فتح الكريم الأعلى في نقد ما يقال له "النقد الأعلى":
مغالطات الماديين في فلسفة التاريخ وفي التعامل مع نصوص الإسلام.
الحمد لله وحده، أما بعد،
فمن أعجب العجب ما يقع عليه المرؤ بين الفينة والأخرى من محاولات متهافتة من قبل قرود الإلحاد المعاصرين لإطفاء نور الشمس، ولاستغفال أولي الأهواء من بني آدم بما يأتي على هواهم بدعوى التحقيق العلمي والبحث "المتجرد للحق"، ونحو ذلك من شعارات يحسنها كل أحد! فوالله لولا أني وقفت بنفسي في يوم من الأيام على كلام من ينكر وجود من خلقه وخلق هذا العالم من حوله ما صدقت أن توجد مقالة كهذه في الأرض أصلا! ومن نفس هذه البابة أقول: لولا أني وقفت على كلام من يزعمون أن محمدا بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم خرافة لا وجود لها في التاريخ على الحقيقة، ما صدقت أن يوجد من يزعم زعما كهذا! ولكن هكذا سنة الله جل وعلا في خلقه، سنة كونية ماضية لا تبديل لخلق الله. فكل من ابتلي في يوم من الأيام بمطالعة مؤلفات الفلاسفة من شتى الملل والنحل، لا يملك إلا أن يقف في وجل بإزاء عظمة الخالق جل وعلا، الذي خلق البشر ليبتليهم بالغيب، فجعل – من كمال حكمته سبحانه - في نفوسهم ما به قد يبلغ الواحد منهم أن يجترئ على استحسان نفي وجود الشمس في كبد السماء، والتكذيب بوجوده هو نفسه أو وجود هذا العالم من حوله، أو وجود غيره من البشر أولي العقول والألباب! فالذي وقف على مثل هذا، ورأى كيف أنه ما من خرافة أو أكذوبة أو قول ساقط ممجوج يتصوره العقل البشري إلا وقد صار قولا بل أقوالا ومذاهب ومدارس لها أساتذتها ومصنفوها وروادها في "الفكر الفلسفي" العالمي، من وقف على هذا التيه المبين وسبر غوره وخبر مبلغه، لا يجد والله إلا أن يثني ركبتيه حمدا لله تبارك وتعالى الذي قال في محكم القرءان: ((ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها)) (الشمس 7-8)، يحمده آناء الليل وأطراف النهار على أن ألهمه الرضى بالإسلام دينا، ثم يضرع إليه يسأله الثبات على دينه حتى يلقاه. فكم من حقيقة لا يتصور عاقل أن ينفيها أو يخالف فيها أحد من البشر، قد وجد في هذه الأرض تحقيقا من ينكرها ويحارب من أجل إبطالها وإزالتها من قلوب الناس! فوالله إنه لفي عافية ونعمة لا يدرك قيمتها أكثر الناس، هذا الذي منّ الله عليه بالبراءة من الهوى والتجرد للحق بحق، وإعلان التسليم بصحة ما شهدت نفسه وشهد عقله بأنه هو الحق الذي لا مرية فيه ولا ارتياب!
لقد شهد العقلاء جميعا والفلاسفة والنفسانيون وأهل الأخلاق بأن تحصيل المعرفة بالشيء والدراية بدليله وبرهانه شيء، والإقرار بأنه الحق وقبوله (واعتناقه كمعرفة فردية واعتقاد شخصي) ثم الرضا بالعمل بمقتضاه أيا ما كان ذلك المقتضى = شيء آخر بالكلية! وكم من إنسان تمر به حجة الحق الظاهرة المرة بعد المرة ولكنه يأبى إلا أن يتغافلها ويوليها دبره، لا لأنها لا يقوم بها البرهان العقلي الكافي في نظره وفي علمه، ولكن لأنه يكره التسليم بصحتها، ويكره ما يترتب على ثبوتها في حياته هو من تبعات ومقتضيات! فيظل يفني من عمره السنوات الطوال في تلمس دعاوى كل جاحد لها من أمثاله (وهو واجد من بين الفلاسفة والمفكرين من يوافقه في ذلك لا محالة!)، فتراه يجمع "الشبهات" (وكل دليل باطل ظاهر البطلان فليس هو بدليل أصلا وإنما هو شبهة اصطلاحا) بعضها إلى بعض حتى إذا ما حوجج، رمى بها في وجه مخالفيه في سلة واحدة وقال هذه أدلتي على بطلان ما تزعمون!
