مسلمو البيرو .. بين آلام الغربة ومخاطر التنصير
تعــد جمهـــورية البيرو من دول أمريكا اللاتينية الواقعة على الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية، تحدها من الشمال الإكوادور وكولومبيا، ومن الجنوب تشيلي، ومن الشرق البرازيل وبوليفيا.
تنتمي إلى حضارة الأنكا، حيث سكنها شعوب الأنكا منذ قرون بعيدة، واحتلتها إسبـــانيا عـام 1532، حتى حررها سيمون بوليفار وخوسيه سان مارتن عام 1824م، وضُمـت البيرو إلى كولومبيا الكبرى، إلا أنها انفصلت عن الاتحاد الكولومبي بعد انهياره عام 1830.
تبلغ مساحتها نحو (1.285.126) كيلومتر مربع، ويقدر عدد سكــانها حاليًا بنحــــو 27 مليون نسمة، عاصمتها ليما، وأشهر مدنها: (أركيبا كالاو، تروجيلو).
نشاطها الاقتصادي الرئيس يدور حول الزراعة، حيث يعمل في مهنة الفـــلاحة حـوالي 40% من إجمالي سكان البلاد، كما تعد بيرو من أوائل الدول المنتجـــة للأســـماك، وإنتاجها حاليًا يقارب عشر الإنتاج العالمي، وهي رابعة دول العالم في إنتاج الفضة.
دور الأندلس في نشر الإسلام
القاســـم المشترك بين دول أمريكــا اللاتينية والجنوبية يتمحـور حول الاحتلال الإسباني ودور الإسبان فــــي القضـــاء علــــى حضارة بلاد الأندلس، وتهجير المسلمين من الأندلس، ومحاولة نفيهم إلى العالم الجديد بغرض الإبادة، إلا أنه "رب ضارة نافعة"، فحينما هجر الإســبان مســلمي الأندلس إلى العالم، وجدت هناك بقعة جديدة للإســـلام، وكـــان ذلك التهجير القسري والإبادة لمســــلمي الأندلس سببًا في هداية كثير من مواطني العالم الجديد في أمريكا الجنوبية والشمالية واللاتينية والوسطى إلى الإسلام.
وترجع تفاصيل تلك النقطة إلى أن مئات الآلاف من العرب المسلمين ظلوا يعيشون في إسبانيا بعد خروج العرب من الأندلس عام 1492م، وكانوا يمـــارسون أنشطتهم المختلفة، واستطـاعوا أن يحافظوا على حضارتهم الإسلامية، حيث أبدعـــوا فـــي مختلـــف المجـالات الفنية والثقـــافية والفكرية، واستمر وجودهم في إسبانيا حوالي 121 عامًا، كانوا خلالها يبطنون الإسلام، ويتظاهرون بأنهم مسيحيون حتى عام 1611م، حين أصدر الملك فيليب الثالث قـــرارًا بترحيلهم إلى المغرب والجزائر وتونس ومناطق العالم الجديد في الأمريكتين.
وقبل هذا القرار كان بابا الفاتيكان وقتها قد أصدر قانونًا يسمح بتدمير كل ما يمت للإسلام بصلة، وذلك عام 1479م، إلا أن المـــوريسكيين (مسلمي الأندلس) استطـــاعوا المحافظة على ثقافاتهم الإسلامية، وتمكنـــوا من نشرها في دول أمريكا اللاتينية التي هجروا إليها قسرًا بفعل احتلال إسبانيا للعــالم الجديد، ورغبتها في تعمير تلك المناطق الجديدة على حساب العـــرب والمســــلمين، ثم لم تلبـــث أن تقوم بتصفيتهــم جسديًا، بعد أن يفرغوا من المهمة التي هجروا من أجلها إلى مناطق العالم الجديد، إلا أن الموريسكيين نجحوا في بناء حضارة إسلامية جديدة في دول أمريكا، ومـــا زالت شـواهدها موجودة حتى الآن في (المكسيك والبرازيل والشيلي والبيرو، وخاصــة مدينة ليما).
