وعليه؛ فهذه لبنة جديدة في البناء الدعوي الذي نشتغل به، ترمي إلى الإسهام في العودة بالعمل الإسلامي إلى فطرته، وأصل طبيعته. ولذلك وسمنا الكتاب بمصطلح "الفطرية". وهي سيماء دالة على المقصود منه ابتداءً وانتهاءً. أخذا من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. متخذين لذلك منطلقاً من قوله تعالى: ((بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَن اَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ. فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا. لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ. ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ. وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.))(الروم:29-31).من "الحركة" إلى "الدعوة"
ولأن الفطرة راجعة – على الإجمال - إلى الطبيعة الأولى، وإلى الهيأة الأصلية التي كانت للأشياء قبل خضوعها للتغيير والتبديل، فإن الحاجة ملحة اليوم على العودة بالعمل الإسلامي إلى ذلك أيضا.
لقد أتى على العمل الإسلامي حين من الدهر وجد نفسه فيه يدور في حلقة مفرغة! بسبب الأزمة الحاصلة في تصوره ومنهاجه! وإن للقاموس الاصطلاحي والجهاز المفهومي الذي يشتغل به لدلالة على طبيعة تلك الأزمة، مما يمكن تشخيصه بالتحليل لأبرز مصطلح يتسم به. وعلى رأس ذلك مصطلح (الحركة) نفسه! الذي يحمل ما يحمل من الخلفيات غير الإسلامية؛ مما كان له الأثر البالغ على توجهات التنظيمات الإسلامية المعاصرة، وعلى ميزان أولوياتها. والألفاظ ليست بريئة من الخلفيات الحضارية والمذهبية، ولا استعمالها بالأمر الهين في أمور الثقافات والعلوم عموما، وفي أمور الدين بصفة خاصة! وقد أرشد الله الصحابة إلى التحري فيما يخاطبون به رسوله – عليه الصلاة والسلام - من الألفاظ والعبارات؛ لِمَا للاشتراك اللغوي الحاصل في بعضها بين الخير وبين الشر؛ رفعا لكل تلبيس وتدليس يقع من المنافقين! فقال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ!))(البقرة: 104).
وإنما فطرة العمل الإسلامي أنه "دعوة"، لا "حركة". وبين هذا وذاك فرق كبير! فمصطلح "الدعوة" لفظ قرآني أصيل، ومصطلح "الحركة" لفظ سياسي دخيل! ولذلك ما له من آثار كبيرة على مستوى المنهاج والتصور للعمل الإسلامي كما سترى بحول الله. وإنما سمى الله - جل وعلا - فعل تجديد الدين ووظيفة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" - في كتابه وسنة نبيه - "دعوة". وما كان ينبغي العدول عما سمى الله به مفاهيم الدين، إلى غيره من عبارات الْمُحْدَثِينَ! لأنه سبحانه أدرى بمراده من دينه. قال تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ!))(فصلت:33). وخاطب رسولَه - صلى الله عليه وسلم – في هذا الشأن فقال له: ((قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ))(يوسف: 108). وقال له أيضا: ((ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ))(النحل: 125).
وخاطب سبحانه هذه الأمة فقال: (( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ!))(آل عمران: 104-105) وقال سبحانه: ((وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ))(يونس: 25) وقال أيضا: ((وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ))(الحديد:8). ومثله أيضا: ((وَاللهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ!))(البقرة: 221). وغير هذا وذاك في القرآن كثير.
و"الدعوة" هو عين المصطلح المستعمل في البيانات النبوية باطراد تام، ويكفيك منها قوله صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ دَعَا إلى هُدَى كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئاً. وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئاً.))([1])
ثم ما استعمل السلف الصالح - بعد ذلك - غير مصطلح (دعوة الإسلام)، وهو التركيب الاصطلاحي المستعمل عند أهل الحديث كما في صحيح مسلم وغيره([2])، وكذا عند كُتَّابِ السيرة عموما، وعند علماء الفقه، خاصة في أبواب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر ضروب الإصلاح، سواء في دار الإسلام أو في دار الحرب، أو دار العهد. وهذه النصوص وغيرها دالة على أنه مصطلح عام في معنى تبليغ دعوة التوحيد، وأصل الدين الكلي، الذي هو مسمى "الإسلام"، وإيصاله لمن لم يبلغه أصلاً من الكفار. كما أنه مستعمل عندهم في الدلالة على الإصلاح الداخلي، والتجديد الديني لما انحرف من مفاهيم الدين وأحكامه في المجتمع الإسلامي أصالةً.