وكثيرا ما يكون الباطل من الضخامة والفحش بحيث لا يدري العاقل من أين يبدأ في الرد عليه! وأنا والله ما كنت أتصور ولا أود أن أبذل من وقتي ما أضع فيه مقالا كهذا، أرد فيه على قوم بلغ بهم الجحود والغرور أن زعموا أن رجلا اسمه محمد بن عبد الله لم يولد ولم يخلق أصلا!! ما كنت أحب ولا أرجو أن يأتي علي يوم أجد شطرا من إنتاجي العلمي موضوعا في الرد على قوم لا عقل لهم أصلا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولكن هؤلاء الذين لا عقل لهم، يشاء العلي القدير فيما كتبه على الناس من بلاء في هذا الزمان، أن يكون لهم شأن في البلاد كبير، وتابع في الأرض وفير، وأن يكون لهم كتب ومؤلفات وأن تغزو تلك المؤلفات بلاد المسلمين، فيتلقفها أولو الأهواء من المنافقين والزنادقة المنغرسين بين أظهر المسلمين، فتعظم وتروج ويصبح لأصحابها شأن ومنزلة، ويثار بها الغبار والرماد في أعين العوام والجهلاء من المسلمين، حتى يعان الشيطان على الموتورين منهم، وإذا بنا ننادي على طلبة العلم والعلماء المتخصصين في أرفع العلوم وأرقاها على ظهر الأرض قاطبة (علوم الشريعة والدين الحق) أن يتركوا معالى البحث والمعرفة التي هم مشتغلون بها، وينزلوا إلى تلك الأوحال والمستنقعات الفكرية العفنة، ليكتبوا ما ترجى منه صيانة العامة والجهلاء من زبالة أولئك المتهوكين السفهاء، فإن لم يفعلوا، تكن فتنة في الأرض وفساد عظيم!
ولقد وجدت – بكل أسف - شيئا من الرواج لهذه الدعوى التافهة (دعوى أن محمد بن عبد الله شخصية وهمية لم توجد في الحقيقة) بين فئات من أهل الإلحاد من بني جدلتنا، ولا أعجب من ذلك والله! فالذي ارتضي لنفسه التكذيب بعلة وجود نفسه وسببه الأول، لا يُستغرب منه التعلق بأي مقالة بعدئذ مهما كانت ساقطة واهية، إذ قد ثبت عليه – يقينا – التلبس بأفحش درجات الهوى والتكذيب بالجليات الواضحات على أي حال، ألا وهي مقالة الإلحاد نفسها، فهل بعد الإلحاد نفسه من عقيدة تعلوه أو تعدله في السفه والتهافت، وفي ضخامة وعظم ما تكذب به وتنفيه، حتى يستغرَب من أصحابه اعتناقها؟ كلا والله! ولهذا لا نعجب إذا رأينا من السفهاء من لا يكتفي بدعوى أن الدين الذي جاء به محمد فيه كذا وكذا مما لا يعجبهم ولا يأتي على هواهم (وإذن فهو لا-أخلاقي ولا يناسبهم ولا حاجة لهم فيه)، أو بدعوى أن محمدا كذاب وما تلقى وحيا ولا شيء من ذلك، بل يارتضي لنفسه النزول إلى دركة أخرى من دركات الانحطاط الفكري والمعرفي، حتى يقول بمقالة متهافتة جاء بها بعضهم مفادها أن محمدا هذا لم يولد أصلا، وإنما هو شخصية أسطورية اخترعها العرب ليجمعوا الناس عليها!