كما أن المؤرخين اختلفوا في رصد بدايات الوجود العربـي والإسلامي في دول أمريكا الجنوبية واللاتينية، ومنها البيرو، بطبيعـة الحال، إلا أن هناك قرائن أكدت أسبقية الوجود العربي والإسلامي فـي بيرو ودول أمريكا الجنوبية، وهي قرائن تثبت أن المسلمين عرفوا العـالم الجديد قبل اكتشاف كولمبوس له بنحو أربعة قرون تقريبًا، حيث رجحت بعض المصادر والمراجع التاريخية أن العرب والمسلمين عرفوا العالم الجديد في أوائل القرن الثــاني عشر الميلادي، وحـــددوها مــا بيــن عامي 1100م و1150م، فيمـــا كانت بداية حركة الكشوف الجغرافية الغربية للعالم الجديد في عـــام 1490، حينما اكتشــف كريستوفر كولمبوس الساحل الشرقي لأمريكـــا الجنوبية، ثم اكتشـف فاسكو دجاما بعده، وتحــــديدًا في عام 1495 طريق رأس الرجاء الصالح، وفي عام 1519 اكتشــف ماجلان قارة أمريكا الجنوبية، أي أن كـــل التــواريخ السابقة تشيــــر جميعــها إلى أن العرب والمسلميـن سبقوا كولومبوس إلى القارتين الأمريكتين.
الوجود الإسلامي
ومن أبرز شواهد الوجود الإسلامي في بيرو هو ذلك الطابع المعماري الأندلســي الذي يميز مساكن وعقارات العاصمة ليما، ومازالت بعض أنــواع الأشــجار إلــى اليوم شامخة في القصـــر الجمهــــوري للقائد الإســباني "فرانسيسكو بيساروش"- والتــي جيء بها من الأندلس- ممــا يؤكد أن المسلمين في البيرو منذ سنـوات طويلة تعود إلى فترة الاستعمار الإسباني وما قبله، وليس كما يقـــول البعـــض: إن الوجود الإسـلامي في البيرو جـاء مع فترات الهجرات العربية والإسلامية إلى العــالم الجـــديد إبان حقبـــة انهيــار الدولـة العثمانية في بداية القرن العشرين، وما تبعه من انكسارات العرب والمسلمين، والتي تضاعفت إبان ضياع فلسطين عام 1948، وتزايد الهجرات العربيـــة والإسـلامية مــن منــاطق بلاد الشام، خاصة من ( لبنان وسوريا وفلسطين) إلى دول العالم الجديد، هـــروبًا مــــن الاحتــــلال الإنجليـزي والفرنسي والإسرائيلي للمناطق والدول العربية.
الواقع الحالي للمسلمين
يقدر عدد المسلمين حاليا في بيرو بنحو (1000 إلى 1500) مسلم، يتركزون بشكل مكثف في العاصمة ليما، ولهم مسجد صغير تقام فيه الصلوات الخمس والجمعة والعيدان، ورغم قلة عدد المسلمين مقارنة بإجمالي سكان بيرو، إلا أن حملات التنصير لا تهدأ ولا تتوانى عن محاولة تضييع الهوية الإسلامية لمسلمي بيرو، وتحويلهم إلى النصرانية، وهو ما أكده "ضمين عوض"– رئيس الجمعية الإسلامية في ليما- حينما أكد أن إحصاءات الجمعية أثبتت أن أكثر من 1450 مسلم في بيرو تحولوا عن الإسلام بفعل الحملات التنصيرية التي تستهدفهم، وأرجع نجاح عمليات تنصير المسلمين إلى قلة عدد المساجد والمدارس والدعاة والمؤسسات الثقافية الإسلامية، التي من شأنها أن تحتوي المسلمين في بيرو، وتدافع عنهم، وتحاول أن تجد حلولاً لمشكلاتهم الاجتماعية والدينية على حد سواء، واستشهد في ذلك بأن المسلمين في بيرو يدفنون موتاهم في مقابر النصارى؛ نظرًا لعدم وجود مقابر مخصصة للمسلمين، وهي مشكلة تجسد حقيقة المخاطر والتحديات التي يواجهها المسلمون في بيرو (أحياء وأمواتًا).
كما أن أبرز المشكلات التي يعاني منها مسلمو بيرو عدم وجود دعاة عرب ومسلمين يتحدثون الإسبانية حتى يكونوا قادرين على التواصل مع مسلمي بيرو ودعوتهم الإسلام، وتثبيت عقيدتهم، والدعوة الى الإسلام لاكتساب مسلمين جدد.
أما محمد هاجر– الأمين العام للمنظمة الإسلامية لأمريكا اللاتينية– فقد وجه انتقادًا حادًا للدول العربية والإسلامية والمنظمات الإسلامية الدعوية، محملاً تلك الأطراف مسؤولية كثير من المشكلات التي يعاني منها مسلمو بيرو، وذلك بسبب تقصيرهم في الدفاع عن المسلمين في تلك الدول، وعدم حرص تلك الدول والمنظمات على التواصل معهم ورعاية الأقليات المسلمة في أمريكا الجنوبية واللاتينية بشكل عام.
