يقول العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي الجكني رحمه الله تعالى في تفسيره أضواء البيان عند قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون (المائدة :105)مسائل تتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :المسألة الأولى : اعلم أن كلا من الآمر والمأمور يجب عليه اتباع الحق المأمور به ، وقد دلت السنة الصحيحة على أن من يأمر بالمعروف ولا يفعله ، وينهى عن المنكر ويفعله ، أنه حمار من حمر جهنم يجر أمعاءه فيها .وقد دل القرآن العظيم على أن المأمور المعرض عن التذكرة حمار أيضا ، أما السنة المذكورة فقوله - صلى الله عليه وسلم : " يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ، فتندلق أقتابه ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه ، فيطيف به أهل النار فيقولون : أي فلان ؛ ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ ، فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه " ، أخرجه الشيخان في " صحيحيهما " من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما .ومعنى تندلق أقتابه : تتدلى أمعاؤه ، أعاذنا الله والمسلمين من كل سوء ، وعن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت رجعت ، فقلت لجبريل : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء خطباء من أمتك ، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ، وهم يتلون الكتاب ، أفلا يعقلون " ، أخرجه الإمام أحمد ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن حيان ، وابن مردويه ، والبيهقي ، كما نقله عنهم الشوكاني وغيره . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما : " أنه جاءه رجل فقال له : يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف ، وأنهى عن المنكر ، فقال ابن عباس : أوبلغت ذلك ؟ فقال : أرجو ، قال : فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل ، قال : وما هي ؟ قال : قوله تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية [2 \ 44] ، وقوله تعالى : كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [61 \ 3] ، وقوله تعالى عن العبد الصالح شعيب - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه الآية[11 \ 88] ، أخرجه البيهقي في " شعب الإيمان " ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، كما نقله عنهم أيضا الشوكاني وغيره .واعلم أن التحقيق أن هذا الوعيد الشديد الذي ذكرنا من اندلاق الأمعاء في النار ، وقرض الشفاه بمقاريض النار ، ليس على الأمر بالمعروف ، وإنما هو على ارتكابه المنكر عالما بذلك ، ينصح الناس عنه ، فالحق أن الأمر بالمعروف غير ساقط عن صالح ولا طالح ، والوعيد على المعصية لا على الأمر بالمعروف ; لأنه في حد ذاته ليس فيه إلا الخير ، ولقد أجاد من قال : [الكامل]لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيموقال الآخر : [الطويل]وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس وهو مريضوقال الآخر : [الطويل]فإنك إذ ما تأت ما أنت آمر ... به تلف من إياه تأمر آتياوأما الآية الدالة على أن المعرض عن التذكير كالحمار أيضا ، فهي قوله تعالى : فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة [74 \ 49 ، 50 ، 51] ، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ، فيجب على المذكر بالكسر ، والمذكر بالفتح أن يعملا بمقتضى التذكرة ، وأن يتحفظا من عدم المبالاة بها ، لئلا يكونا حمارين من حمر جهنم .المسألة الثانية : يشترط في الآمر بالمعروف أن يكون له علم ، يعلم به أن ما يأمر به معروف ، وأن ما ينهى عنه منكر ; لأنه إن كان جاهلا بذلك فقد يأمر بما ليس بمعروف ، وينهى عما ليس بمنكر ، ولاسيما في هذا الزمن الذي عم فيه الجهل وصار فيه الحق منكرا ، والمنكر معروفا ، والله تعالى يقول : قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني الآية [12 \ 108] ، فدل على أن الداعي إلى الله لا بد أن يكون على بصيرة ، وهي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه ، وينبغي أن تكون دعوته إلى الله بالحكمة ، وحسن الأسلوب ، واللطافة