلفين والمجتمعين بما لا يوجب التفريق، والتباغض من النصوص الشرعية فهو من جنس هاروت وماروت؛ لأن موجب التفريق عنده رأيه وهواه، أو شيخه وما ارتضاه، لا ما جاء عن الله أو عن نبيه ومصطفاه .

فالنميمة سحر: لما تحدثه من فرقة بغير حق بين الأحباب والأصحاب، وقد جاء في كتاب التوحيد: باب: " بيان شيء من أنواع السحر"

وفيه: "عن ابن مسعود أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ألا هل أنبئكم ما العَضْهُ؟ هي النميمة، القالة بين الناس" رواه مسلم."

قال الشارح – رحمه الله - : "وقال أبو الخطاب في عيون المسائل: (ومن السحر: السعي بالنميمة والإفساد بين الناس)" (فتح المجيد: 388).

ومن البيان سحر: فقد عد في نفس الباب: ( بعض الفصاحة ) منه .
فقال: ولهما – البخاري ومسلم - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من البيان لسحراً ".

فقال الشارح رحمه الله - : "والمراد به البيان الذي فيه تمويه على السامع وتلبيس، كما قال بعضهم – شعراً - :

في زُخرف القول تزيينٌ لباطلِهِ والحقُّ قد يعتريهِ سوءُ تعبيرِ

مأخوذ من قول الشاعر:

تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير
مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما... والحق قد يعتريه سوء تعبير


قوله: ( إن من البيان لسحراً ) هذا من التشبيه البليغ؛ لكون ذلك يعمل عمل السحر، فيجعل الحق في قالب الباطل، والباطل في قالب الحق، فيستميل به قلوب الجهال حتى يقبلوا الباطل وينكروا الحق، ونسأل الله الثبات والاستقامة على الهدى.

وأما البيان الذي يوضح الحق ويقرره ويبطل الباطل ويبينه فهذا هو الممدوح، وهكذا حال الرسل وأتباعهم، ولهذا علت مراتبهم في الفضائل، وعظمت حسناتهم.

وبالجملة فالبيان لا يحمد إلا إذا لم يخرج إلى حد الإسهاب والإطناب، وتغطية الحق وتحسين الباطل،فإذا خرج إلى هذا فهو مذموم، وعلى هذا تدل الأحاديث كحديث الباب، وحديث: " إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها" رواه أحمد و أبو داود، وصححه الألباني ] " (فتح المجيد: 390) .

ولا ريب أن من البيان سحراً يؤثر في قلب سامعه، أو قارئه فيولد فيه الميول إلى بعض المقالات والآراء الموجبة للشحناء والبغضاء، بلا أدلة أو براهين فتنشأ الفرقة، ويعم الاختلاف بعد الجماعة والائتلاف .

وهذا السحر لا ينفذ تأثيره إلا فيمن خف عقله، وضعفت بصيرته، وقل علمه، ووافق الهوى المدفون، فرضي بالظنون، وتابع الأوهام، وأنس بسفه الأحكام .

ولا أدل على ذلك من تباين المواقف، وتناقض الأحكام على المخالف والموالف، فيجمع بين المختلفين بلا سبب، ويفرق بين المتماثلين بلا موجب .

وحقيقة هذا (المرض الخطير) أنه ضعف في (قوة الإدراك) المحصلة للعلوم والمعارف، فإن العبد السليم المعافى تطرد أحكامه لصحة علومه ومفاهيمه، فتناقض أحكامه واضطرابها دال على فساد علومه – تأصيلاً أو تنزبلاً - .

فمن غلب على عقله بسحر القول والبيان، وصار يقاد كالمغلوب على تصوره وإرادته فهو من جنس المجانين والمعتوهين؛ لأن كل مسحور بقول متبوعه وبيانه فهو مغلوب على عقله كالمجنون بجامع (تعطيل عقله) فتصدر منه الأقوال والأعمال بغير اختياره المجرد .

وذلك لأنه لما لم ينتفع بآلة الفهم التي وهبها الله له، وهي العقل فعطلها وصار كعادم العقل بتركه للأدلة التي هي مناط إعمال عقله، ورضي بأن يقاد كمن لا عقل له استوجب أن يكون حاله شراً من حال البهيمة.

ولهذا قال عبيد الله بن المعتمر:" لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد " [جامع بيان العلم ص446].

فالعقل نعمة، وشكرها أن يستعمل فيما خلق له من الفهم عن الله ورسوله ما يريده - شرعاً – من عباده ليحققوا الغاية التي خلقوا لها {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }[الإنسان: 30].


بقلم فضيلة الشيخ
أبي زيد العتيبي