التأريخ الهجري إلى أين ؟
من الظواهر السيئة التي برزت في بلاد المسلمين ترك التأريخ الهجري، والاستغناء عنه بتأريخ النصارى المسمى بالتأريخ الميلادي، والذي لم يُبن على يقين، وإنما عرف بعد ميلاد المسيح عليه السلام بقرون عديدة، وأُدخل عليه من التعديلات ما هو معترف به لدى عقلائهم.
يقول جورج شها: ومن اسمه يظهر أنه منهم-: ( ولذلك لم يكن من السهل التثبت بالضبط من وقت الميلاد، بل الظاهر أنهم أخطئوا في حسابهم، فعينوا تأريخاً قبل وقوع الميلاد بأربع سنين على الأقل )[1]
وإن مما يؤسف عليه أن ترى كثيراً من المسلمين يتنكرون لتأريخهم، ويحاولون نسيانه أو حصره في مجالات ضيقة، لا تعني صورة مشرفة تدل على العناية به، والاهتمام بما يدل عليه من المعاني، في حين أن العديد من الأمم الأخرى كاليهود والنصارى تؤكد حرصها وتمسكها بالتأريخ الذي له صلة بمعتقدها وموروثاتها الدينية.
لقد رضي هذا التأريخ القمري الهجري واعتمده في أمور الدين والدنيا أفضل القرون من هذه الأمة، استناداً إلى قول الحق تبارك وتعالى ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)) (البقرة:189).
واعتماداً على اتفاق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- حتى أصبح هذا التاريخ من مزايا الأمة الإسلامية، انفردت به عن غيرها من الأمم، فأشهر الحج وصوم رمضان، وصوم النفل وعيد الفطر وعيد الأضحى، وحول الزكاة والآجال في البيوع والإجارات وسائر العقود، وأحكام العدد وبعض الكفارات وغيرها كثير، كلها مربوطة بالتاريخ الهجري، حكمة من الله تعالى ورحمة بهذه الأمة وحفظاً لهذا الدين، لاشتراك الناس في هذا الحساب وتعذر الغلط والخطاء فيه، فلا يدخل في الدين من الاختلاف والتخليط ما دخل في دين أهل الكتاب.
إن التقويم بالقمر هو الأصل، وهو المعروف عند العرب منذ القدم، ولذا جاء في معاجم اللغة أن الشهر معناه القمر.
يقول الرازي: ( واعلم أن مذاهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمرية لا شمسية، وهذا حكم توارثوه عن إبراهيم وإسماعيل– عليهما الصلاة والسلام– فأما عند اليهود والنصارى فليس كذلك )[2]
إن إقصاء التأريخ أو محاولة إقصائه عن حياة المسلمين هو جزء من العداء الموجه لهذه الأمة في عقيدتها وأخلاقها، وشخصيتها ومنهجها هذا من جهة، ومن جهة أخرى ما مُني به المسلمون في هذا العصر من محبة التشبه بأعداء الدين، والإعجاب بما هم عليه، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم، حتى أدى ذلك إلى ضعف المسلمين وخضوعهم لغيرهم، وتخليهم عن كثير من أحكام دينهم وأخلا قهم، وثمة سبب ثالث له أثر في إقصاء هذا التاريخ، ألا وهو كثرة الوافدين واختلاطهم مع المسلمين، وتسليمهم مقاليد البيع والشراء في كثير من المجالات، وهم ممن يسارع إلى اعتماد تاريخ النصارى، إما لجهلهم بالتاريخ الهجري لكونهم لم يعتادوه، أو للكيد للمسلمين والرغبة في القضاء على تاريخهم حتى يُنسى، ولهذا فرض أعداؤنا هذا التأريخ الذي فيه ربط لأجيال المسلمين بتاريخ النصارى وأعيادهم، عن تاريخهم الهجري الذي ارتبط بنبيهم صلى الله عليه وسلم وبشعائر دينهم وعبادتهم، ولأجل أن يشعر المسلمون بالتبعية والانقياد لغيرهم، هذا هو قصد الأعداء من فرض تاريخهم، ولو كان هذا التاريخ مسألة تقويم فقط يراد به عدُّ الأيام لما رأيت هذا السعي الحثيث لإبعاده وتنشئة الأجيال على نسيانه.