مع إيضاح الحق ; لقوله تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة الآية [16 \ 125] ، فإن كانت دعوته إلى الله بقسوة وعنف وخرق ، فإنها تضر أكثر مما تنفع ، فلا ينبغي أن يسند الأمر بالمعروف إسنادا مطلقا ، إلا لمن جمع بين العلم ، والحكمة ، والصبر على أذى الناس ; لأن الأمر بالمعروف وظيفة الرسل ، وأتباعهم ، وهو مستلزم للأذى من الناس ; لأنهم مجبولون بالطبع على معاداة من يتعرض لهم في أهوائهم الفاسدة ، وأغراضهم الباطلة ، ولذا قال العبد الصالح لقمان الحكيم لولده ، فيما قص الله عنه : وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك الآية [31 \ 17] ، ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لورقة بن نوفل : «أومخرجي هم ؟» ، يعني قريشا ، أخبره ورقة : أن هذا الدين الذي جاء به لم يأت به أحد إلا عودي ، وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : «ما ترك الحق لعمر صديقا» ، واعلم أنه لا يحكم على الأمر بأنه منكر ، إلا إذا قام على ذلك دليل من كتاب الله تعالى ، أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع المسلمين .وأما إن كان من مسائل الاجتهاد فيما لا نص ، فلا يحكم على أحد المجتهدين المختلفين بأنه مرتكب منكرا ، فالمصيب منهم مأجور بإصابته ، والمخطئ منهم معذور كما هو معروف في محله .واعلم أن الدعوة إلى الله بطريقين : طريق لين ، وطريق قسوة ، أما طريق اللين فهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه ، فإن نجحت هذه الطريق فبها ونعمت ، وهو المطلوب ، وإن لم تنجح تعينت طريق القسوة بالسيف حتى يعبد الله وحده ، وتقام حدوده ، وتمتثل أوامره ، وتجتنب نواهيه ، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد الآية [57 \ 25] .ففيه الإشارة إلى أعمال السيف بعد إقامة الحجة ، فإن لم تنفع الكتب تعينت الكتائب ، والله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن .المسألة الثالثة : يشترط في جواز الأمر بالمعروف ألا يؤدي إلى مفسدة أعظم من ذلك المنكر ; لإجماع المسلمين على ارتكاب أخف الضررين ، قال في «مراقي السعود» : [الرجز]وارتكب الأخف من ضرين وخيرن لدى استوا هذينويشترط في وجوبه مظنة النفع به ، فإن جزم بعدم الفائدة فيه لم يجب عليه ، كما يدل له ظاهر قوله تعالى : فذكر إن نفعت الذكرى [87 \ 9] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم : «بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ، ودع عنك أمر العوام ، فإن من ورائكم أياما ، الصابر فيهن كالقابض على الجمر ، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم» ، وفي لفظ : «قيل : يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا ، أو منهم ؟ قال : بل أجر خمسين منكم» ، أخرجه الترمذي ، والحاكم ، وصححاه ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وابن جرير ، والبغوي في «معجمه» ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في «الشعب» من حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - وقال الراوي : هذا الحديث عنه أبو أمية الشعباني ، وقد سأله عن قوله تعالى : عليكم أنفسكم ، والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : «بل ائتمر» إلى آخر الحديث .وهذه الصفات المذكورة في الحديث من الشح المطاع ، والهوى المتبع . . . إلخ ، مظنة لعدم نفع الأمر بالمعروف ; فدل الحديث على أنه إن عدمت فائدته سقط وجوبه .تنبيهالأمر بالمعروف له ثلاث حكم :الأولى : إقامة حجة الله على خلقه ، كما قال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [4 \ 165] .الثانية : خروج الآمر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف ، كما قال تعالى في صالحي القوم الذين اعتدى بعضهم في السبت : قالوا معذرة إلى ربكم الآية [7 \ 164] ، وقال تعالى : فتول عنهم فما أنت بملوم [51 \ 54] ; فدل على أنه لو لم يخرج من العهدة ، لكان ملوما .