فتبين إذن أن مصطلح "الدعوة" جامع لكل المعاني المشروعة، التي يعبر عنها اليوم بمصطلح "الحركة"، كما أنه مانع من دخول كل الإحالات المنحرفة والدلالات المختلة، التي قد تتسرب إلى العمل الإسلامي مع التعبير الدخيل! إضافة إلى تميزه وتفرده بالمقاصد التعبدية التي يَقْصُرُ عنها لفظ "الحركة" ويضيق!
ونحسب أن مصطلح "الدعوة" قد ناله من التحريف المفهومي والتجزيء الدلالي؛ بحيث جعله مقصورا لدى كثير من المستعملين له اليوم، في الحقل الإسلامي الإصلاحي، على معنى "الوعظ" بمفهومه الخطابي ليس إلا! وهذه أزمة كثير من "الإسلاميين" إزاء المصطلحات القرآنية الرائجة في التداول الإسلامي المعاصر. ونحسب أن من مهام "الفطرية" إعادة الاعتبار لألفاظ القرآن الكريم، وللمصطلحات الشرعية عموما؛ بتجديد استعمالها بمفاهيمها الأصيلة، كما هي في الكتاب والسنة، لا كما هي جارية على ألسنة الناس! وكذا مواجهة القصف الإعلامي للعالم الإسلامي، الذي يرمي الأمة صباح مساء بالمصطلحات الإيديولوجية، المصنوعة في المختبرات الصهيونية! والصمود أمام زحفه الثقافي الشامل؛ وذلك بالعض على "كلمات الله" بالنواجذ، والتشبث بألفاظ القرآن الكريم، وبمفاهيمها الربانية ودلالاتها الإيمانية. ونحن نعلم أن دون ذلك ما دونه من المجاهدة بالقرآن، لفظاً ودلالة: (( فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً!))(الفرقان: 52).
إن مصطلح "الدعوة" هو التعبير الإلهي المنـزل وحياً؛ للدلالة على طبيعة الرسالة القرآنية في الأرض تأسيساً وتجديداً. بينما يبقى مصطلح "الحركة" تعبيراً وضعياً، مرتبطا بنسبيته التاريخية، وبمرجعيته المادية البشرية، التي لا روح فيها ولا رواء! وما أرى العدول عن كلمات الرحمن إلى عبارات الإنسان، في مجال ديني تعبدي محض، إلا ضربا من التحريف المفهومي لمقاصد القرآن!
وبيان ذلك أن مصطلح (حركة) في المجال الاجتماعي إنما هو ترجمة للفظ الأجنبي: ( mouvement). وهو تعبير منحدر من أدبيات علم الاجتماع السياسي. ظهر في أروبا في ظروف المظالم الاجتماعية والاختلالات الطبقية التي خلفتها الثورة الصناعية، خلال القرن الثامن عشر ثم التاسع عشر الميلاديين. وذلك عندما تغيرت طبيعة الاقتصاد الأروبي وحلت الآلة محل اليد العاملة، كما حلت المصانع الضخمة محل الصناعات اليدوية والنسوية المنـزلية، فأحدث ذلك تغيرات بنيوية على طبيعة المجتمع الأروبي، وتكونت تكتلات اجتماعية جديدة؛ للدفاع عن حقوقها والمطالبة بتحسين وضعيتها، كالنقابات العمالية، والحركات النسوية، ثم الحركات الطلابية، وغيرها.
ومن هنا جاء مصطلح "الحركة" دالا بالأساس على: تيار سياسي منظم فكريا وبشريا، يناضل من أجل فكرة محددة؛ لتغيير وضع معين بأساليب سياسية في الغالب، لكنها قد تتطور إلى أساليب عسكرية أو ثورية دموية! كما هو شأن الحركات الماركسية مثلا.
