تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: رسالة: فَصْلُ المَقَالِ في التَحْذيرِ مِنْ بِدْعَةِ تَشْبِيهِ الأفْعالِ

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    المشاركات
    3,277

    افتراضي رسالة: فَصْلُ المَقَالِ في التَحْذيرِ مِنْ بِدْعَةِ تَشْبِيهِ الأفْعالِ

    رسالة: فَصْلُ المَقَالِ في التَحْذيرِ مِنْ بِدْعَةِ تَشْبِيهِ الأفْعالِ
    رابط تحميل الرسالة بي دي إف: http://www.mediafire.com/view/?o4xmbo6h8v2qe5b

    الحمد لله الكريم المتعال، الموصوف بأحسن الصفات وأحكم الأفعال، المنزه عن مشابهة خلقه بحال من الأحوال، والصلاة والسلام على خيرة الخلق سيد الرجال، وآله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم السؤال..

    أما بعد، فمما يؤسف له أن كثيرا من الدعاة المبتدئين في طلب العلم يحسبون أن الرد على شبهات الملاحدة أمر سهل ميسور يحسنه كل عاقل، على اعتبار أن الأصل العقلي الأعظم الذي ينقضه هؤلاء الجحدة بإلحادهم وشبهاتهم لا يخفى على ذي لب ضرورته وبداهته أصلا! وهو كذلك ولا شك (أي ذلك الأصل العقلي الكلي)، ولكن ما لا يدركه أكثر هؤلاء أن شبهات الفلاسفة (على وهائها) بحر لا ساحل له، وأن تلك الفرق الكلامية الهالكة الكثيرة ما ظهرت في تاريخ أمتنا يوم ظهرت، إلا من تصدي أنصاف المتعلمين للرد على شبهات فلاسفة اليونان. مادة وافدة مترجمة فيها من الإلحاد ما فيها، تعلمها هؤلاء وتأثروا بها، وتصدوا للرد عليها من غير أن يكون لهم قدم راسخة في العلم بالكتاب والسنة وبحيل السوفسطائيين في المراء والجدل، فاعتزل منهم من اعتزل وتجهم من تجهم، وقال قوم بالقدر وقال آخرون بالجبر، ونفى قوم عن ربهم صفاته تنزيها وغلا بعضهم فمثلوه بخلقه، ورد كل فريق منهم على الآخر بدعة ببدعة وضلالة بضلالة وغلوا بغلو مقابل، حتى صارت تنبت النظريات والبدع والطوام فيما بينهم وتتكاثر كما ينبت الدود في اللحم! وإني والله لأرى التاريخ يوشك أن يتكرر، لتمضي فينا تلك السنة الكونية مرة أخرى في زماننا هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    فما أكثر أن ترى حدثا صغيرا يدخل إلى منتديات الملاحدة ليجادلهم في شبهاتهم الفلسفية، التي ربما يرجع بعضها إلى ثلاثة آلاف سنة مضت أو يزيد، وكثير منها لم يعرفه الأولون وإنما ظهر حديثا تحت فلسفة الطبيعيات ونحوها، تأسيسا وتفريعا في المجمل على تلك الفلسفات القديمة نفسها، فتراه يتقلب ما بين موافقة المعتزلة تارة، وموافقة الأشاعرة تارة، وموافقة النصارى "الخلقيين" ونحوهم من تلك النحل الفلسفية الطبيعية المعاصرة عند أهل الكتاب تارات وتارات من غير تمييز ولا تدقيق، وهو يحسب أنه يحسن صنعا، فما أشبه الليلة بالبارحة، والله المستعان! وما ظهور تلك الطائفة التي تقول ببدعة "التطور الموجه" في خلق الله لصور الحياة على الأرض منا ببعيد! قوم أنصاف متعلمين في شريعة رب العالمين، فتنهم ما وقفوا على مطالعته من نظريات الغرب، وكبر في نفوسهم جدا أن يردوا جميع ما عند هؤلاء من الباطل لعظمه ولخفاء وجه بطلانه على الأكثرين منهم، فإذا بهم يرومون "الوسط الغلط" (إذ لا وسط بين الحق والباطل إلا الباطل)، وينسبون إلى الله تعالى من عقائد أصحاب تلك النظريات ما لازمه نسبة النقص إليه وإلى صفاته جل وعلا، ورد ما أطبقت عليه الأمة قرونا طويلة فيما تعتقده من أمر الخلق الأول للأرض وما عليها!
    ولعل من أخطر البدع التي يتعرض لها المسلمون عند تصدرهم للرد على شبهات الملاحدة: بدعة "تشبيه الأفعال"، وهي بدعة اشتهرت بها المعتزلة من متكلمة المسلمين تأثرا بالملاحدة والوثنيين، فرأيت أن أضع هذه الرسالة في بيانها والتحذير منها ومن مداخلها، عسى الله أن ينفع بها المسلمين وأن يعصمهم من كل بدعة يخفى ذيلها على أكثر الناس، والله الهادي إلى سواء السبيل.

    ترجع بدعة "تشبيه الأفعال" في الأصل والمنشأ إلى إبليس اللعين. يقول الشهرستاني في الملل والنحل: "وذاك (أي تشبيه الأفعال) من سِنخ (يعني أصل) اللعين الأول؛ إذ طلب العلة في الخلق أولا، والحكمة في التكليف ثانيا، والفائدة في تكليف السجود لآدم عليه السلام ثالثا." اهـ. (المجلد الأول ص 18).
    وقد علمتَ كيف أن إبليس لما أراد أن يتصور العلة والحكمة من أمر الخالق مخلوقا بالسجود لمخلوق مثله، لم يستند إلا إلى أصل جاء به من قياس أفعال ومقاصد ربه على أفعاله هو ومقاصده هو فيما يقدر من مثل ذلك، ألا وهو تصوره أحقية من هو أحسن أو أكمل في أصل خلقته في أن يكون هو الأولى بأن يسجد له من هو دونه في ذلك لا العكس. فلو أنه كان خالقا، وأراد أن يأمر شيئا من خلقه بالسجود لغيره من مخلوقاته، لأمر الأدنى في أصل خلقته بالسجود للأحسن خلقة وتصويرا، أو لعله كان يأمر الأضعف بالسجود للأقوى، أو الأنقص بالسجود للأكمل، بحسب تصوره للعلل والحكم وما يختاره هو من مقياس في مثل ذلك إن قدرنا وقوعه منه! ومن هنا، من هذا التشبيه المغرق في الكبر والغرور، جاء اعتراضه في جواب قول الله تعالى: ((مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ))، بأن قَالَ ((أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)) الآية [الأعراف : 12] وقال ((أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً)) الآية [الإسراء : 61].
    كان هذا هو أول ظهور لبدعة أن يتكلف مخلوق تصور الحكمة والعلة في أفعال الله تعالى وأوامره وإراداته، من طريق قياس أفعال الله على أفعاله هو وخياراته وترجيحاته فيما يفعل وما يريد. ولعله كان رأس الإلحاد وأساسه عند التأمل. ذلك أن إبليس لم يكن كفره من جهل ولا من تعلق لديه بمخلوق آخر من دون الله يجعله له ندا، وإنما كان كفره من كراهية نفسه الخضوع لتكليف رباني لم يأت على هواه! فما وجد اللعين إلا أن يزعم أنه لم يقتنع بأن هذا التكليف من العدل أو من الحكمة، فنفى عن خالقه الصفتين جميعا وجحد حق ربه وهو يعلم أنه على باطل، واشترط شرطا للطاعة والخضوع لأمر الخالق هو يعلم وهاءه وبطلانه. فأي شيء هذا إلا أصل أصول الإلحاد بجميع صوره وفروعه؟ الإلحاد كفر إباء واستكبار وهو من كفر إبليس مهما زعم أصحابه خلاف ذلك! إبليس لم يكن كفره بتكذيب شيء يراه بعينيه، فهو لم ينكر وجود الخالق جل وعلا، وإنما أنكر حق خالقه الواجب ببداهة العقل في أن يأمره بشيء فيطيعه في ذلك خضوعا وإذعانا وإن خفيت عليه الحكمة من وراء ذلك الأمر. وكذلك الملاحدة لم يكفروا بشيء يرونه بأعينهم، وإنما أنكروا حق الخالق في أن يخضعوا لسلطانه، وهذا هو الأصل الجامع لسائر نحل الإلحاد في زماننا، سواء ما يسمى باللا-دينية أو "اللا-أدرية" أو "الربوبية" أو غير ذلك من صنوف الإلحاد وألوانه. فبصرف النظر هل بلغت بهم السفاهة أن أنكروا وجوده بالكلية أم اقتصروا على التوقف فيه أم قالوا بخالق لا يأمر ولا ينهى ولا إرادة له أصلا، أم قبلوا كونه آمرا ناهيا ذا سلطان ولكن زعموا أنهم لا يظهر لهم رجحان شيء من تلك الأديان ونسبتها إليه، فإن أصل الأمر واحد لديهم جميعا: كفر إبليس! "أأخضع لحكمك وأنا لا أراك؟ أتطالبني بعبادتك من غير أن تجعلني على ما أحب، بل وأنت تأمرني بما أكره؟"، تماما كما قال سلفهم اللعين: ((أأسجد لمن خلقت طينا))؟