كما أن هناك مشكلة كبيرة وخطيرة تؤثر إجمالاً على أعداد المسلمين، وتنذر بخطورة الأمر على مستقبل الجالية المسلمة هناك، وهذه المشكلة هي ظاهرة الزواج المختلط بين مسلمين وغير المسلمين، وما يترتب على ذلك من ضياع الهوية الإسلامية، نظرًا لقلة أعداد المسلمين مقارنة بأبناء الديانات الأخرى، وترجع تلك الظاهرة إلى ضعف الوازع الديني عند مسلمي بيرو، وضعف ثقافتهم الإسلامية التي لو عرفوها من شأنها أن تضع حدودًا لمثل تلك الممارسات السلبية.
ورغم تلك المشكلات التي من شأنها أن تؤثر سلبيًا على إجمالي عدد المسلمين في بيرو، وضعف القدرة على اجتذاب مسلمين جدد من مواطني بيرو، إلا أن واقع الحال يشير إلى نقطة إيجابية، فرغم أن معظم المسلمين يقطنون العاصمة ليما، والبعض منهم في المدن الرئيسة، ورغم قلة أعدادهم إلا أن "تأثيرهم يفوق حجمهم"، حيث إن لهم علاقة طيبة مع السفارات العربية والأجنبية، كما أن لهم مكانة عند الأحزاب السياسية، والمنظمات الحقوقية، بالإضافة إلى صداقتهم مع جميع الطوائف النصرانية واليهودية، ومع المحطات الإعلامية المحلية منها والوطنية.
ولهذا فقد خصصت السلطات في بيرو للمسلمين هناك ساعات بث يومية باللغة العربية على إذاعة ليما، وذلك للتعريف بالإسلام، كما أن وسائل الإعلام هناك تقدم بين وقت وآخر برامج إعلامية عن الإسلام والمسلمين، وخاصة في المناسبات الدينية كمناسبة شهر رمضان، وعيدي الفطر والأضحى.
كما أن مسلمي بيرو يتمتعون بحالة اقتصادية جيدة، فمعظمهم يملكون محلات تجارية، والآخرون لديهم استثمارات صناعية ضخمة، خاصة في صناعات الغزل والنسيج والسياحة.
تحديات تواجه العمل الدعوي
تقوم الجمعية الإسلامية في ليما بدور دعوي كبير، حيث تتولى الجمعية مسؤولية حماية المسلمين، والدعوة إلى الإسلام، وتوفير كافة سبل الدعم لمساعدة المسلمين في بيرو، خاصة من سلك منهم طريق الدعوة إلى الإسلام، بشكل لا يخل بقوانين الدولة، وفي نفس الوقت يساعد رجال الدعوة الإسلامية على القيام بمسؤولياتهم تجاه المسلمين، وتجاه محاولة اجتذاب مسلمين جدد من مواطني بيرو.
وفي هذا الإطار، أكد "ضمين عوض"- رئيس الجمعية الإسلامية- أن المسلمين يستشعرون بالواجب والمسؤولية الملقاة على عاتقهم، خاصة على صعيد إدخال الإسلام والثقافة الإسلامية في بيوت غير المسلمين والمسلمين بطريقة صحيحة، كما أن الدعوة إلى الإسلام تتطلب إنشاء مدارس تبدأ بالحضانة حتى الثانوية الكاملة للبنين والبنات لتعليم أبناء المسلمين، إضافة إلى أهمية التواصل الإيجابي مع وسائل الإعلام في بيرو؛ لربط الإسلام بالأحداث الجارية، وتوضيح رؤية الإسلام في معالجة القضايا الراهنة.
كما أشار ضمين إلى نقطة خطيرة ينبغي الالتفات إليها عند الحديث عن المشكلات والتحديات التي تواجه العمل الدعوي في بيرو، وهذه النقطة هي دور الجمعيات والمراكز الإسلامية في بيرو في تعريف الدعاة القادمين من الخارج بثقافة المجتمع والشعب في بيرو، حتى تسهل عليهم عملية التواصل مع مواطني بيرو، والدخول إلى شخصياتهم من أقرب الطرق.
ولتدعيم الجهد الدعوي في بيرو، والحفاظ على الهوية الثقافية الإسلامية للمسلمين هناك، ينبغي إيجاد علاقة تواصل بين الدول العربية والإسلامية والمراكز الإسلامية في العالم الجديد عامة، وبيرو على وجه الخصوص، إضافة إلى أهمية تشجيع الجاليات والأقليات المسلمة للمشاركة في الفعاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الدول التي يقيمون فيها، وأهمية العمل على إبراز صورة الإسلام الصحيحة في وسائل الإعلام المختلفة، ودحض كافة الافتراءات والأكاذيب التي تحاول النيل من صورة الإسلام والمسلمين لدى المواطن الغربي والأمريكي.