ولذلك فقد بقي المصطلح محملا بدلالات "مادية"، ومرجعية متأثرة إلى حد بعيد بنظرية "الصراع الطبقي"، أو "النـزاع الاجتماعي" كما سماه العالم الاجتماعي الدكتور عبد الهادي خلف، في دراسته الأكاديمية: ( المقاومة المدنية: مدارس العمل الجماهيري وأشكاله). يقول: ((يقوم تاريخ البشرية على مختلف أشكال النـزاع بين المجتمعات البشرية، وضمن كل منها. فالنـزاع بمعناه الاجتماعي العام: القَابِلَةُ التي يلد التاريخ على يدها ويتقدم!))([3]) حيث ((يتجه كل مجتمع بشري حالَ نشأته إلى الانقسام إلى مجموعات، تتفاوت قدراتها على الوصول إلى الموارد المتاحة لذلك المجتمع والاستفادة منها، بيد أن الأشكال البسيطة لذلك التفاوت الأولي سرعان ما تصبح أشكالا معقدة ومتشعبة المصادر والتأثيرات، كلما تطور ذلك المجتمع وبرزت مؤسساته، وتبلورت قيمه وثقافته، وأشكال وأساليب إعادة إنتاج علاقاته الاجتماعية. فمع هذا التطور يتكرس التفاوت الاجتماعي ويتخذ أشكالا أكثر صلابة ووضوحا!))([4]) ومن هنا ينشأ "النـزاع" أو "الصراع" من أجل السيطرة على الموارد الاقتصادية، حيث ((تتنافس فيه الفئات الاجتماعية على الاستفادة من الموارد المتاحة لمجتمعها، والاستحواذ عليها، ووسائل التحكم فيها!))([5])
وما مفهوم "الحركات الاجتماعية" على حد تعبير "تشارلز تلي" Charles Tilly" " سوى: ((سلسلة من التفاعلات بين أصحاب السلطة وأشخاص يُنَصِّبُونَ أنفسهم وباقتدار، كمتحدثين عن قاعدة شعبية تفتقد للتمثيل النيابي الرسمي. وفي هذا الإطار يقوم هؤلاء الأشخاص بتقديم مطالب على الملأ من أجل التغيير، سواء في توزيع أو في ممارسة السلطة، وتدعيم هذه المطالب بمظاهرات عامة للتأييد!))([6]).
ومن هنا فإن "الحركات الجماهيرية" قد نشأت في سياق مواجهة صور شتى من الاستبداد، من مثل: "الانقلابات العسكرية"، و"الأنظمة الديكتاتورية العسكرية"، أو "الديكتاتورية المطلقة"، و"الغزو أو الاحتلال الأجنبي"، و"الظلم الاجتماعي" بشتى صوره، الذي في ظله ظهرت "الحركات النسوية"، و"حركات مقاومة الميز العنصري"، و"حركات التحرر الوطني" في البلدان المستعمرة، و"حركات مواجهة الاستغلال الطبقي" في كثير من البلدان الصناعية([7]). إذْ ((عبر مثل هذه الحركات الجماهيرية يقدم التاريخ البشري المعاصر أمثلة بارزة على الإمكانيات الواسعة، التي يتيحها النضال الجماهيري، وخاصة حين تكون الجماهير ضعيفة، وفي مواجهة عدو مسلح، وقمعي، وقادر على البطش!))([8])
فـ"الحركة" بهذا المفهوم إذن؛ لا تخرج عن معنى كونها "مجموعة ضغط سياسي تحمل مجموعة من المطالب"، ليس إلا! وعلى ذلك أجمعت أغلب الدراسات والبحوث التي تناولت مفهوم "الحركات الاجتماعية" بشتى ألوانها. والسبب في ذلك – كما يقول الدكتور إبراهيم البيومي غانم([9]) أن الحركات الاجتماعية إنما نشأت في سياق الأزمة، خاصة "أزمة الديموقراطية"، حيث (( تنشأ الحركات الاجتماعية في مواجهة الدولة؛ نتيجة تعثر الدولة في أداء دورها، وتدخل الدولة المتزايد للسيطرة على السوق، وتدعيم قوتها وتوسعها على حساب المجتمع المدني. وهو ما يتزامن عادةً مع تآكل دور الأحزاب السياسية، كمنظمات للتعبئة والتمثيل الشعبي (...) وتنشط الحركات الاجتماعية في ظل هذا العجز؛ لتقوم بمهمة تمثيل المصالح، وتقديم خطط بديلة، والدفع باتجاه التغيير من خارج النظام، ولتمثل قوة ضاغطة تفرض على الدولة تعديل سياساتها وتطوير أدائها.))([10]).