    هذا الأصل الشيطاني جاء من اعتقاد المخلوق المكلف بشيء من تكاليف خالقه أن من حقه أن يعترض على ذلك التكليف لخفاء الحكمة فيه عن نظره، أو لكونه يرى فيه أو في غيره من تكاليف الخالق ما لا يستقيم وجه العدل أو الخير الراجح فيه على ميزانه ومقياسه المعرفي للخير والشر! فتراه يحكم على أفعال خالقه وإراداته وكأنما يحكم على مخلوق مثله، والله المستعان. وقد تسرب هذا الأصل الباطل المشين إلى أتباع سائر الملل والنحل على أثر فلسفات الملاحدة، فأخرج منهم طوائف تنسب إلى الله ما لا يليق بذاته، وأخرى تنفي عنه ما تزعم أنه يجب أن يتنزه عنه، بتحسينات وتقبيحات عقلية مغرقة في عين ذاك القياس الفاسد الذي قاسه إبليس من قبل، وانطلقت منه فلسفات الإلحاد في أصلها الأول حتى بلغ الأمر أن رأينا من يزعم أن صفات الخالق التي يزعمها أهل الأديان متناقضة لأنه يخلق الشر ولا يمنعه وهو قادر على منعه، فتحصل من ذلك أنه لا وجود له أصلا، وإلى الله المشتكى!
    وقد كان لأمة النبي الخاتم حظ من ظهور من وقع في تلك المهلكة العقلية بين أظهرهم، تأثرا بفلسفات الملاحدة واعتراضاتهم، وهؤلاء عندنا هم المعتزلة ومن تشعب عنهم ووافقهم. ذلك أنهم ذهبوا في جواب الملاحدة – كما سيأتي معك - إلى أقوال يحسبون أنهم بها ينزهون الخالق عن قبيح ما زعمته في حقه الملاحدة، مستندين في تلك الأقوال إلى نفس الأصل العقلي الذي أدى بالملاحدة إلى نسبة تلك القبائح إلى خالقهم بالأساس، سبحانه وتعالى وتقدس، ألا وهو "تشبيه الأفعال"، أو بعبارة أخرى: الوصول إلى الحكم على أفعال الله وإراداته بالقياس على المخلوقين، والتحسين والتقبيح تأسيسا على هذا القياس.

    فمن تشبيه المعتزلة للأفعال بتحسينهم وتقبيحهم العقلي، أنهم قالوا بوجوب فعل الأصلح للعباد على الله. لماذا قالوا بهذه المقالة؟ لأن الملاحدة قالت إن الخالق إذا كان قادرا على فعل الأصلح للمخلوق ولم يفعله فهو ظالم له بذلك، أو ناقص عن حدّ الكمال، فكان جواب هؤلاء الجهلاء أن قالوا بل إن فعل الأصلح في حقه واجب ولا يفعل إلا الأصلح للعبد وجوبا، فوافقوا الملاحدة على أصل شبهتهم بذلك، ألا وهو القياس في الحكم على الأفعال والإرادات الإلهية، على ما يكون من المخلوق وما يحسن في نظر المخلوق!

    ومن تشبيه الأفعال عندهم أنهم قالوا بوجوب الوفاء بالوعد مطلقا وإنجاز الوعيد مطلقا على الله تبارك وتعالى. وهو تشبيه فاسد حتى على التسليم تنزلا بمعقولية ومشروعية ذلك القياس الذي قاسوه! ذلك أنهم قالوا إن الله تعالى يقبُح منه ألا يجزي عبدا طائعا على طاعته وألا يعاقب عبدا مذنبا على ذنبه، لأنه قد سبق منه الوعد للطائعين والوعيد للمذنبين، وترك الوفاء بالوعد ظلم وترك إنجاز الوعيد قبيح. ولا شك أن هذا منهم هو القبح بعينه لأن صاحب التشريع إذا ما وعد بالجزاء عن عمل ما، فإنه يعد النوع لا العين، وكذلك في الوعيد، ووجه ذلك أن من فعل المأمورات فإنه قد يستحق الجزاء المنصوص عليه (أي له بعينه) في تقدير صاحب التشريع وقد لا يستحقه، ومن فعل المنهيات فقد يستحق العقوبة المنصوص عليها وقد لا يستحقها، كل ذلك مع بقاء الوعد والوعيد ماضيين في محاسبة النوع بعموم، وليس هذا من الظلم ولا من إخلاف الوعد المذموم في شيء! وسبب كون العقل يجيز ذلك الأمر دون أن يجعله قبيحا بإطلاق في حق من فعله كما زعمته المعتزلة، أنه سواء نظرت في فعل المكلف المأمورات (التي فيها الوعد بالجزاء) أو إتيانه المنهيات (التي فيها الوعيد بالعقوبة)، فإن كلا الوجهين تحتف بهما أحوال ظاهرة وباطنة عند ذلك المكلف قد يعلمها من يقضي فيه بالحكم (جزاء أو عقوبة) وقد تخفى عليه، وهي أحوال لا يخفى منها شيء على خالق الخلق تبارك وتعالى.

    لذا فإننا إذا ما تكلمنا عن محاسبة رب العالمين لمخلوقاته، فمن الأمور التي يجب ألا يتغافلها العقلاء أن الخالق سبحانه قد سبق منه إغراق عبده في سابغ النعم والعطايا في الدنيا تحقيقا، فلو أنه حاسبه محاسبة المعاوضة لأهلكه، لأننا إن سلمنا تنزلا بأن العبد إنما يكلفه خالقه بالعبادة لشكر النعم فقط لا غير، لما كفته عبادة الدهر كلها حتى يفي بعوض نعمة واحدة من نعم الله عليه! فإن تفضل سبحانه على من فعل الطاعة المقبولة بمزيد من العطايا والنعم مكافأة له، فلا يقال إن أداء هذه المكافأة إليه حق واجب على الرب تبارك وتعالى مطلقا على سبيل المعاوضة بمجرد وقوع الطاعة، لمجرد أنه قد سبق منه الوعد للطائع (نوعا) بأن يثيبه بمزيد من النعيم! هذا سوء أدب واضح مع الرب جل وعلا، قد غرقت فيه المعتزلة كما لم يقع من طائفة أخرى من أهل القبلة قاطبة! وقد كان يكفيهم أن يقولوا إن الله تعالى لن يثيب من حق مثله أن يعاقَب، ولن يعاقب من حقه أن يثاب، لأن هذا ولا شك نقص وخلف لا يصح في حقه سبحانه! ولكنهم أبوا إلا أن يدخلوا في مسألة من الذي حقه أن يثاب، ومن الذي حقه أن يعاقب! فمن جهلهم وقصور عقولهم قرروا ذلك تحكما بأقيستهم الساقطة، فقالوا إن مجرد فعل الطاعة يوجب المثوبة للفاعل مطلقا، ومجرد فعل المعصية يوجب العقوبة للعاصي مطلقا، فلا يجوز إذن أن يقابَل طائع بعدم المثوبة أو عاص بعدم العقوبة، فإذا بهم يوجبون على الله تعالى قبول كل طاعة ويحرمون عليه مغفرة كل ذنب، وهذا من تحكمهم في علم الله ورحمته وحكمته بعقولهم، قاتلهم الله!