سنستوي بحول الله وقوته في هذا المقال الموجز لسحق تلك الدعوى التافهة وبيان وهائها بما فيه الكفاية، والله أسأل أن يعافي المسلمين من تسليم آذانهم لكل ناعق في زمان أصبح فيه من يقول لعامة الناس لا تسمعوا لهذا وذاك = مذموما متهما في عقله وعلمه لمجرد ذلك، وإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن دعوى هؤلاء السفهاء (وهم شرذمة قليلة من الباحثين الغربيين المعاصرين المتخصصين في تاريخ بلاد الشرق الأوسط) (1) بأن محمدا لم يولد ولم يوجد في التاريخ (ومثل هذه الدعوى قد قيل في غيره من النبيين من قبله المذكورين في القرءان وفي كتب أهل الكتاب من قبلنا)، تقوم عندهم بإجمال على ركيزتين أساسيتين:
- قولهم بأن البقايا الأركيولوجية والحفائر ونحوها، وكذا الوثائق المادية المتوارثة من تلك الفترة (القرن السابع الميلادي) في جزيرة العرب وما حولها، لا أثر فيها لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا لكثير مما تحكيه كتب السير والسنن من خبره، بل ليس فيها أن العرب كانوا قبل الإسلام وثنيين كما هو منصوص في القرءان!
- قولهم بأن المؤرخين من غير المسلمين لم يأت في تراثهم ما يعضد القول بوجود محمد (فيما يسمونه بالتأكيد الخارجي Outside Confirmation)، فلا يجد الباحث إلا المصادر الإسلامية وحدها حتى يتعرف على تلك الشخصية التاريخية، ومن ثمّ فلا عبرة بتواتر أخباره عند المسلمين أصلا مهما تواترت، إذ هو في ذلك – بزعمهم – كأي تواتر يقع في أي أمة من الأمم في توارثهم حول خرافة من الخرافات أو دعوى تاريخية باطلة لا حقيقة لها.
وكثيرا ما ترى هاتين الشبهتين ينضم إليهما دعاوى المنصرين وبعض المستشرقين بشأن القرءان وأنه كتاب بشري مصنوع من وحي ما في كتب أهل الكتاب، في عصر لاحق متأخر عن تلك الفترة التي "يزعم" المسلمون أن محمدا قد عاش ومات فيها، وذلك لزيادة التأثير العاطفي باستمالة من يرجونه منه الميلان. (2) فإن هذه الدعوى تخرج عندهم من نفس مخرج الدعوتين السالفتين وتحت نفس الراية "الأكاديمية" المرموقة: التحقيق الأكاديمي التاريخي Historical Scrutiny لبيان الحقيقة التاريخية من الدعوى التي لا تقوم على دليل. ولا شك أنه من السهولة بمكان أن يخرج كل صاحب عقيدة باطلة بدعاوى تاريخية يقابل بها ما تواتر عند مخالفيه من أهل الملل، ثم يدعي أن هذا من التدقيق الأكاديمي ومن تمييز الحقيقة عن الخرافة! ولهذا استحسن بعض غلاة الماديين من الغربيين إسقاط التاريخ نفسه كعلم أو كصنعة معرفية يمكن الاستناد إليها في تحقيق المعرفة بالماضي، وهذا ولا شك من إفراطهم، وهو قول لو التزموا لوازمه بتمامها لوجب عليهم أن يتركوا – كل واحد منهم – جميع المعارف الطبيعية والمادية التي لم تأته من طريق حسه ومشاهدته وتجريبه المباشر، وإنما نقل إليه خبرها في الكتب والمراجع! ولا يجاب عن ذلك الإلزام كما أجاب بعضهم بأن وجه تميز العلم التجريبي عن العلم التاريخي أن هذا الأول يأتيك بأخبار يمكنك في أي وقت أن تختبر صحتها بنفسك إن شئت بينما لا يمكن ذلك في الخبر التاريخي الذي يصور لنا واقعة حدثت وانقضت وليس تجربة يمكن تكرارها، فإن هذا يختزل صنوف الدليل والبرهان المعرفي في الدليل التجريبي والحسي وحده، وهي آفة النحلة الوضعية والطبيعية ونحوهما من فلسفات مادية كما هو معلوم.
وبعيدا عن هذا الاستطراد، ورجوعا لأصل ما نحن فيه، نقول إن زعم كل صاحب دعوى تاريخية استناده إلى دليل وبرهان تاريخي، وزعمه – بالمقابل – وهاء ما يستند عليه مخالفوه، لا يختلف عن زعم أي صاحب دعوى معرفية أن الدليل معه لا مع مخالفيه، والعبرة في النهاية بحقيقة هذا الذي يسميه "الفحص والتحقيق التاريخي"، وسلامة المنهج النظري المعرفي المتبع فيه. وهنا مربط الفرس وبيت القصيد.
