إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله .
وبعد،،
فإنه من المتفق عليه عند علماء السلف وأئمتهم - عليهم رحمة الله تبارك وتعالى - إثبات صفات الله عز وجل إثباتاً يليق به، بمقتضى قوله تعالى :{وهو السميع البصير} الشورى: ١١، وغيرها من الآيات الدالة على صفات الله عز وجل، مع تنزيهه سبحانه وتعالى عن مشابهة المخلوقين، بمقتضى قوله تعالى :{ليس كمثله شيء} الشورى: ١١ .
وإنما ذلك لأنهم صدقوا خبر الله عز وجل وآمنوا به، وعلموا أنه لا أحدَ أعلم بالله من الله ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى .
فإذا قال الله عز وجل : {وهو السميع البصير} أثبتوا له سبحانه صفة السمع والبصر، تصديقاً للخبر، وإذا قال سبحانه : {ان الله كان عليما حكيما } أثبتوا صفتي العلم والحكمة، وإذا قال تعالى:{ان ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} الأعراف: ٥٤، أثبتوا لله عز وجل استواءً يليق به سبحانه، لا كاستواء المخلوقين، وهكذا في جميع ما أثبته الله عز وجل لنفسه، أو أثبته له الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى .
كما علموا - عليهم رحمة الله تبارك وتعالى - أنه لا تعارض بين هذه النصوص السمعية، فكلٌ من عند الله، فإن التعارضَ والتناقضَ مستحيلٌ على كلام الله سبحانه وتعالى القائل:{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} النساء:٨٢ فهو الذي أثبت الصفات لنفسه سبحانه، وهو القائل :{ليس كمثله شيء}.
ثم إن أصحاب الفطر السليمة يُدركون أنه لا تلازم بين القَدْر المشترك - الذي بين الخالق والمخلوق - وبين التشبيه، فالاشتراك في الأسماء لا يلزم منه تشابه الْمُسميات، وهذا واقع بين المخلوقات بعضها البعض - أعني الاشتراك في الأسماء مع عدم تشابه المسميات - كما سنوضحه فيما يأتي، فكيف بالخالق جل وعلا ؟! .
ثم إنه ظهر بعد ذلك أناسٌ مُشوَّشة فِطَرهُم، فاسدة عقولهم، حرَّفوا نصوصَ الشرع وعطَّلوا صفات الله سبحانه وتعالى بدعوى التنزيه ونَفْي المثلية، ففروا من شر إلى أشر منه، حيث فروا من تشبيه الله تعالى بالموجودات - كما زعموا - إلى تشبيهه سبحانه وتعالى بالمعدومات !! .
وكان أحد هؤلاء الدكتور / عمر عبد الله كامل، الذي ألف كتاباً أسماه ( نقض قواعد التشبيه من أقوال السلف ممن قالوا بالإمرار والتفويض والتنزيه )، زعم فيه أن قواعد أهـل الســنة والجماعة تفيد التمثيل والتشبيه، واتهم فيه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأنه مُشبِّه ومجسِّم، حيث أثبت صفات الرب جل وعلا !! .
فاستخرت الله العظيم أن أقوم بردٍ عِلْمي مختصر، أوضح فيه ما حواه هذا الكتاب من أغلاط وأباطيل، وأنصر فيه مذهب سلفنا الصالح - عليهم رحمـة الله -، حيث هالَني ما رأيت في الكتاب من خلط، ومغالطات، وقَلْبِ للكلام، ومحاولة صاحبه التنقيص من قدر شيخ الإسلام رحمه الله .
كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يُضرْها وأوهى قرنه الوعل
ورأيت المؤلف يذكر كلاماً كثيراً حقاً ولكنه أراد به باطلاً، فاستعنت بالله عز وجل في الرد عليه، قاصداً بذلك نُصرة عقيدة أهل السنة والجماعة ومذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي كان مُتبِّعاً لسلفنا الصالح، ولم يخالِفْهم في شيء .
فأسأل الله تعالى أن يتقبل مني هذا الجهد القليل، وأن يجعله في ميزان حسناتي وحسنات والديَّ وأهلي جميعاً، فهو سبحانه ولي ذلك والقادر عليه .
وسنقوم بالرد عليه في حلقات متتابعة، ونبدأ بالآتي:" وصف المؤلف الأشاعرة والماتريدية بأنهم أهل السنة والجماعة "
قال المؤلف ص 29 :
(( ولنقف عند بعض الأمور في هذا النص ... ليفيد صحة ما ذكره علماء أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية )) .
قلت:
وَصَفَ المؤلف الأشاعرة والماتريدية بأنهم هم أهل السنة والجماعة، وهذا خطأ بيِّن وتلبيس ظاهر، فإن أهل السنة والجماعة لهم اعتقادهم الواضح، ومنهجهم المستقيم الذي خالفهم فيه هؤلاء الخلف من الأشاعرة والماتريدية .
والحق أن الانتساب إلى أهل السنة والجماعة لا يتحقق بمجرد التسمي باسمهم، بل لا بد من الاتباع الكامل لمنهجهم، والعمل بقواعدهم التي يسيرون عليها، ويعملون بها، ويتميزون بها عمن عداهم مـن أهل الأهواء والبدع .
فأهم ما يتميز به أهل السنة والجماعة :
أولاً : أنهم يقدمون النقل على العقل .
وهذا أصل مهم يُميز أهل السنة والجماعة، فهم يعتقدون بأن النقل الصحيح لا يمكن أن يعارض العقل الصريح، لأن الذي خلق العقل هو الذي أرسل إليه النقل، ومن المحال أن يرسل إليه ما يفسده .
وإذا قصر عقل أحدهم عن فهم النص الصحيح اتهم عقله وفهمه دون التعرض لنص بتحريف ولا تعطيل .
فالشرع عندهم هو الأصل، والعقل تابع له، خادم لنصوصه ليس مقدماً عليها .
وهذا الأصل العظيم لا تعمل به فرقة الأشاعرة والماتريدية، بل هم على عكس ذلك، يقدمون العقل على النقل، فالعقل عندهم هو الأصل والنقل تابع له .
ثانياً : أنهم لا يؤلون بغير دليل .
والمقصود بالتأويل هنا المعنى الذي درج عليه المتأخرون، وهو: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح، فإنْ كان بدليل يقترن به فهو مقبول، وهذا ما يستعمله أهل السنة والجماعة وسلفنا الصالح - رضوان الله عليهم أجمعين -، وإن كان مِن غير دليل فهو مردود مذموم، وهذا النوع - أعني التأويل بغير دليل - هو الذي يستعمله الخلف من الأشاعرة والماتريدية وأضرابُهم من أهل الكلام، حيث جعلوا العقل حكماً على النقل، بحيث إنهم إنْ جاءهم نصٌ صحيح، وقصرت عقولهم السقيمة عن فهمه أوَّلوه وصرفوه عن ظاهره بغير دليل شرعي، حتى قال قائلهم، كما في جوهرة التوحـيد :
وكل نص أوهم التشبيهـا أوِّله أو فوِّض وَرُم تنزيها
ثالثاً : أنهم لا يفرِّقون بين ما جاء به الكتاب وما جـاء بـه السـنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهم يُصدِّقون خبر الله، وينفذون أمره، سواء كان ذلك في كتاب أو سنة .
فإن السنة الصحيحة في العقائد كالقرآن تماماً عند أهل السنة والجماعة، يُثبتون بها أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، كما يثبتون بها حميع الأحكام الشرعية .
أما الأشاعرة والماتريدية وغيرهم من أهل الكلام فليسوا على ذلك، بل هم يُنكرون ويَرُّدون كثيراً من السنة النبوية الثابتة الصحيحة بدعوى أنها تناقض النصوص القرآنية، ولو سلكوا مسلك أهل السنة والجماعة - في الجمع بين النصوص التي ظاهرها التعارض - لَمَا وجدوا تعارضاً قط، قال تعالى:{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} النساء: ٨٢ .فلما خالف هؤلاء ما عليه أهل السنة والجماعة في هذه الأصول وغيرها، امتنع أن يُطلق عليهم بعد ذلك : أهل السنة والجماعة ؟!
وكما قيل:كلٌ يدَّعي وصلاً بليلى وليلى لا تُقرُّ لهم بذاكا
المؤلف يزعم أنَّ مذهب السلف هو نَفْي الكيفية عن ذات الله وصفاته سبحانه وتعالى
من المعلوم - عند كل ذي علم وفهم - أنَّ ما عليه السلف في ذات الله وأسمائه وصفاته، هو إثبات كيفية حقيقية معلومة لله سبحانه وتعالى، مجهولة لنا لا نعلمها .
ولكن المؤلف قصُر فهمه عن إدراك ذلك، فَفَهِمَ عكسه .
قال ص 32 :
(( قولهم _أي السلف_: بلا كيفية يفيد نفي الكيفية عن الله تعالى وعن صفاته العلى، فالله سبحانه وتعالى لا كيف لذاته العلية، ولا كيف لصفاته العلى، كما دل عليه خبر البيهقي السالف، ويضاف إليه ما ذكره الذهبي عن ربيعة بن عبد الله العجلي في تاريخه : حدثني أبي قال : قال ربيعة : وسُئل كيف استوى؟ قال : الكيف غير معقول، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق )) .
ثم ذكر المؤلف بعد ذلك قول أم سلمة رضي الله عنها: (( الاستواء غيـر مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر)).
وذكر قول أبي داود الطيالسي : (( كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدُّون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث ولا يقولون: كيف، وإذا سُئلوا أجابوا بالأثر )) .
قلت:
فيما ذكره المؤلف دليل على إثبات كيفية غير معلومة لنا، لا على نَفْي الكيفية، ويُدْرَك ذلك من قول ربيعة وأم سلمة : الاستواء غير مجهول، أي : معلوم المعنى، والكيف غير معقول، أي : غير معقول لنا، وإنْ كان معلوماً لله عز وجل، وإلا فيستحيل أنْ يُفهم من قولهم: غير معقول، أنه غير معلوم لله عز وجل، إذاً فمعنى قولهم : غير معقول، أي : غير معلوم ولا معقول لنا، ولو كانوا يريدون نفْي الكيفية لقالوا : الكيف غير موجود. وهذا واضح والحمد لله .
وأيضاً فإن كلام أبي داود الطيالسي يدل على إثبات كيفـية لذات الله عز وجل وصفاته، لا نعلمها، ويُعلم ذلك من قوله : ( وإذا سُئلوا أجابوا بالأثر ) .
أي أنهم إذا سُئلوا، هل ربنا جل وعلا سميع بصير؟، قالوا : نعم، قال تعالى : {وهو السميع البصير}.
وإذا سُئلوا، هل ربنا جل وعلا عليم حكيم؟، قالوا : نعم، قال تعالى :{ان الله كان عليما حكيما}. وإذا سُئلوا، هل نُثبت لله سبحانه وتعالى صفة اليد؟، قالوا : نعم، قال تعالى :{بل يداه مبسوطتان} المائدة: ٦٤ .
وإذا سُئلوا، هل ربنا جل وعلا مُستو على عرشه؟، قالوا : نعم، قال تعالى: {هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} الحديد: ٤ .
فهذا معنى ( وإذا سُئلوا أجابوا بالأثر ).
ومن المعلوم أن عدم العلم بكيفية الشيء لا يَعنى انعدامه أو عدم وجوده، فكم من مخلوق لا نعلم كيفيته، والجميع مُقِّرون بوجوده؛ فالروح التي بين جنبينا لا يعلم أحد كيفيتها، والجميع مُقرِّون بوجودها، وكذلك فإن عالم الملائكة لا نعلم كيفيته، ومع ذلك فإننا مُقرِّون بوجوده. ولله المثل الأعلى .
فإنْ كان هذا جائز في حق المخلوق، فجوازه في حق الخالق من باب أولى .
ثم ذكر المؤلف قول الإمام الترمذي في سننه: "وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث - حديث الصدقة - وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا : قد ثبتت الروايات في هذا، ويؤمن بها ولا يتوهم ولا يقال: كيف، هكذا رُوى عن مالك وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك، أنهم قالوا في هذه الأحاديث : أمروها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة.1هـ.
قلت :
نقل المؤلف من كلام أئمة السلف ما يخالف مذهبه الخلفي، ويؤيد مذهب ابن تيمية السلفي، ويتبين هذا من قول الترمذي : (( وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا : قد ثبتت الروايات في هذا، ويؤمن بها ولا يتوهم ولا يقال: كيف )) .
فقوله : (( قد ثبتت الروايات في هذا ويؤمن بها )) نص صريح في الإيمان بما جاء في الروايات الثابتة، ومعنى الإيمان بها، أي : إثبات ما فيها، وهذا ما يفهمه العقلاء، وإلا فإنَّ عاقلاً لا يقول : معنى الإيمان بها نفي ما فيها!.
هذا؛ وقد قام المؤلف بِبَتْر كلام الأئمة، ولو ذكره كاملاً لكان أبين وأوضح، وأنا بدوري سأقوم بذكره.
قال الإمام الترمذي رحمه الله بعد قوله : (( وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة )) قال : (( وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا : هذا تشبيه، وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه : اليد، والسمع، والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسَّر أهل العلم، وقالوا : إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا : إن معنى اليد ها هنا القوة، وقال إسحاق بن إبراهيم : إنما يكون التشبيه إذا قال : يد كيد أو مثل يد، او سمع كسمع أو مثل سمع، فإذا قال : سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال الله تعالى : يد وسمع وبصر، ولا يقول : كيف، ولا يقول مثل سمع ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيهاً، وهو كما قال الله تعالى في كتابه : {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير })).1هـ.
قلت :
وهذا الذي نُقل عن الأئمة رحمهم الله هو عين كلام ابن تيمية رحمه الله.
قال شيخ الإسلام رحمه الله (( مجموع الفتاوى )) 3/200 :
(( فالقول في صفاته كالقول في ذاته، واللّه تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، لكن يفهم من ذلك أن نسبة هذه الصفة إلى موصوفها كنسبة هذه الصفة إلى موصوفها، فعلم اللّه وكلامه ونزوله واستواؤه، هو كما يناسب ذاته ويليق بها، كما أن صفة العبد هي كما تناسب ذاته وتليق بها، ونسبة صفاته إلى ذاته كنسبة صفات العبد إلى ذاته؛ ولهذا قال بعضهم : إذا قال لك السائل : كيف ينزل، أو كيف استوى، أو كيف يعلم، أو كيف يتكلم ويقدر ويخلق ؟ فقل له : كيف هو في نفسه ؟ فإذا قال : أنا لا أعلم كيفية ذاته؛ فقل له : وأنا لا أعلم كيفية صفاته، فإن العلم بكيفية الصفة يتبع العلم بكيفية الموصوف )).1هـ.
فهذا نص كلام ابن تيمية وهو عين كلام الأئمة لا يخالفه حبة خردل.
نكتفي بهذا القدر، ونكمل في الحلقة القادمة ان شاء الله.وصل اللهم على محمد وآله وصحبه وسلم