    ثم إنه قد عُلم أن العفو عند المقدرة مستحسن في أحوال، بل يكون في تلك الأحوال من شيم الكرام، فتأمل كيف انتقص هؤلاء السفهاء من ربهم إذ زعموا أنه ما كان ليعفو عن مذنب قط، ما دام قد توعد المذنبين (نوعا) بالعقوبة! وهو ما يعني أنك قد ترى الواحد منهم يستحسن عفو ملك قادر من ملوك الدنيا وتركه إنجاز الوعيد في بعض رعاياه المذنبين لخير يراه فيهم أو مصلحة راجحة في علمه أو نحو ذلك، ومع هذا لا يجيز وصف خالقه بنفس هذا المعنى الحسن مطلقا، فسبحان الذي أبى إلا أن يعامل أهل البدع بنقيض مقوصدهم، وأن يوقعهم بكل بدعة يبتدعونها في أذمّ وأشد مما زعموا أنهم يفرون منه!
    و
    من تشبيه الأفعال عند المعتزلة، قولهم بوجوب إرسال المرسلين على الله تعالى لأنه الأحسن والأصلح لهم في الحياة الدنيا، والله لا يفعل إلا الأحسن والأصلح. فما هذا الأحسن والأصلح ومن أين لهم بالقول به؟ إنه الأحسن والأصلح للعبد وبمقياسه هو، لا بحسب ما يكون في علم الخالق جل وعلا وحكمته! هذا جوابهم لدعوى الملاحدة قبح "التستر الإلهي" خلف ستار الغيب، وأنه لو كان يريد الخير لخلقه لما استتر عنهم ولما منعهم من رؤيته كما يرى الواحد منهم الشمس في السماء! فكان جوابهم القياس والتشبيه في الفعل والإرادة بقياس وتشبيه مثله، أو بعبارة أخرى، كان جوابهم للشبهة المنبثقة عن أصل التشبيه، بإثبات ذلك الأصل الباطل نفسه ثم التفريع عليه! فقالوا إن إرسال المرسلين عليه واجب لأنه لا يجوز في حقه أن يتخلف عن فعل ما هو أحسن، فلا يهدي العباد إلى معرفته والاتصال به. فأي شيء هذا إلا عين التحكم القبيح الذي تحكمته الملاحدة (إعمالا لأصل القياس على أفعالهم وإراداتهم) حين قالت إنه يقبح منه (سبحانه وتعالى عما يصفون) ألا يظهر نفسه لخلقه في الدنيا فيريهم إياه رأي العين؟
    لا يجب على الله تعالى من الأفعال والإرادات إلا ما أوجبه هو على نفسه، سبحانه وتعالى، أو ما كان خلافه قبيحا بمجرد معناه اللغوي، لا بالقياس والاقتضاء والاستلزام ونحو ذلك، ولهذا ينبغي في هذا المقام أن نفرق بين طريقين من طرق التحسين والتقبيح العقلي في حق الله تعالى، يرجع أحدهما إلى هذا الأصل البدعي الإبليسي، بينما يقوم الآخر على الترجيح الفطري المستقيم.
    أبو الفداء ابن مسعود
    غفر الله له ولوالديه

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    المشاركات
    3,277

    افتراضي رد: رسالة: فَصْلُ المَقَالِ في التَحْذيرِ مِنْ بِدْعَةِ تَشْبِيهِ الأفْعالِ

    التفريق بين تشبيه الأفعال وإثبات المعنى المشترك.

    ينبغي التنبه إلى أن التحذير من تشبيه الأفعال لا يعني أننا ننفي وجود اشتراك معنوي بين صفات الذات وصفات الأفعال لله تعالى، وصفات المخلوقين. بل إن الاشتراك المعنوي صحيح ثابت، ولولاه ما عرفنا ربنا وما أمكننا أن نعقل له صفة لا في كتابه ولا في سنة نبيه! ولكن الاشتراك في المعنى لا يجوز في العقل ولا في الشرع أن يتجاوزه الإنسان إلى ما وراءه من المعاني الإضافية فيقع بذلك في قياس الخالق على خلقه!
    والقياس المذموم ههنا في حق الله تعالى هو ذلك النوع الذي يجري فيه استنباط الوصف أو المعنى المجهول لذات من الذوات أو شيء من الأشياء، بالنظر إلى اشتراكه مع شيء آخر في وصف معلوم. ومثاله أن تقول: إن الأرض كروية، ومن ثم فإن من تحرك عليها فستظل المسافة بينه وبين مركزها ثابتة أبدا (على التسليم لمصلحة المثل ههنا بانتظام كرويتها). هنا كان المجهول من وصف الأرض هو المسافة بين كل شيء يتحرك عليها وبين نقطة اعتبارية في الفراغ يقال لها مركزها. فلما تحقق العلم بأنها كروية الهيئة، وعُلم أن من صفات الكرة ثبات قطرها وتساوي المسافة بين كل نقطة على سطحها وبين مركزها، انتقل الوصف المجهول (ألا وهو تقدير تلك المسافة) في شأن الأرض من وصف الكرة (التي هي شكل هندسي مجرد له خصائصه الهندسية المعلومة)، إلى الأرض التي كانت من قبل مجهولة الوصف في هذا الجانب. وكانت علة القياس أن كل كرة يجب أن تكون المسافة بين مركزها وبين جميع النقاط على سطحها متساوية في أي موضع من ذلك السطح.

    هذه العلة كما ترى إنما علمناها بالاستقراء والتتبع لما يقع تحت طائلة الحس من موجودات، مع إعمال الأقيسة بأصنافها جمعا للمتماثلات وتفريقا للمختلفات، حتى أصبحنا نعرف في مجموع ما نعرف أن الإنسان من صفاته أنه إذا فعل كذا، فلا تكون في نفسه من الغايات والإرادات إلا كذا أو كذا، وأن أفعاله تتعلل بكذا وكذا، وتتقيد بقيد كذا وكذا، إلى آخر تلك الأقيسة التي عرفناها من استقراء المتشابهات فيما نرى من حولنا من مخلوقات الله ومن تصنيفها في أصناف وأقسام. وسبب مشروعية ومعقولية قياس كهذا في أجناس وأصناف المخلوقات، أننا نقف على معرفة صحيحة لجملة كبيرة من الصفات المتلازمة المجتمعة في كل صنف من تلك الأصناف، كانت معرفتها عندنا بمجموعها هي السبب في صحة دخوله – قياسا – في هذا الصنف أو ذاك، بل في صحة مبدإ التصنيف نفسه من الأساس، تماما كما عرفنا مجموع الصفات التي باجتماعها يقال للشكل إنه "كرة" أو "دائرة" أو نحو ذلك. فما دمنا نتكلم عن شيء (أو ذات) حادث يجيز العقل تكرار حدوثه، فنحن بالضرورة نتكلم عن صنف أو نوع يجيز العقل قياس أفراده (ذواته) بعضها على بعض، ونقل الحكم من أحدها إلى الآخر، متجاوزا بذلك حد الاشتراك المعنوي في الوصف المشترك إلى جعله علة لافتراض التكرار النوعي ومن ثم نقل الحكم من المعلوم إلى المجهول من صفات تلك الأشياء أو الذوات تبعا لذلك.

    أما عندما نتكلم عن ذات متفردة يوجب العقل انفرادها بالأولية والأزلية، فإن عقولنا التي توجب لتلك الذات العلية الفريدة ما تشترك في معناه مع ذوات المخلوقين من الصفات، هي نفسها التي تمنع من تجاوز ذلك الاشتراك المعنوي في وصفها إلى إثبات صفات إضافية (للذات أو لأفعالها) من طريق القياس، لأنه معلوم بالبداهة أنها يجب ألا يكون لها كفؤ أو شبيه أو نظير أصلا! لا تعليل لحادث من الحوادث في الوجود يخرج عن تلك الذات المفردة، بل كل الحوادث تتعلل بها أصلا، وينتهي مسلسل أسبابها (كل الأسباب قاطبة) إليها وحدها! والعقل يوجب لتلك العلة الأولى من الصفات ما يقتضيه ذلك التعليل، وهي معاني مشتركة وجوبا بين العلة الأولى وما تحتها من العلل الفاعلة في سلسلة التعليل، لأن التعليل لا يصح إلا بها أصلا. فلا يعقل أن يقع إحداث أو تكوين أو تركيب بغير إرادة (مثلا) لدى فاعل مكوِّن مركِّب، فوجب أن يكون في العلة الأولى وصف الإرادة، ولزم - وهو ما يعنينا ههنا – أن يكون مشتركا في المعنى مع كل ذات صح أن توصف بأنها تحدث فعلا أو تركيبا أو تكوينا أو تخليقا بصورة ما أو بأخرى. ولكن لا يصح أن يجاوَز ذلك الاشتراك إلى القول (مثلا) بأنه ما دام البشر صانعين وهم كذلك مسبوقون بمن أحدثهم وصنعهم، فكذلك الإله مسبوق بمن أحدثه وصنعه قياسا!

    من هنا يتبين لك أن امتناع القياس (بما يستتبعه من تصنيف وتقسيم وتشبيه وتفريق) في حق الباري (الذي هو علة العلل سبحانه، الأزلي الأول بلا ابتداء)، لا يلزم منه امتناع مطلق الاشتراك المعنوي كما زعمته المبتدعة من أهل الكلام، افتتانا بفلسفات الدهرية والملاحدة التي سوت بين القياس والاشتراك المعنوي في حق الخالق فجعلته كله قياسا. فلا يلزم من إثباتنا المعنى المشترك لصفة العلم – مثلا – للباري جل وعلا، أن نثبت كذلك كونه قد اتصف بذلك العلم من بعد جهل، بالنظر إلى أننا لا نرى فيما حولنا كائنا واحدا مما يوصف بالعلم لم يأته ذلك العلم اكتسابا! هذه مجاوزة لإثبات المعنى المشترك (الذي هو مطلق معنى العلم كما نعقله في لغاتنا) إلى إثبات وصف إضافي لذلك العلم ما علمناه إلا بتتبع المخلوقات من حولنا قياسا، ألا وهو حدوث ذلك العلم في نفس كانت تخلو منه قبلئذ. فمتى زعم المعطلة أن إثبات صفة ذاتية أخرى مما جاء به النص كاليد أو صفة فعلية كالنزول – مثلا – يلزم منه إثبات التبعض أو التركب أو الجارحية أو نحو ذلك، قلنا لهم فما قولكم فيمن يزعم لزوم معنى الاكتساب من بعد الافتقار من مجرد إثبات صفة العلم؟ فما كان قولهم في هذه فهو قولنا في تلك!
    الاشتراك المعنوي ليس تشبيها ولا قياسا، وإنما هو إنطباق للمعنى اللغوي المجرد على أكثر من شيء واحد يناسبه ذلك المعنى المعين في الخارج، ولا إشكال على الإطلاق في أن يقع ذلك الاشتراك بين الخالق والمخلوق! بل أكثر من هذا إننا نقول إن للأمة رأسا (حاكمها) كما للنملة رأس وكما للسنة رأس (يومها الأول)، فهذا انطباق للمعنى الواحد على أكثر من شيء في الخارج يناسبه ذلك المعنى تمام المناسبة، من غير أن يلزم من وراء ذلك أي اشتراك في معان أخرى إضافية بالقياس! هذا نقوله ونتصوره في أشياء حادثة مخلوقة، فكيف بالخالق الأول الذي لا شبيه له ولا نظير؟

    ولا يعنينا ههنا جهل الفلاسفة المعاصرين من الملاحدة بهذا التفريق الدقيق (أو تجاهلهم له وتغابيهم عنه في الحقيقة)، وإدخالهم كلا المفهومين تحت ما يسمونه "بالأنسنة" أو التجسيم البشري Anthropomorphism، حتى يأتي الواحد منهم إلينا بقوله إن أهل الأديان (هكذا!) يستوون جميعا في إنزالهم صفات الإنسان (هكذا!) على خالقهم المزعوم، وهذا سببه عند أهل الأديان – بزعم هؤلاء - نفسي وعصبي وارتقائي إلى آخر تلك الدعاوى التي يطلقونها إطلاق العميان بلا تمييز! المسلمون ولله الحمد وسط بين طوائف جاهلة غلت فنفت عن الخالق معاني صفاته، وزعمت أن كل صفة يصفها به الناس تجعله بالضرورة "إنسانا" أو شبيها بالإنسان، فآل بهم الأمر إلى جعله عدما ووهما، وطوائف أخرى غلت فقاست الخالق على مخلوقاته ونسبت إليه صفات البشر حتى جعلته بشرا، بل جعلته شجرا وحجرا، واستجازت أن تصوره في الصور والتماثيل!

    ونقول إن هذه القاعدة في إثبات الاشتراك المعنوي مع منع القياس، قاعدة واحدة عند أهل السنة يُعملونها في الصفات الذاتية كما في الأفعال ولا فرق. فكما أنه لا يجوز أن نقول إن ما يوصف به الله من كونه بصيرا يقتضي أن يكون له "عصب بصري" (مثلا)، فلا يجوز كذلك أن نقول إن ما يوصف به سبحانه من كونه قد خلق السماوات والأرض ليبتلي فيها الإنسان بعبادته، يقتضي ألا يكون ثمة تغييب أو ستر بستار الغيب، أو يوجب ألا يموت إنسان إلا وقد عبد الله وعرفه سبحانه حق المعرفة!

    فمن قال إن الله تعالى يشترك مع بعض خلقه في فعل إنزال العقوبة بمستحقيها (مثلا) فهذا حق ولا شك، فكما أن الله يقضي ويحكم، فإن من خلقه كذلك من يقضي ويحكم. هذا إثبات للمعنى المشترك لا إشكال فيه. فإن قيل إن العدل في الحكم والقضاء وصف حسن وضده قبيح، فلا يجوز إلا أن يوصف قضاء الله وحكمه متى وقع منه إلا بأنه عدل تام لا ظلم فيه، فهذا أيضا حسن صحيح، وهو كذلك من المشترك المعنوي، لأنه يقبح بالقاضي المخلوق كذلك أن يحكم بالظلم فيمن يحكم فيهم. ولكن عندما يقال إن من العدل أن يحكم الله بكذا في هذه الحالة أو تلك، كما أن من العدل أن يحكم القاضي من بني آدم بمثل هذا، قلنا هذا تجاوز للمعنى المشترك ودخول في القياس الممنوع. لأن الله تعالى لا يقاس علمه على علم خلقه، وهو محيط بخلقه وبما يعملون تمام الإحاطة بينما لا يحيط أحد منهم بعلمه ولا بشيء من أمره إلا بما شاء سبحانه، فعندما يحكم سبحانه في شيء ما فإنه لا قياس لعلمه وحكمته فيما يقضي ويحكم، على ما به يقضي المخلوقون ويحكمون من علم وحكمة! لذا ليس لعاقل أن يدعي أن مطلق الوصف بالحكمة يوجب على الخالق أن يحكم في مسألة من المسائل بكذا لا بكذا، أو أن يفعل بخلقه كذا دون كذا!
    أبو الفداء ابن مسعود
    غفر الله له ولوالديه

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    المشاركات
    3,277

    افتراضي رد: رسالة: فَصْلُ المَقَالِ في التَحْذيرِ مِنْ بِدْعَةِ تَشْبِيهِ الأفْعالِ

    الفرق بين "التحسين والتقبيح العقلي" الفطري والبدعي.

    ولهذا نقول: لا يفهمن أحد من نقضنا وردنا لأصل التحسين والتقبيح العقلي عند المعتزلة أننا نوصد الباب أمام مطلق التحسين والتقبيح العقلي في النظر فيما يُنسب إلى الله تعالى من الأفعال والصفات، كما ذهبت الأشاعرة في الرد على هؤلاء إلى نفي الحكمة والتعليل عن أفعال الله أصلا، وتجويز وقوع الظلم البين منه سبحانه، كمعاقبة المؤمن التقي بتخليده في النار مثلا! هذا غلو في الجهة المقابلة لا نقول به. فالتحسين والتقبيح العقلي اصطلاح قد يطلق ويراد به ما يتحصل للإنسان من مجرد تصور معنى الصفة أو الفعل المنسوب إلى رب العالمين، إذ الإنسان قادر على تمييز المعاني الحسنة إجمالا – في اللغة – من المعاني القبيحة إجمالا، فما نسب إلى الله تعالى من ذلك سواء بالوصف أو بما يقتضيه ذلك الوصف في العقل اقتضاءً معنويا صحيحا، فإن العقل يقدر على تمييز الحسن فيه من القبيح من حيث الأصل. ولولا هذا ما قامت للمرسلين حجة على أقوامهم أصلا، إذ يأتي الرسول إلى قومه فينهاهم عن عبادة الأوثان وعن الإشراك برب العالمين مستصحبا في ذلك (من غير تكلف بحث أو نظر أو محاججة) بداهة الحكم العقلي عندهم بقبح وشناعة ما يلحق بالخالق من وصف يقتضيه مجرد إشراكه بشيء من خلقه في العبادة والخضوع والتذلل!

    وكل صفة حقيقتها (حقيقة معناها وليس لازمه) النقص أو الجهل أو العجز، فهي قبيحة في حق الله تعالى بداهةً، فلا يجوز في حقه إلا أحسن الأسماء والصفات كما قال تعالى: ((وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) الآية [الأعراف : 180]، وفيه تقديم للخبر شبه الجملة يفيد التوكيد والحصر، أي ليس لأحد في الوجود أحسن الأسماء كلها إلا الله سبحانه. فلا يجيز العقل اتصاف الخالق العلي باتخاذ الولد (مثلا) لأن هذا وصف حقيقته وتأويله المباشر = النقص والعوز، والله تبارك وتعالى منزه عن ذلك ضرورةً! وحقيقته كذلك التكرار النوعي: تعدد الأفراد الموصوفة بصفات العلة الأولى (إذ اتخاذ الولد فيما رأينا من حالاته في هذا العالم إنما يكون الوالد والولد فيه من جنس واحد ونوع واحد، وهي حقيقة التكاثر والتوالد كما نعقلها) وهذا قبيح في حق الخالق قطعا لأنه يتناقض ووصفه الضروري تبارك وتعالى بأنه العلة الأولى الواحدة التي لا يكافئها ولا يماثلها شيء، فلا تتعدد ولا تتجنس ولا تتكاثر ولا تتوالد ولا تتناسخ ولا يجوز ذلك في حقها. ولهذا ترى النصارى لما قالت بتلك المقالة الشنيعة، وقعت في حيص بيص في تصور صفات ذلك الكيان "اللاهوتي" (أي معاني تلك الصفات نفسها) الذي هو إله كأبيه سواء بسواء، هل هو عين أبيه أم هو "من أبيه" على بدعتهم التي سموها "بالأقنوم" أم غير ذلك، وتراهم يقولون بأنه أول أزلي مثله بلا ابتداء، فكيف تجتمع صفة الأولية (الأزلية) مع وصف الشيء بأنه "ولد" قد اتخذه والده ولدا؟! هذا لا يعقل. هو وصف بمعاني باطلة في العقل بدلالة المطابقة والاقتضاء اللغوي الصريح، فو قبيح قطعا من هذه الجهة.

    ومثل هذا يقال في قولة النصارى إن الإله قد نزل إلى الأرض ليصلب ويعذب، حتى يرفع عن البشرية خطئية أبيهم آدم. هذا فعل قبيح بضرورة العقل، لا يليق برب العالمين لأن العقل يوجب ألا تزر وازرة وزر أخرى، وألا يؤاخذ إنسان بشيء لم يرتكبه، فعندما يقال إن الرب الخالق العادل الحكيم قد أنزل "ابنه الوحيد" ليصلب فتمحى بذلك خطيئة آدم التي كان الرب من قبل قد علقها بأعناق ذريته كلها من بعده بزعمهم، من غير أن يكون لهم يد فيها ولا علم، فهذا ظلم بيّن لا نعرفه بالقياس على أفعال البشر، وإنما من تخلف معنى الذنب (في صريح اللغة) عن آحاد ذرية آدم، إذ لم يكن لهم في خطيئة أبيهم من يد ولا شهدوها أصلا، فكيف تتعلق بأعناقهم تلك الخطيئة ابتداء، حتى يقال إنها لن تغفر لهم إلا إن آمنوا بأن المسيح قد صلب من أجلهم؟!
    والشاهد أن العقل لما حكم بقبح هذه المعاني في حق رب العالمين لم يكن ذلك من قياس على أفعال وصفات المخلوقين، وإنما كان مرجع التقبيح إلى فساد المعنى المزعوم في نفسه، ومناقضته لضرورة العقل (1) في حق من لا يصح له إلا كل كمال سبحانه وتعالى.

    أمثلة يقع أصحابها في تشبيه الأفعال من حيث لا يشعرون.

    ومن أشهر الأمثلة لوقوع بعض إخواننا المتصدرين للرد على الملاحدة في بدعة تشبيه الأفعال، ذلك المثل الذي يضربه بعضهم لله تعالى بقولهم: هب أنك مدرس في مدرسة، أما كنت لتفعل بتلامذتك كذا وكذا لمصلحتهم؟ فكذلك الله سبحانه يفعل بنا نحو ذلك فيما أرسل من المرسلين. ونظير ذلك قولهم: تصور أنك أب تريد أن تهذب ولدك، أما كنت لتفعل معه كذا وكذا حتى يصلح ويستقيم؟ فكذلك الله تعالى فيما يفعله بنا في الحياة الدنيا! ومثله قولهم: ألا ترى الطبيب يضطر أحيانا لغرس الإبرة في جسد المريض وإيلامه من أجل أن يعالجه؟ ألا ترى الأم تضطر أحيانا إلى ضرب ولدها لتؤدبه؟ فهكذا يفعل الرب بعباده! ووجه الغلط والفساد في هذه الأمثلة ونحوها أن المدرس في المدرسة بشر مخلوق معلول محكوم بما حكمه به خالقه في الحياة الدنيا، وهذا ينطبع – ولا شك – على علاقة ذلك المدرس المخلوق بتلميذه المخلوق. فصحيح إن الله تعالى قد أرسل المرسلين لتعليم البشر ما فيه خير الدنيا وخير الآخرة، ولكن تشبيه حكمة الله تعالى في تكليف عباده بالمكاره (الأمور التي يكرهونها كراهة طبعية) مثلا بحكمة المدرس في أمره طلبته بشيء يكرهونه، هو من تشبيه الأفعال المذموم لأنه تحكم في علل الرب واختزال شنيع لحكمته سبحانه فيما يشرع! فإن علاقة الخالق بخلقه ليست علاقة مدرس بتلامذته! وكذلك يقال في الأب يفعل ما يفعل بولده. والطبيب لن يترك أحدا من مرضاه يهلك بلا علاج لأن علاجهم جميعا هو "الخير الأرجح" بمقياسه وتقديره، وكذلك الأم لن تحرص على تأديب ولد من أولادها وتترك بعض إخوته ليفسدوا وهي قادرة على إصلاحهم، لأنها مجبولة على خلاف ذلك! فإذا كان هؤلاء كلهم "مضطرين" أو "محتاجين" لفعل ما يفعلون إما لاجتناب شر واقع بأنفسهم (كعقوبة أن نحوها) أو لجلب خير لهم يخشون فواته (كالمكافأة أو لذة إشباع الشهوة والغريزة أو نحو ذلك)، فكل هذا من صفات المخلوقين والله تعالى ليس كمثله شيء!

    لهذا لا يفلح شيء من تلك الأمثلة في أداء ما يراد منه من محاججة الملاحدة، لأنه وإن كان فيه تقرير مطلق الموازنة بين الخير والشر في إرادات ومفعولات الله تعالى (وهو معنى صحيح قطعا ويشترك فيه الخالق مع بعض خلقه)، إلا أنه يفتح الباب للقياس على أولئك المخلوقين للوصول إلى تصور ذلك الخير الراجح (تعيين الحكمة والتعليل) الذي من أجله قضى رب العزة أن يقع في مخلوقاته ما نرى من الشر!

    كما أسلفنا فإن الله سبحانه وتعالى وتقدس ليس أبانا الذي في السماء الذي يحبنا محبة الأب لأولاده، فيعاملنا (أعني نحن البشر من خلقه) بما تقتضيه تلك العلاقة من معاملة، ولا هو أستاذنا الذي يعاملنا معاملة المعلم لتلامذته، ولا هو طبيبنا الذي يعالجنا ولا أمنا التي ترعانا، هذه كلها ونحوها من تشبيهات وأقيسة النصارى التي ليس في شيء منها معشار ما يجب لرب العزة تبارك وتعالى من تقديره حق قدره وإنزاله منزله! الله تعالى خالقنا الذي صنعنا واختار لكل منا ما اقتضته حكمته وعلمه ورحمته وكمال صفاته من ابتلاءات وأحوال ومآلات في هذه الدنيا التي خلقنا فيها وما بعدها، بصرف النظر عما إذا كنا نستحسن تلك البلايا والأحوال والمآلات (كلها أو بعضها) لأنفسنا أم لا، وبصرف النظر عما إذا كنا نحيط علما بالحكم والمقاصد والغايات عند الله تعالى من تلك الأحوال والابتلاءات أم لا! لذا نقول إن محبة الخالق لمن اختار أن يحبه من خلقه، كغيرها من صفاته وأفعاله، لا قياس لها على شيء من تلك المحابّ الممثل بها في تلك الأمثلة البتة، بل ولا على محبة الصانع منا معاشر البشر لشيء مما يصنع! هي محبة بموجب الاشتراك المعنوي اللغوي الذي نعقله وحسب، ولكنها لا قياس لها لا في حقيقتها ولا في لوازمها ولا في مقتضياتها على شيء من صور المحبة البشرية ولا على شيء من أفعال البشر بمن يحبون، ولا على شيء مما لأجله يحبون من يحبون! هذا جوابنا الواضح التام لكل من شطّ به عقله وراح يسأل: إذا كان الرب يحب المؤمنين حقا كما يدعون، فلماذا يفعل بهم كذا وكذا؟ وهو كذلك جوابنا لكل من زعم أن إثبات صفة المحبة لله تعالى على معناها الحقيقي المفهوم بظاهر اللغة، يلزم منه نسبة النقص إليه سبحانه، فوجب من ثم تأويلها إلى إرادة المغفرة ونحو ذلك تنزيها! هذه شبهة الملاحدة على صفات الله (في دعواهم أنها تجعله مماثلا للبشر في حقيقته Anthropomorphic)، التي ما وجد جهلاء المتكلمة في أمتنا مخرجا منها إلا أن يعطلوا أو يؤولوا ليلحدوا في أسماء ربهم بدعوى تنزيهه عما يقبُح في حقه، قبحهم الله!

    فأساس هذا النوع من الأمثلة أن يقال كقاعدة قياسية إن من يفعل كذا، فلا يُتصور منه إلا أنه يفعل كذا أيضا لزوما، أو أنه يريد من فعله هذا كذا وكذا ولابد، ولأن من الحَسن في حقنا معاشر الفاعلين أن نفعل كذا وأن يكون حاملنا على هذا الفعل كذا وكذا، ومن القبيح أن يكون غير ذلك، ولأن الله لا يجوز في حقه إلا أحسن الخصال، فإن الله كذلك يجب في حقه من الأفعال كذا وكذا، ولا يجوز في حقه من الأفعال والحِكم والتعليلات كذا وكذا. هذه طريقة المعتزلة في التحسين والتقبيح كما قدمنا، التي بها انتهوا إلى القول بأن الله تعالى يجب عليه فعل الأصلح للعباد مطلقا، لأن هذا هو الأحسن عقلا في أفعاله. ووجه كونه من القياس الفاسد في حق الله تعالى، أن جاء هؤلاء إلى ما يَحسن في نظر الواحد منهم أن يفعله بصنعته وخلقه، في إطار منظومته المعرفية التي تحكمه هو نفسه في الترجيح الأخلاقي وتصور معاني الحسن والقبح والخير والشر والظلم والعدل، وفي حدود ما تحيط به معرفته البشرية القاصرة من العلم بما هو صانع أيا ما كان، ثم جعل ذلك الحسن من الأفعال في علمه لازما بالقياس في حق الباري تبارك وتعالى الواحد الأحد القيوم الصمد الذي لم يكن له كفؤا أحد! فمن ذا الذي له أن يزعم أن ما كان من الأفعال والإرادات حسنا من أحدنا في نظرنا، فهو إذن حسن من الله تعالى كذلك ولابد، وأن ما كان من أحدنا قبيحا في نظرنا فهو من الله قبيح كذلك ولابد؟ ومن ذا الذي يملك أن يوجب على رب العزة تبارك وتعالى أن يصنع بخلقه ما يحبون وما يرونه هم أحسن لهم (سواء كان هو الأحسن لهم تحقيقا أو كانوا يتوهمونه كذلك من جهلهم وقصور علمهم)؟ من أين تأتي تلك القاعدة في الحكم الأخلاقي الذي به يعرف الحسن من القبيح من الأفعال، في حق أفعال رب العالمين؟

    يقول الملك القدوس ((فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)) [النحل : 74]
    ومن قبلها، قدّم سبحانه بسلسلة من الآيات التي تصف النعم والعطايا التي لا تكون إلا من ملك الملوك الذي بيده ملكوت كل شيء وخزائن كل شيء، تتتابع الآيات على نحو قوله سبحانه: ((وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ)) [النحل : 71]، ليأتي النهي عن ضرب الأمثال لله من بعد محاججة عقلية متينة لا يملك العاقل منها فكاكا، فيشهد على نفسه بما شهدت به فطرته.

    غير أنه ليس كل قياس أو اقتضاء في وصف الله تعالى والخبر عنه بضرب المثل يدخل تحت تشبيه الأفعال ولابد، والضابط في ذلك أن يُنظر في ذلك القياس هل يثبت منه للخالق صفة إضافية أو يوجب عليه فعلا ما أو يمنع في حقه فعلا ما بالقياس على المخلوقين، أم أنه يكتفي ببيان مقتضً صحيحا من مقتضيات إثبات المشترك المعنوي بين الخالق والمخلوق بقياس الأولى؟
    مثلا هب أننا قلنا: إن التلميذ لا يملك أن يقدم بين يدي أستاذه المخلوق، للتفاوت في مقدار العلم بينهما بما يوجب على الأول طاعة الثاني والتلقي عنه، فما بالك بمحل الإنسان من ربه الخالق إذ يعلمه ما ينفعه؟ هذا كما ترى ليس تشبيها يثبت صفة أو فعلا أو قصدا أو حكمة عند صاحب الفعل بدعوى اللزوم، وإنما هو إبراز لمقتضى إثبات معنى صحيح في حق الخالق ألا وهو كونه سبحانه يعلمنا ما ينفعنا، وهو المعنى المشترك بين الله تعالى وبين المعلم أو المدرس المخلوق إذ يعلم الناس ما ينفعهم، فنثبته ونقرر مقتضاه من طريق قياس الأولى في حق من نقطع بكماله في الاتصاف بذلك المعنى المشترك. فإذا كنا نحترم المعلم المخلوق الذي هو بشر مثلنا ونرفع كلامه فوق كلامنا، حتى قيل فيه (من علمني حرفا صرت له عبدا) ونحو ذلك، وهو مخلوق محدود الخلقة محدود العلم مثلنا، فما بالنا بما يليق من عموم البشر من خُلق وسلوك في معاملة خالقهم وخالق السماوات والأرض جميعا؟

    ونظير ذلك أن نقول إن الله هو ملك الملوك، فانظر كيف تقف بين يدي الملك من ملوك الدنيا، تصُفّ قدميك في المسجد لتصلي للذي خلقك أنت وسيدك وسيد سيدك وملوك الأرض أجمعين. فالمخلوق ملك والخالق ملك، ولكن القياس هنا ليس إلا قياس الأولى فيما يقتضيه معنى الوصف نفسه في حق رب العالمين. ومن قياس الأولى في الصفات والأفعال ما ورد من قوله عليه السلام "لله أرحم بعباده من هذه بولدها (يعني الأم)" (2) . وفائدة القياس هنا أن المعنى المشترك نحن نعقله وندركه، ولا نراه أشد ظهورا في شيء مما ندرك في هذا العالم من الأم ترحم وليدها، فإن تصورنا ذلك، وعلمنا أن الله أرحم بالمؤمنين من هذه بوليدها، استشعرنا عظم رحمته سبحانه بعباده المؤمنين، من غير أن يقع من ذلك في نفوسنا قياس لمعنى إضافي مما نراه في البشر أو تفصيل أو لزوم أو اقتضاء مزعوم قياسا على ما يكون في تقدير الأم لخير الخيرين وشر الشرين ونحو ذلك مما حقيقته تشبيه الأفعال!

    فإن قيل ألا يعد من هذه البابة أن نقول إنه كما تحرص الأم على ولدها فتضربه لتؤدبه وإن كانت تكره له الألم، فكذلك الله يبتلي عبده المؤمن ليغفر ذنبه ويرفع درجته؟ قلنا هذا المثال ينبغي أن يُتعامل معه بحذر شديد وأن يُحرر تحريرا جيدا لا ينتقل به صاحبه من المعنى المشترك الصحيح الذي أثبته النبي عليه السلام في الحديث، إلى القياس في الحكمة والتعليل. فلعل كثيرا من إخواننا ممن جربوا مجادلة الملاحدة بهذا المثال قد جاءهم جواب الملحد بقوله: "ولكن الأم مضطرة إلى هذا لأنها لا تملك خيارا آخر، ولو كان الأمر بيدها لجعلت الولد بحيث لا تضطر إلى إيلامه أبدا، أما الرب الخالق فكان قادرا على ذلك ومع هذا لم يفعله!"
    وهذا الجواب من الملحد تراه غالبا عندما يقع صاحب المثل في تلك المجاوزة التي نحذر منها ههنا. فإذا كان المعنى المشترك (تجويز وقوع الشر لخير أرجح) صحيحا في الأم كما في الله تعالى، فإن النظر في الحكمة والتعليل من فعل الله تعالى استنادا على مثال كهذا إنما هو من القياس المذموم (تشبيه الأفعال)، وهو ما يتوجه إليه جواب الملحد. ولو أن المثال حُرر على هذا النحو: "ألا ترى أن الأم ترجو خيرا وافرا من إيلامها ولدها الذي تحبه؟ فكذلك الله تعالى يريد الخير لعبده المؤمن إذ يبتليه بالأوجاع والأسقام"، لاستقام واقتصر على بيان المعنى المشترك دون المجاوزة إلى القياس الفاسد. أما لو حرره صاحبه على مثل قوله: "ألا ترى أن الأم تضطر إلى إيلام ولدها حتى تحسن تربيته، فكذلك الله يبلتي المؤمنين في الدنيا بالآلام والأوجاع" فهو واقع بذلك في القياس وتشبيه التعليل والحكمة في موضعين، إذ يقرر أولا أن الأم تفعل ذلك اضطرارا، بينما نحن نعلم ببداهة العقل أن الله ليس "بمضطر" إلى شيء يفعله بعباده جل وعلا، ويقرر ثانيا أن الأم تريد تربية ولدها، بينما نحن نعلم أن حكم الله تعالى من ابتلاء المؤمنين لا تقاس على هذه الصورة، وإن كان الله أرحم بعبده منها بولدها، ففي حكمته سبحانه من الإيلام والابتلاء بالمرض ونحوه: مغفرة الذنب وتطهير القلب وتذكير العبد بالخضوع والإخبات والضراعة لربه، وفيها ما يتجاوز العبد المبتلى نفسه ليتعلق بغيره من الخلق ممن حوله، إلى غير ذلك مما لا يعلم منتهاه في الحكمة والتعليل إلا الرب جل وعلا. فمن أمثال هذه الصياغات الفاسدة ينفتح الباب لجواب الملحد الذي ذكرناه آنفا. وعليه يجب أن يكون المرؤ على حذر شديد في تحرير ما يكتب في شأن الملك جل وعلا، وإلا جنح إلى نحو ما ترى من حيث لا يشعر، والله المستعان.
    أبو الفداء ابن مسعود
    غفر الله له ولوالديه

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    المشاركات
    3,277

    افتراضي رد: رسالة: فَصْلُ المَقَالِ في التَحْذيرِ مِنْ بِدْعَةِ تَشْبِيهِ الأفْعالِ

    في مسألة إرسال الرسل.

    من الغلط المنتشر عند بعض إخواننا طلبة العلم عند تناولهم مسألة إرسال الرسل، قولهم إن العقل ينفي (أو يحكم بالقبح على) فكرة أن يترك الله تعالى العباد في هذا العالم "هملا" دون أن يبين لهم ما تصلح به حياتهم. فهذا في الحقيقة هو عين مقالة المعتزلة بقبح ترك الله تعالى لإرسال الرسل في الدنيا لهداية البشر ودلالتهم على ما فيه صلاحهم، ومن ثم إيجابهم ذلك الفعل على الله تعالى. فإذا ما ناقشتهم في ذلك، أتوك بكلام بعض أهل العلم في سياق تفسير نصوص القرءان ذات التعلق بهذه المسألة، يظنون أن القرءان يصرح بوجوب ذلك على الله تعالى مطلقا بمقتضى كمال صفاته سبحانه. ولعل سبب الخلط في هذا عندهم أنهم يستدلون بنص القرءان الذي فيه كلام الله تعالى فيما هو الأكمل لهذا العالم بعينه في سياق حكمته من خلقه وما قضاه فيه جل وعلا من قبل من إرسال للمرسلين فيه ووعد به آدم وزوجه وهو يهبطهما من الجنة في قوله: ((قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) [البقرة : 38] لدلالة شطر من بني آدم لسبيل النجاة، على وجوب ذلك مطلقا على الله تعالى (بمقتضى كمال صفاته) في كل مرة يخلق فيها نوعا من أنواع المخلوقين كنوعنا، في نوع من أنواع العوالم كعوالمنا (وهو الوجوب العقلي الذي ادعته المعتزلة على ربهم لدعواهم حسن ذلك مطلقا منه سبحانه). ونقول لا شك أن العقل يستحسن الوفاء بالوعد، ويستقبح نقضه وهتكه، فمن هذا الوجه ومنه وحده، قبح في حق الله تعالى ألا يرسل رسلا في هذا العالم بعينه من بعد آدم. وإلا فهب أنه سبحانه ما قضى في حق آدم وامرأته وعدوهما إبليس ما قضى من أحداث فيما قبل نزولهم إلى الأرض، ولم يعدهم بما وعدهم به فيما مر بك من كلامه سبحانه، أفكان من شيء يوجب عليه جل وعلا أن يرسل أحدا من المرسلين في هذا العالم من بعد آدم نفسه عليه السلام؟

    من قال "الله أعلم بما هو الأحسن في حقه والأليق بكمال صفاته في مثل هذا وغيره" فقد أحسن الجواب ههنا ووفى بالمطلوب! أما من تكلف أن يقول "نعم هذا هو الأحسن منه قطعا لأنه لا يليق به أن يترك البشر هملا من غير أن يدلهم على الغاية التي من أجلها خلقهم"، فهذا واقع فيما قالت به المعتزلة من قبل من تشبيه الأفعال والتحسين والتقبيح قياسا، ولا يصح له أن يتترس بما وجد من نظير ذلك في كلام بعض العلماء في سياق تفسيرهم لآي القرءان كما أسلفنا. ذلك أنه لا سلطان لنا من علم ولا عقل إن ادعينا أن ترك الرب جل وعلا البشر في هذا العالم من بعد آدم بلا رسل ولا رسالات ولا كتب ولا شرائع (على افتراضنا جدلا أنه لم يتفضل على ذرية آدم بما وعده به): ما كان لتتحقق به الحكمة والغاية المعلومة لديه سبحانه من خلقنا في هذا العالم، ولا يجوز لنا بحال من الأحوال أن ندعي أنه يلزم منه وقوع الظلم. فما الذي يمنع في العقل على افتراض هذه الصورة من أن تكون حكمته قد اقتضت أن يموت سائر البشر من بعد آدم ومن اهتدى من ذريته برسالته عليه السلام = من غير رسالة ولا هداية البتة؟ لا شيء عند التحقيق.

    لذا يصح أن نقول: إن الله تعالى قد اقتضت حكمته بالفعل أن يرسل من المرسلين ما أرسل سبحانه حيث أرسلهم وقتما أرسلهم، فما كان يليق بكمال صفاته أن يفعل شيئا غير ما فعل تحقيقا أو أن يقضي أمرا غير ما قضى، لأنه لا يقضي إلا بالأحكم والأحسن في علمه جل وعلا. ومن هنا، ولأنه سبحانه قد وعد بإرسال المرسلين في بني آدم رحمة بشطر من عباده (الذين اتبعوا الهدى وأجابوا داعي الرسل) فلا يتركهم جميعا هملا من غير دلالة أو إرشاد، فقد وقع منه الأحسن سبحانه وتعالى تحقيقا في هذه الحالة بحسبها، وما كان ليتخلف عن مطلق إرسال المرسلين من بعد آدم لأن هذا يكون إخلافا لما وعد به جل وعلا وما اقتضته حكمته ورحمته في هذا العالم تحقيقا. أما أن يقال إن فعل إرسال الرسل على نحو ما كان من الله تعالى كان واجبا عليه عقلا سواء وعد آدم بذلك أم لم يعد، أو بعبارة أخرى إن إرسال المرسلين إلى البشر هو الأحكم والأحسن من الله مطلقا وأن كمال صفاته يقتضيه مطلقا في كل عالم كعالمنا لنوع من المخلوقين كنوعنا (وهي مقالة المعتزلة وتقاربها مقالة بعض إخواننا) فهذا تحكم في حِكم الله وعلله وإراداته وهو من تشبيه الأفعال.

    فإن قالوا نحن لا ننطلق في هذا الإيجاب العقلي من منطلق المعتزلة حيث يزعمون أن الله يجب عليه فعل الأحسن للعباد مطلقا، وإنما ننطلق من ذلك من أصل أن حكمة الله في خلق البشر تقتضي إعلامهم بما خلقهم من أجله، قلنا: بل وافقتم المعتزلة في التعليل وإن خالفتموهم في إطلاق القاعدة! ذلك أنهم لما نظروا فيما يكون منهم لو كانوا هم الخالقين، وجدوا أن الأحسن أن يدلوا جميع خلقهم على ما فيه غاية المصلحة لذلك الخلق، وأن يوفروا لهم من أسباب الهداية والصلاح ما يحقق ذلك القصد، وهذا هو القول بوجوب الأصلح، أما أنتم فلما نظرتم وجدتم أن الأحسن إن كنتم خالقين، أن تخبروا المخلوق بالغاية التي من أجلها خلقتموه، لأنه لا يحسن أن يترك المخلوق هملا، وهذا تشبيه وذاك تشبيه ولا فرق، وكلاهما يؤول إلى نفس الأصل لو تأملتم. ألا يصح في العقل أن تشتمل الغاية التي خلق الله من أجلها بعض خلقه على تركهم ليموتوا من غير أن يرسل إليهم من يخبرهم في الحياة الدنيا بالغاية التي من أجلها خلقهم؟ بلى ولا شك، ومن نفى ذلك فقد خالف العقل والحس والواقع، فما أهل الفترة إلا قوما قد ماتوا من غير أن تبلغهم رسالة ولا نذارة ولا بيان بالغاية التي من أجلها خلقهم ربهم، فهل يذم الرب جل وعلا بأن "تركهم في الدنيا هملا"؟ معاذ الله!

    فالأمر الذي يجب أن ينتبه إليه كل لبيب من إخواننا أن الذي اقتضى كمال صفاته وصول الرسل والمرسلين إلى شطر من عباده في هذا العالم، قد اقتضى كمال صفاته – كذلك – عدم وصول ذلك الخير إلى شطر آخر منهم (يقال له أهل الفترة) في هذا العالم أيضا! فوجب أن تكون كلا الخصلتين منه كمالا سبحانه، وإن جهل من جهل وجه كونه كمالا في إحداهما! فمن ادعى إن إرسال المرسلين في هذا العالم أحسن مطلقا في حق الله تعالى من عدمه، فقد اتهمه سبحانه بأنه قد قصر عن فعل الأحسن والأكمل إذ قضى في شطر من البشر (قل عددهم أو كثر) أن يهلكوا من غير أن يأتيهم منه نبي ولا رسول!

    والقصد أن كثيرا من المسلمين متلبسون في واقع الأمر بمقالة وجوب فعل الأصلح والأحسن للعباد على ربهم سبحانه التي قالت بها المعتزلة، وهم يحسبون أنهم في عافية منها. ووجه كون قولهم من تشبيه الأفعال ومن دعوى وجوب فعل الأصلح للعباد، أن القول بوجوب إرسال الرسل مطلقا لا تعليل له عند من يعقله إلا أنه الأحسن والأصلح لكل نوع كنوعنا هذا في كل عالم كعالمنا هذا! فإن تجرد الإنسان من تصور أن كل ما هو أحسن له أو لنوعه أو لمثل نوعه، في هذا العالم أو غيره، فهو أحسن من الله تعالى ولابد ومن ثم فهو مقتضى كمال صفاته وتمام حكمته، فإنه لن يجد مستندا واحدا يؤسس عليه دعوى وجوب إرسال المرسلين في هذا العالم أو غيره، إلا ما سبق من وعد رب العالمين لآدم بأن يتفضل على ذريته بأن يجعل فيها من الرسل والنبيين ما شاء أن يجعل جل وعلا، وأن يبعث فيهم النبيين تترا، كما جاءت به النصوص! فلو أنه قد قضت حكمته وعلمه من قبل ألا يتفضل بذلك ولا يرسل في ذرية آدم في هذا العالم أحدا من المرسلين من بعد أبيهم قطّ، وألا يجعل لهم من دلالة ولا إرشاد إلا ما علمه لآدم عليه السلام قبل أن يهبطه إلى هذه الأرض، أفيحق لعاقل من المسلمين أن يزعم أنه بذلك يكون قد نزل عما هو أحسن وأكمل في حقه سبحانه من الأفعال والإرادات، وتخلف عما هو أليق بكمال صفاته، سبحانه وتعالى وتقدس؟ ألا يجوز أن تقتضي حكمته ألا يرسل أحدا من المرسلين من بعد آدم قط؟ من زعم أن هذا نزول عن فعل الأحسن وهو قبيح، فقد وافق المعتزلة في وجوب فعل الأصلح للعباد في هذا العالم وإن ظن خلاف ذلك، وكان لازم كلامه الطعن في حكمة رب العالمين في تركه أمما من البشر بلا رسول ولا هداية في الحياة الدنيا!