الثالثة : رجاء النفع للمأمور ، كما قال تعالى : معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ، وقال تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [51 \ 55] ، وقد أوضحنا هذا البحث في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب» في سورة الأعلى في الكلام على قوله تعالى : فذكر إن نفعت الذكرى [87 \ 9] ، ويجب على الإنسان أن يأمر أهله بالمعروف كزوجته ، وأولاده ، ونحوهم ، وينهاهم عن المنكر ; لقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا الآية [66 \ 6] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم : «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» ، الحديث .المسألة الرابعة : اعلم أن من أعظم أنواع الأمر بالمعروف كلمة حق عند سلطان جائر ، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» ، أخرجه أبو داود ، والترمذي ، وقال : حديث حسن .وعن طارق بن شهاب - رضي الله عنه : «أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد وضع رجله في الغرز : أي الجهاد أفضل ؟ قال : كلمة حق عند سلطان جائر» ، رواه النسائي بإسناد صحيح .كما قاله النووي - رحمه الله : واعلم أن الحديث الصحيح قد بين أن أحوال الرعية مع ارتكاب السلطان ما لا ينبغي ثلاث :الأولى : أن يقدر على نصحه وأمره بالمعروف ، ونهيه عن المنكر ، من غير أن يحصل منه ضرر أكبر من الأول ، فآمره في هذه الحالة مجاهد سالم من الإثم ولو لم ينفع نصحه ، ويجب أن يكون نصحه له بالموعظة الحسنة مع اللطف ; لأن ذلك هو مظنة الفائدة .الثانية : ألا يقدر على نصحه لبطشه بمن يأمره ، وتأدية نصحه لمنكر أعظم ، وفي هذه الحالة يكون الإنكار عليه بالقلوب ، وكراهة منكره ، والسخط عليه ، وهذه الحالة هي أضعف الإيمان .الثالثة : أن يكون راضيا بالمنكر الذي يعمله السلطان ، متابعا له عليه ، فهذا شريكه في الإثم ، والحديث المذكور هو ما قدمنا في سورة البقرة عن أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية - رضي الله عنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن كره فقد برئ ، ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع» ، قالوا :يا رسول الله ألا نقاتلهم ؟ قال : «لا ما أقاموا فيكم الصلاة» ، أخرجه مسلم في «صحيحه» .فقوله - صلى الله عليه وسلم : «فمن كره» يعني بقلبه ، ولم يستطع إنكارا بيد ولا لسان «فقد برئ» من الإثم ، وأدى وظيفته ، «ومن أنكر» بحسب طاقته «فقد سلم» من هذه المعصية ، «ومن رضي» بها «وتابع» عليها ، فهو عاص كفاعلها .ونظيره حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عند مسلم : قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان» وقوله في هذه الآية الكريمة : عليكم أنفسكم ، صيغة إغراء ، يعني : الزموا حفظها ، كما أشار له في «الخلاصة» بقوله : [الرجز]والفعل من أسمائه عليكا وهكذا دونك مع إليكاقوله تعالى : ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن كاتم الشهادة آثم ، وبين في موضع آخر أن هذا الإثم من الآثام القلبية ، وهو قوله : ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [2 \ 283] ، ومعلوم أن منشأ الآثام والطاعات جميعا من القلب ; لأنه إذا صلح صلح الجسد كله ، وإذا فسد الجسد كله .قوله تعالى : وإذ تخرج الموتى بإذني ، معناه إخراجهم من قبورهم أحياء بمشيئة الله وقدرته ، كما أوضحه بقوله : وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله [3 \ 49] .قوله تعالى : وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات الآية ، لم يذكر هنا كيفية كفه إياهم عنه ، ولكنه بينه في مواضع أخر ، كقوله : وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ، وقوله : وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه [4 \ 158] ، وقوله : ومطهرك من الذين كفروا [3 \ 55] ، إلى غير ذلك من الآيات .قوله تعالى : وإذ أوحيت إلى الحواريين الآية ، قال بعض أهل العلم : المراد بالإيحاء إلى الحواريين الإلهام ، ويدل له ورود الإيحاء في القرآن بمعنى الإلهام ، كقوله : وأوحى ربك إلى النحل الآية [16 \ 68] ، يعني ألهمها ، قال بعض العلماء :ومنه وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه [28 \ 7] ، وقال بعض العلماء معناه : أوحيت إلى الحواريين إيحاء حقيقيا بواسطة عيسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .