الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، القائل فيما صح عنه "لتتبعن سنن من كانوا قبلكم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب دخلتموه"،
أما بعد، فالأمر الذي دعاني لكتابة هذه الرسالة، أني رأيت بدعة "التطور الموجه" هذه قد صارت يروج لها اليوم على بعض الفضائيات ترويجا غير مسبوق، وقد كان المسلمون منها في عافية ولا حول ولا قوة إلا بالله. وثمة رجل بعينه (وهو طبيب له كتب ومؤلفات يدعى "عمرو شريف") أصبح يقدَّم ويصدر للناس في تلك الفضائيات وتقدم كتبه ومؤلفاته على أنه عالم علامة كبير .. الخ، يدين بتلك الضلالة الداروينية ويعتقدها اعتقادا راسخا، وهو ماض في تزيينها للعامة، وتلبيسها لبوس العلم وزعم اتفاقها مع الشرع والدين، بل أنها هي تأويل قوله تعالى ((فانظروا كيف بدأ الخلق))، وإذا بنا نفاجأ بمسلمين يعتقدون صحة نظرية داروين اعتقادا تاما، يتبعون ذلك الرجل ومن وافقه، ويرون – في غمرة افتتانهم بما اتفقت عليه الأكاديميات العلمية الغربية المعاصرة، لمجرد أنها اتفقت عليه - أن موقفهم هذا هو الموقف الوسط الذي لا يستجلب نفور الغربيين منا وتهكمهم علينا، وأن "العلم" (هكذا) يمليه علينا، وأن الاعتقاد بصحة نظرية داروين (إجمالا) اعتقاد صحيح لأنه لا ينبغي أن يكون ثمة تعارض بين "العلم" و"الدين"، يدندن الرجل وأتباعه بهذا الكلام ونحوه في كل مناسبة وكأن الدين هذا ليس علما عندنا، وليست أدلته وبراهينه الشرعية بالتي ترقى أصلا لمخالفة إجماعات الطبيعيين المزعومة! فما دام الرجل الأبيض قد قال كلمته، وقرر أن هذه المسألة حق مقطوع محسوم، وأن "التطور" (هكذا) حقيقة مثلما أن الجاذبية حقيقة، لم يعد لأحد من البشر أن يعترض أصلا، وإلا اتهمَنا الرجل الأبيض بالتخلف والانحطاط، وإذن لفسد علينا ديننا ودنيانا، وصرنا نحن والقردة والخنازير سواء!! فإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
هذا الطبيب المذكور إلى الآن لم يجد – بكل أسف – من يردعه حق الردع، ويوقفه عند حده، ويعلمه قدره في ميزان الشريعة بل وفي ميزان الفلسفة والعلوم العقلية، من غير أن يتردد في مخاطبته بما هو أهله! فإلى الآن لم أر من يخاطبه أو يرد عليه على أنه إمام بدعة وضلالة (مع ما رأيناه له من تابع من الجهلاء آخذ في النمو والانتشار)، وإنما يرد عليه بعض الإخوة باعتباره عالما ذا فضل ومنزلة .. الخ، مع أن جماهير العوام التي خاطبها الرجل عبر الفضائيات لم تكن لها به سابق معرفة أصلا قبل أن يطل عليهم عبر تلك الفضائيات، وقبل أن يقدمه لهم رجل كان معدودا من حماة الثغر والساهرين عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فسبحان الله لا أدري كيف تستقيم موازين بعض الأفاضل ومقاييسهم، نعوذ بالله من زوال قدم بعد ثبوتها ومن سوء المنقلب والمآل.
مقدمة لابد منها: لماذا نرفض نظرية داروين (نظرية التطور) جملة وتفصيلا؟
ألا فليعلم القارئ المحترم في الابتداء أن القول في مسألة خلق السماوات والأرض وخلق الحياة على الأرض، قول في مسألة غيبية مطلقة التغييب، وأنها لذلك من مسائل العقيدة التي لا نكتفي فيها بأن نقول كما يقول بعض الأفاضل إنها لا يقدم فيها أي مرجع معرفي فوق الخبر الغيبي من الكتاب والسنة بفهم الصحابة والتابعين (لا بتأويلات الجهلاء المفتونين)، بل نقول إنها لا يصح أن يقبل فيها مرجع معرفي سوى هذا أصلا! والسبب الذي نرفض من أجله نظرية داروين سبب فلسفي (إبستمولوجي) وعقدي محض، وليس سببا علميا أو تجريبيا أو نحو ذلك (كما ترى في ردود طائفة "الخلقيين" عليهم). (1)
ذلك أن أحداث الخلق الأول (خلق السماوات والأرض وما فيهما) يقينا لم تكن مما يقاس على ما يجري الآن في الكون من أحداث، من حيث النوع والكيفية (كأحداث متتابعة انتهت بتمام صنع الكون وما فيه)، فلا يعقل أن تكون تلك الأحداث حوادث "طبيعية" على اصطلاح الطبيعيين، لأنها تلك الأحداث التي أنشئ (وليس "نشأ") بها هذا النظام الذي يقال له "الطبيعة" نفسه وبها أسسه خالقه تأسيسا! وهذا محل مفارقة كبيرة بيننا وبين الماديين الملاحدة في الأساس الإبستمولوجي لتناول تلك القضية، يجعلنا نقرر أنه ليس من الجائز ولا من المقبول في العقل المجرد أن تستعمل طرائق البحث الطبيعي ومسلماته الفلسفية الكلية (كقاعدة الاستمرارية أو الثابتية uniformity التي تعد من أركان العلم الطبيعي) في الوصول إلى تحصيل المعرفة بشيء من تلك الأحداث الميتافزيقية المحضة! تماما كما أنه لا يصح أن تقاس الأحداث التي صنعت بها السيارة – مثلا – على شيء مما تحدثه تلك السيارة نفسها من أحداث، أو ما يجري عليها بعد صناعتها من أحداث أو ما يقع بها من تغيرات في أحوالها وما تتركب منه، على أساس من افتراض أن تلك الأحداث والتغيرات الجارية عليها لابد وأنها قد استمرت هكذا كما نراها الآن إلى الماضي البعيد، بما يوصلنا إلى معرفة كيف "نشأت" تلك السيارة نفسها في الماضي! هذا خلل عقلي عظيم، أرجو أن يكون هذا المثال قد قربه إلى ذهن القارئ. وهو خلل مرجعه إلى الأساس الإلحادي الذي تقوم عليه الفلسفة الطبيعية المعاصرة فيما يتعلق بالماورائيات، وهي قضية دقيقة قد أطلت النفس في شرحها في كتاب جديد يوشك أن يصدر مطبوعا إن شاء الله تعالى بعنوان "آلة الموحدين لكشف خرافات الطبيعيين"، ولكن يكفي في هذا المقام أن نقرر أن السلطان المعرفي الاستدلالي الوحيد المقبول في معرفة أي شيء من تفاصيل وأحداث خلق السماوات والأرض وما فيهما، إنما هو الخبر المباشر في الوحي من الخالق نفسه، سبحانه وتعالى، فما جاء به الخبر من قصة الخلق وتفصيله قبلناه وحمدنا الله عليه، وما لم يأت به الخبر سكتنا عن طلبه وفوضنا فيه العلم له سبحانه.
ثم إن الله تعالى يقول: ((إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ)) [يونس : 3] فمن مفهوم هذه الآية الكريمة أن قوانين السماوات والأرض (قوانين الطبيعة التي نراها تجري عليها اليوم، ولا ندري للطبيعة قوانين غيرها) إنما بدأت عملها في الكون بعد أن استوى الملك جل وعلا على العرش، وأخذ في تدبير الأمر، لا قبل ذلك، فتلك السنن والنواميس الكونية الجارية أمامنا اليوم كلها جزء من ذلك الأمر المذكور في الآية فيما يظهر للمتأمل. فبأي شيء سوى تلك القوانين الطبيعية نفسها، يزعم هؤلاء أنهم قد حصَّلوا المعرفة بأحداث خلق النظام نفسه الذي تجري فيه وعليه تلك السنن والقوانين! هذا في الحقيقة من علامات التشبع بفلسفة الماديين في تناولهم قضايا "النشأة" الأولى تناولا "طبيعيا"، وقد وفينا هذه المسألة حقها – فيما نرجو – في كتابنا الجديد "آلة الموحدين لكشف خرافات الطبيعيين"، ولله الحمد والمنة.
هذا يعني – كما أرجو أنه لا يخفى الآن على القارئ الفطن – أن نزاعنا مع أصحاب نظرية داروين ليس في الحقيقة نزاعا منعزلا في قبول أو رد هذه النظرية بعينها وحسب، ولكنه نزاع عميق الغور ينزل إلى الأسس الفلسفية الكلية التي تقوم عليها تلك النظرية نفسها وسائر ما يدخل في بابها عند الطبيعيين.
ثم إلى جانب المبدإ الاستمراري المطرد في فلسفة الطبيعيات المعاصرة، وتلك المغالطة الفلسفية الكبرى في إعماله للوصول لمعرفة أحداث خلق النظام نفسه (التي ما استجازوها إلا لإلحادهم وماديتهم فيما يتعلق بالموارائيات، ونفيهم فكرة الخالقية والتعليل الغيبي كما بينت ذلك وتوسعت فيه في الكتاب المذكور)، فإن نظرية داروين تقوم كذلك على ما يمكن تسميته بمبدإ الفوضى المنظمة Uniform Chaos، بمعنى سلسلة من حوادث العشواء المؤطرة بنظام عام مطرد. والسبب في قيام النظرية على ذلك المبدإ أن صاحبها (داروين) كان حريصا على اختراع "آلية" مطردة يفسر بها نشأة الأنواع كلها (2)، من غير أن يكون من وراء تلك الآلية أي عامل سببي ميتافزيقي من أي نوع. فلم يجد الرجل أمامه إلا أن يدعي الفوضى والعشواء و"الصدفة" أصلا أصيلا في تلك "النشأة"، يلبسها لبوس النظام المطرد المستقر في العالم، حتى يبدو الأمر كما صوره تلميذه المعاصر دوكينز وكأنه تراكم للصدف المتتابعة أو (على حد تصويره): "صعود متدرج لجبل الاحتمالية الضعيفة" (على أساس مغالطة أخرى مفادها أن نشأة الحياة من غير خالق = أمر ضعيف الاحتمال وليس محالا في العقل، وقد بسطنا الجواب عن تلك المغالطة بحول الله تعالى في غير موضع).
هذا الأصل الكلي الذي تقوم عليه النظرية، لا يمكن لعاقل أن يقبلها من غير أن يقبله معها ضرورة. ذلك أن داروين لم يقل "بالتطور" كطريق لظهور الأنواع بعضها من بعض، إلا بعدما وضع تلك "الآلية" الجديدة لنظريته تأسيسا على هذا الأصل، وهي تتمثل في فكرتين كليتين:
- الطفرة العشوائية (وهي ذلك الظهور العشوائي المزعوم لجينات جديدة تضيف خصائص وصفات جديدة للحوض الجيني لهذا النوع أو ذاك)
- الانتخاب الطبيعي (وهو بقاء تلك الأنواع التي يُتفق بالصدفة المحضة أن تكون قد حظيت بإضافة جينية من الطفرات العشوائية تؤهلها لأن تتكيف مع الطبيعة ولا تهلك كما هلك غيرها من الأنواع)
تأسيسا على هاتين الفكرتين، تأسس المبدأ الثالث في النظرية عند داروين، ألا وهو القول "بالأصل الموحد" لجميع الأنواع. فبإعمال مبدإ الاستمرارية أو الثابتية الطبيعية uniformity على القول بأن الطفرات الجينية العشوائية هذه تضيف إلى الأنواع وتزيدها تعقيدا باطراد ولابد (سواء بزيادة أعضاء جديدة لم تكن موجودة فيها من قبل، أو بزيادة تعقيد النظام الحيوي نفسه للنوع)، استنتج الرجل أن الأنواع كلها لابد وأنها قد كان لها أصل واحد شديد "البساطة" في تركيبه! فوجد نفسه محمولا على تصنيف المخلوقات كلها إلى درجات وطبقات في "البساطة" العضوية Simplicity و"التعقيد" Complexity، حتى يجعل الأبسط منها هو الأقدم ظهورا في ذلك التاريخ العبثي الطويل الذي تصوره. فلما نظر حوله ولم يجد مخلوقا "أبسط" من الكائن أحادي الخلية (بمفهومه هو الفاسد للبساطة، وقد تكلمنا في فساد ذلك المفهوم طويلا في كتاب "نسف أساسات الإلحاد، المجلد الأول" فلينظر في موضعه)، جعله هو "الأصل" الموحد الذي منه تشعبت سائر الأنواع وتدرجت في تعقيدها بناء على آلية الطفرات والانتخاب هذه.
من هنا أصبح هذا التدرج المزعوم للأنواع من "الأبسط" إلى "الأعقد" يعرف باسم التطور أو الارتقاء. فمن سلَّم بأن "ارتقاءً" أو "تطورا" في الكائنات قد وقع تحقيقا في تاريخ الحياة، فهو مضطر لا محالة للتسليم بالأصول التي قام عليها القول بذلك التطور المزعوم عند صاحبه، وبذلك التصنيف الفاسد للكائنات ما بين "بسيط" و"معقد"، واعتبار أن هذا "البسيط" = بدائي ومتخلف فيما يظهر فيه من "تصميم" موهوم، بالمقارنة بما هو "أعقد" منه، فإن هذا هو معنى التطور أو الارتقاء Evolution في اصطلاح النظرية، ولا معنى لها سواه! هذه الأصول كلها مدارها حول تلك "العشوائية المنظمة" التي أشرنا إليها آنفا. وهي فاسدة بالعقل المجرد لأنها لا يمكن أن يتعامل معها العقلاء إلا على أحد وجهين كلاهما باطل:
- افتراض أن المقصود بالعشواء هنا أن نظاما قد وُضع من الخارج ليحكمها بحيث يأتي منه تعريف ما هو مقبول وما ليس بمقبول من تلك الإضافات "العشوائية" حتى يبقى ويترتب عليه ما بعده من خطوات نمو تلك "الشجرة" المزعومة، مع التوقف في جواب السؤال: فمن أين جاء هذا النظام نفسه بالأساس. (دعنا نسمي هذه الفكرة بالخالق الأعمى، أو "صانع الساعات الأعمى"، إذ حقيقتها إثبات خالق ناقص عاجز)
- افتراض أن المقصود بالعشواء هنا هو أن نظامها المتدرج هذا لم يوضع من الخارج أصلا ولم يضبطه ضابط خارجي، وإنما نشأ من تلقاء نفسه فكان حاكما على سائر الأحداث العشوائية التي جرت تحته. (ودعنا نسمي هذه الفكرة "معلومات لا سبب ولا مصدر لنظامها"، إذ حقيقتها نفي السببية والتعليل)
يتبع ..........