إن هذه الشبهة تنزل بنا ضرورة إلى تعريف "الحقيقة التاريخية" (إبستميا وأصوليا) وما يريده بها القوم في كل مرة يطلقونها بشأن دعوى من الدعاوى التاريخية نفيا أو إثباتا! ما صفة "الدليل التاريخي" في تقدير هؤلاء، وما ميزانهم في المفاضلة بين ما يقال له عندهم "أدلة تاريخية"، وهل هذا المنهج الذي يتبعونه مقبول في العقل المجرد أم لا؟
إن العقيدة المادية التي يعتنقها هؤلاء تأبى أن تتركهم إلا وقد تشبع بها نظرهم في كل شيء، حتى في علم التاريخ نفسه! فنحن نقول إنه ليس في العقل ما يوجب أن يكون الدليل "الأركيولوجي" (أيا ما كان ذلك) مقدما بإطلاق على الدليل الخبري (أيا ما كان ذلك)، والعكس صحيح! بمعنى أن رواية الراوي قد تكون رواية صادق ضابط لا يَهِم ولا يختلط عليه الخبر عند نقله، فتقدم تلك الرواية على ما يحتمل من المكتشفات الأركيولوجية أن يفسر تفسيرا يخالفها، ولا يُعترض عليها بدعوى أن الأركيولوجيين لم يعثروا على أي حفائر أو مخلفات مادية تؤكد ما جاءت به من الخبر! وقد تكون الرواية كذبا ووهما، فيقدم عليها المكتشف الأركيولوجي المادي وإن كان عند أضعف درجات الاستدلال النظري فيما يفيده من المعرفة التاريخية! فلماذا نقدم رواية الصادق الضابط على ما قد تظهر منه مخالفته من المكتشفات الأركيولوجية؟ السبب في ذلك أن المكتشف الأركيولوجي ليس دليلا حسيا مباشرا كما يوهم كلام هؤلاء السفهاء، وإنما هو شيء مادي يستخرجه الباحث من مكانه حيثما وجده، ثم يذهب المذاهب في تفسيره وترجمته ووضع النظريات لتصور العلاقة بينه وبين غيره مما بين أيدي المؤرخين من وثائق وأدلة. فلا يتوقع الباحث الأركيولوجي في يوم من الأيام أن يكتشف في تنقيبه في الأرض – مثلا – شريطا من أشرطة الفيديو مسجلا عليه مشهد ذلك الحدث الذي يحاول بناء تصوره التاريخي بصورة صحيحة! وحتى لو تصورنا وقوع ذلك في يوم من الأيام، وتصورنا أن الحضارة التي ينتمي إليها ذلك الحدث كان فيها تلك التقنية، فسيظل السؤال مفتوحا: من صاحب هذا الشريط ولماذا صوره، ولماذا تركه ههنا، وهل هو تسجيل للواقعة نفسها أم هو تسجيل لواقعة مشابهة أو تمثيل لها أو نحو ذلك ... الخ.
والقصد أن ما يقال له "الدليل الأركيولوجي" هذا ليس هو ذاك الدليل الحاسم الذي يهنأ من عثر عليه بالحجة القاطعة للنزاع التاريخي (إن وجد ذلك النزاع وكان معتبرا في نفسه أصلا)! وإنما هو غاية مرام من لا يجد سواه، يستند عليه – إن وجده – في دراسة تاريخ أمة من الأمم الغابرة! فإن وُجد في تلك الأمة المبحوثة من المستند الخبري الموثق المعتمد ما يتحقق به المطلوب (وسنأتي لاحقا ببيان لميزان العقلاء في معرفة التوثيق الخبري المعتبر)، تحقق المطلوب، وكان من العبث المحض أن يسعى الواحد من هؤلاء في البحث في مخلفات تلك الأمة من قصاصات لوثائق بالية تركها بعضهم هنا وهناك، وأدوات ومباني وزخارف ونحو ذلك مما يشتغل به الأركيولوجيون، طلبا لمعرفة تاريخها!
ولهذا نقول لهؤلاء بكل قوة وحزم: أي "تحقيق أكاديمي تاريخي" هذا الذي جئتم تطالبوننا بقبوله منكم عندما يأتينا أحدكم بقوله إننا لم نجد في الحفائر التاريخية ما "يثبت" صحة ما جاء في القرءان وما زعمه المحدثون والمؤرخون عندكم في كتب السنن والسير والتراجم؟ أي هراء هذا؟
...... يتبع.