ذلك هو مفهوم "الحركة" في المجال الاجتماعي، كما ظهر في سياق الصيرورة الغربية الحديثة. ولا غبش في أن الخلفية المادية العلمانية واضحة فيه جدا.
والغريب أن يؤكد الدكتور إبراهيم البيومي، وهو باحث إسلامي أصلاً: ((أن الحركات الدينية هي نوع من الحركات الاجتماعية، وإن كانت تتميز عن غيرها بكونها تمتلك منطلقات ومراجع كونية.))([11]) وفي هذا الإطار يصنف الباحث (حركة الإخوان المسلمين). وههنا مناط الإشكال المصطلحي كما سنبين بعد قليل بحول الله.
ذلك أن هذه التعريفات والشروحات كلها تؤكد القصور الشديد لمصطلح "حركة" عن الدلالة الشمولية الكلية التي يتمتع بها مصطلح "الدعوة"، بما يتضمنه هذا من مصدرية ربانية، وخلفية إيمانية عَقَدِيَّةٍ، ومرجعية تربوية إصلاحية شاملة. ثم إن مصطلح "الحركة" متهم بتضخيم بعض معاني العمل الإسلامي على حساب بعض، لتضخمها عند أصحابها أصلا من واضعي المصطلح في منظومته الغربية! وتلك حضارة أخرى وقوم آخرون! كما أنه متهم بتجويز وسائل للعمل قد لا تقبلها - كليا أو جزئيا – أحكام الشريعة! إلا باستصلاح أو (أسلمة) كما يعبرون اليوم. مع أن أمر الدعوة دين! والدين واضحة معالمه، أصيلة وسائله. خاصة على المستوى المنهاجي الكلي. وليس كل الوسائل يقال فيها إنها من قبيل الاجتهاد، بل منها ما هو مرتبط بثوابت الدين! لا حاجة لنا فيه إلى "أسلمة" ولا إلى استيراد أو اقتراض!
ومن هنا؛ فقد كان لتوظيف مصطلح "الحركة" من الأثر ما كان في الاختلال الجزئي أو الكلي للعمل الإسلامي، والانحراف به إلى مضايق العمل الحزبي المباشر أو غير المباشر، حيث أصبحت كبرى الحركات الإسلامية في العالم مجرد أحزاب سياسية كبرى!([12]) وتبعها في ذلك من تبعها من الحركات والتنيظمات في المشرق والمغرب! حتى رسخ في ذهن الجيل أن صورة العمل الإسلامي إنما هي هذا النمط أو هذه الهيأة! فشاهت بذلك جملة من التصورات، وانقلب كثير من موزاين الأولويات!
بل رسخ في ذهن الكثير أنه لا يمكن أن يعيش بالدين، ولا أن يكون من المسلمين، إلا بانتمائه إلى جماعة، أو انخراطه في تنظيم! وانحصاره داخل إساره! لا يدور إلا بمداره، ولا يتغذى إلا بأفكاره! وقد عملت بعض الجماعات فعلا على ترويج هذا البهتان! والله يعلم أنه ما أنزل به من سلطان! بل الفكرة بهذه الصورة بدعة منكرة! وعقيدة باطلة! أعني جعل النجاة الأخروية رهينة أغلال الجماعات ومضايق التنظيمات! فمن لم يمر عبر "مباركتها" هنا، حُرِمَ النجاةَ هناك!
وعليه؛ فإننا لسنا نقصد بهذا التأصيل الاصطلاحي مقارنة ألفاظٍ، وتقليب معانٍ ودلالاتٍ، وبيان دقائق إشكالات؛ من أجل أمور لا تزيد ولا تنقص من أمر العمل الإسلامي شيئا! أو ربما قيل فيها ما يقال أحيانا في سياق الخلاف الفقهي، إذا اكتُشف أنه راجع إلى مجرد اختلاف لفظ، لا إلى حقائق الأحكام ومفاهيم العلم، فيقال عندئذ: (لا مشاحة في الاصطلاح)! كلا طبعا! فالأمر هنا مختلف تماما. إذ هو عميق الارتباط بالمفاهيم الأساسية للعمل الإسلامي والدعوي، سواء من حيث مفاهيمه، أو من حيث أحكامه، أو موازين أولوياته، وكل ما تعلق بصحة الفعل الواقع في سياقه أو بطلانه!