إن مما يدعو إلى العجب أن ترى الكثير ممن ينتسب إلى الإسلام يسارع في تبعيته للغرب، ويكون عوناً لهم على تحقيق مآربهم وتنفيذ مخططاتهم في بلاد المسلمين عن قصد أو عن غير قصد، حتى ظهر في هذا العصر من يتنكر لهذا التاريخ المجيد الذي بني على أسس سليمة، وقواعد ثابتة، ومقاصد سامية، ويعتاض عنه بتاريخ لا يمت إلى الإسلام بصلة، وليس له أيُّ معنى من المعاني التي تنادي إلى الأخذ به .
إن تاريخ النصارى تاريخ روماني الأصل، عَدَّلَهُ بعض الملوك ورهبان النصارى ونسبوه إلى ميلاد المسيح عليه السلام بعد مولده بستة قرون أو ثمانية قرون تقريباً، والأشهر الميلادية التي يدور عليها فلك هذا التاريخ تحمل في اشتقاقها ومعناها معاني وثنية، ذات ارتباط بآلهة الرومان وعظمائهم، وحتى أيام الأسبوع تحمل هذه المعاني عندهم.
والتاريخ الهجري الذي هو شعار الأمة الإسلامية لم يُبن على ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على مبعثه، وإنما بني على حدث عظيم فرق الله فيه بين الحق والباطل، إنه يوم الهجرة الذي أعقبه قيام الدولة العظمى دولة المسلمين في المدينة، بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم، بعد أن كان المسلمون يعيشون في مكة أفراداً مطاردين، ليسوا لهم كيان يجمعهم، ولا دولة تحميهم، حقاً إنه حدث عظيم، جدير بأن يتذكره المسلمون على مَرِّ الدهور، وتنشأ على معرفته ووعيه الأجيال، وأن يكون شعاراً بارزاً ومَعْلَماً من معالم حضارة المسلمين.
أنا لا أنكر أن مسألة الأخذ بتاريخ النصارى قد تكون اضطرارية في بعض الحالات بسبب ضعف المسلمين، لكن لا بدَّ أن يُعتمد معه التاريخ الهجري ليكون متبوعاً لا تابعاً، ويعلم العدو الماكر أننا لم نتخلَّ عن تاريخنا، ولن نرضى به بديلاً، لكن ما العذر لمن يمكنه الأخذ بالتاريخ الهجري واعتماده في جميع شؤونه، وليس بحاجة – فضلاً عن الضرورة – للأخذ بتاريخ النصارى؟!
إني لأعجب ويعجب غيري ولاسيما هنا في بلاد الحرمين – حرسها الله – ممن يؤرخ بتاريخ النصارى لأناس لا يعرفون شيئاً عن هذا التاريخ، لا يعرفون اسم الشهر، ولا بدايته، ولا نهايته، تأخذ الورقة من مستوصف أو مصنع أو محل تجاري على اختلاف نوع بضاعتها، وإذا على طرتها قد سَجَّلَ لك المسؤول تاريخاً لا تعرف لا أصله ولا فصله، حتى إنه إذا كان يتضمن موعداً مستقبلاً ذهبت تقابله بالتاريخ الهجري لتحفظ هذا الموعد.
فيا أيها المسلمون لا تكونوا عوناً لأعدائنا في تحقيق مآربهم فينا، بل علينا أن نعتز بديننا وبأخلاقنا، وبما سار عليه سلفنا الصالح الذين حقق الله لهم النصر والعز والتمكين في الدنيا، ووعدهم عظيم الأجر في دار كرامته.
إن علينا أن نتمسك بتاريخنا الهلالي الهجري الذي يعني اعتزازنا بديننا، وحفاظنا على شخصيتنا الإسلامية المتميزة عن غيرها، والتي لا ترضى بحال أن تكون تابعة لغيرها، ما دام أن الله تعالى أعزها بهذا الدين ورضيه لها لقيادة البشرية، والصعود بها في معارج الرقي والكمال.