ولذلك فالمشاحة كل المشاحة في الاصطلاح! ولو نظرت إلى أمر الله تعالى أصحابَ رسول الله بمخاطبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: "انْظُرْنَا" بدل "رَاعِنَا"؛ لوجدت أن العبارتين مترادفتان في اللغة، ورغم ذلك ورد النهي عن أحدهما والأمر بالآخر! ولم يُقَلْ آنئذ: "لا مشاحة في الاصطلاح"!
إن "الدعوة" لها مجال تداول شرعي أصيل، تحفه أحكام معينة، وأصول معينة، وآداب معينة، ونظام معين من المراتب والأولويات المقعَّدة شرعا، والموثقة نصا، أو المقاربة اجتهادا بقواعد العلم وموازين الشريعة. أما "الحركة" فلها مجال تداولي آخر مختلف تماما. ونقلها إلى مجال "الدعوة" لا يسلم من استصحاب مرجعيتها الغربية، ولو على المستوى النفسي! وهو أمرٌ له ما له من الضرر على العمل الإسلامي في مفهومه، وطبيعته، وميزان أولوياته، وحتى بعض أحكامه!
ولا يعني هذا كله أيضا أننا نُجري الألفاظ على ظواهرها فحسب، بل العبرة بـ"المفاهيم"! فقد يكون من التنظيمات أشكالٌ لم تتلقب بلفظ "حركة"، وإنما تسمت باسم: "جماعة"، أو "دعوة"، أو غيرهما من الألفاظ ذات الدلالة الشرعية الأصيلة، ولكنها في الواقع حبيسة مفهوم "الحركة"، ولو لم تتسم رسميا بسيماه! وذلك حسب ما طبع تصوراتِها المنهاجية والعملية لمفهوم العمل الإسلامي وطبيعته!
ومن هنا نادينا بفطرية العمل الإسلامي، أي الرجوع به إلى أصل فطرته الدينية، وإلى طبيعته الشرعية، الجامعة بين البساطة والعمق. سواء على مستوى المصطلحات والمفاهيم، أو على مستوى المناهج والتصورات؛ لأن بذلك - في نظرنا - يستوي ميزانه وتستقيم أحكامه. وذلك هو موضوع كتابنا هذا.
(يتبع إن شاء الله تعالى)
مقتطف من كتاب "الفطرية" للشيخ "فريد الأنصاري" رحمه الله
______________________________ _____________
[1] رواه مسلم.
[2] صحيح مسلم: (كتاب الجهاد والسير. باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام..)
[3] المقاومة المدنية: 45
[4] المقاومة المدنية: 17
[5] المقاومة المدنية: 18
[6] Charles Tilly, “Social Movements as Historically Specific Clusters of PoliticalPerformances," Berkeley Journal of Sociology 38 (1994): 1-30.
نقلا عن: (الحركات الاجتماعية المفهوم والتاريخ) ص: 2. للباحثين: (ربيع وهبة، وجوزيف شكلا)، بحث منشور على الموقع الإلكتروني : http://www.hic-mena.org/homea.htm.
[7] المقاومة المدنية: 48- 64.
[8] المقاومة المدنية: 48.
[9] خبير سياسي في "المركز القومي للبحوث الاجتماعية" بمصر.
[10] الحركات الاجتماعية، د. إبراهيم البيومي غانم. بحث للدكتور إبراهيم البيومي غانم، منشور على الموقع الإلكتروني: "إسلام أون لاين".
[11] "الحركات الاجتماعية: تحولات البنية وانفتاح المجال"، ص: 3.
[12] انظر تصريح الدكتور "محمد سليم العوا" أحد قياديي جماعة الإخوان المسلمين بضرورة ترك العمل السياسي بكل مفرداته والعودة إلى العمل التربوي الشامل! (حوار مع الموقع الإلكتروني: إسلام أون لاين: الأحد. 10 يونيو: 2007).