    دعني أكرر الجزئية الآنفة بعبارة أخرى حتى تتضح (وأرجو أن يتنبه القارئ للأهمية وأن يدقق).
    من قال إنه لا يصح في العقل أن يخلق الله تعالى خلقا لغاية ما ثم لا يخبرهم بتلك الغاية، فقد حكم حكما باطلا وأطلق تعميما جائرا. ووجه بطلان التعميم أن إعلام الخالق لمخلوقيه بشيء ما (نوعا ومقدارا) يتعلق بحقيقة تلك الغاية نفسها عند الخالق! ذلك أنه قد يكون من تلك الغاية نفسها في إرادة الله الكونية وفي علمه التام وحكمته السابغة ألا يخبر بعض خلقه بشيء في الدنيا (أي من طريق المرسلين) أصلا، مع جزمنا بأنه لا يظلمهم بذلك، تماما كما اقتضت حكمته – بالفعل – في هذا العالم أن يترك شطرا من خلقه دون أن تبلغهم رسالة أو نبوة! فالحكم بالحسن أو القبح على فعل الإعلام ههنا (من طريق الرسل) يجب أن يقوم على ضبط مفهوم الغاية (العلة) والحكمة من الخلق نفسه عند فاعله والمصدر المعرفي الذي تتأسس عليه ابتداء، وهذا المصدر ما كان لبشر أن يحظى منه بشيء من المعرفة إلا بمقدار ما يشاء الخالق كشفه للعباد! وهو ما يجعلنا نمنع من التعامل مع أي تصور لحال البشر في الدنيا على أساس من الإلمام والإحاطة المعرفية بتلك الغاية من خلق البشر عند رب البشر على وجه التفصيل كما يرومه ويشترطه الملاحدة، وكما افتتنت بفلسفاتهم فيه المعتزلة وعامة اللاهوتيين وكثير من طوائف المتكلمة! فلا يخفى أن الذي مات على الكفر لم يُخلق لذات الغاية أو الحكمة الكونية التي من أجلها خُلق من مات على الإيمان، وأن من بلغته الرسالة لم يخلقه الله تعالى لذات الغاية التي خلق من أجلها من مات من أهل الفترة، والأمر في ذلك ليس لنا فيه إلا أن نقول: "الله أعلم بما هو فاعل بعباده".

    فإن قيل إن الله تعالى يقول في كتابه ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون))، قلنا هذه الآية في الإرادة الشرعية من خلق هذين النوعين، فلا يلزم من ذلك أن يكون جميع الجن والإنس مخلوقين لغاية أن تقع منهم تلك العبادة كونا وتحقيقا! بمعنى أن مقصود الله تعالى من خلق هذين النوعين (بمجموعهما) وتكليفهما (سواء في الحياة الدنيا أو فيما بعدها) إنما هو خضوعهما بالعبادة له سبحانه. ولكن هذا لا يلزم منه أن يكون جميع أفراد النوعين متحققين بالعبودية له، إذ إن من تمام حكمته ومما يتحقق به ذلك المقصود الأسمى نفسه على وجه التمام لديه، أن يجعل منهم – بإرادته وخلقه وتقديره – من لا يعبده طرفة عين، لا في الدنيا ولا في الآخرة. وهذا هو تفريق أئمة أهل السنة بين الإرادة (أو الغاية) الكونية والإرادة (أو الغاية) الشرعية، فلينتبه إليه. فإن المعتزلة ما قالوا بنفي القدر إلا لتسويتهم بين الإرادتين في حق الله تعالى (وكذلك صنعت الأشاعرة في الجهة المقابلة فوقعوا في الجبر كما وقعت المعتزلة في القدرية)، حيث زعموا أن الله لابد وأنه لا يقدر على أن يهدي الضال، لأن هدايته هي الأحسن والأصلح له، فلو كان قادرا عليها لما تخلف عن فعلها سبحانه، فلزم أن تكون خارجة عن معنى القدرة في حقه، وأن يكون الإنسان خالقا لأفعاله وإراداته، فآل أمرهم بذلك إلى القدرية! وهذا عند التأمل نظير ما يقال له مشكلة الشر عند الملاحدة، غير أنهم أجابوا عن دعوى التناقض بين كونه قادرا على منع الشر (أو المفعول القبيح في خلقه) ومع هذا لا يختار منعه تحقيقا، وبين كونه موصوفا بكمال الصفات كلها، لا بأن نفوا وجوده سبحانه بالكلية كما فعلت الملاحدة، ولكن بأن جعلوا أفعال العباد من خلقهم هم وتقديرهم هم لا من خلقه سبحانه، يخلقونها بإراداتهم الحرة من غير تقدير مسبق منه ومن غير أن تكون تابعة لإرادته جل وعلا (وهي مقالة القدرية)!

    يقول ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في وصف المعتزلة في شرحه على الطحاوية:
    "وَهُمْ مُشَبِّهَةُ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهُمْ قَاسُوا أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَفْعَالِ عِبَادِهِ، وَجَعَلُوا مَا يَحْسُنُ مِنَ الْعِبَادِ يَحْسُنُ مِنْهُ، وَمَا يَقْبُحُ مِنَ الْعِبَادِ يَقْبُحُ مِنْهُ! وَقَالُوا: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، وَلَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ!! فَإِنَّ السَّيِّدَ مِنْ بَنِي آدَمَ لَوْ رَأَى عَبِيدَهُ تَزْنِي بِإِمَائِهِ وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ لَعُدَّ إِمَّا مُسْتَحْسِنًا لِلْقَبِيحِ، وَإِمَّا عَاجِزًا، فَكَيْفَ يَصِحُّ قِيَاسُ أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أَفْعَالِ عِبَادِهِ؟! وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ, فَأَمَّا الْعَدْلُ، فَسَتَرُوا تَحْتَهُ نَفْيَ الْقَدَرِ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ الشَّرَّ وَلَا يَقْضِي بِهِ، إِذْ لَوْ خَلَقَهُ ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ يَكُونُ ذَلِكَ جَوْرًا!! والله تعالى عادل لا يجور. ويلزم عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يكون في ملكه ما لا يريده، فَيُرِيدُ الشَّيْءَ وَلَا يَكُونُ، وَلَازِمُهُ وَصْفُهُ بِالْعَجْزِ! تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ," اهـ. (شرح العقيدة الطحاوية، طبعة دار السلام، الطبعة المصرية الأولى، ص 521)

    فتأمل كيف أن الأصل العقلي الكلي (أو إن شئت فقل: الشبهة العقلية الكلية) الذي منه انطلقت المعتزلة في تنظير قاعدتين على الأقل من قواعدهم الخمسة (العدل والوعيد وما تحتهما من تحسين وتقبيح) هو بعينه أصل ما يقال له "مشكلة الشر" عند الملاحدة! فأصل العدل عندهم نابع من شبهة أن خلق الشر في العالم شر في نفسه، ومجرد إرادة نوع القبيح لا تجوز في حق الله تعالى، وإذن فلا يجوز أن يكون هو خالق الشر! (ولهذا قيل إن القدرية هم مجوس الأمة لأن مقالتهم لازمها أن للشر خالقا غير خالق الخير، وهي مقالة الثنوية، ووافقتهم عليها طوائف النصارى التي غلت حتى جعلت إبليس ندا لله يخلق الشر كما يخلق الله الخير). وهذا الجواب (القول بنفي القدر وبخلق البشر لأفعالهم) قد سُبقت المعتزلة إليه في فلسفات اللاهوت النصراني من قبل في بعض ما يقال له نظريات العدل الإلهي Theodicy التي لا يوصل من أكثرها عند التحقيق إلا إلى نفي خلق الله للشر ولأفعال العباد، والزعم بمنافاة التخيير للقدر ومن ثم القول بالقدرية، ونحو ذلك مما ابتدعته سائر أهل الملل والنحل في الرد على شبهة الملاحدة في مشكلة الشر! وأما أصل الوعيد فكما مر بك.

    ولا فرق عند التحقيق بين القول بوجوب فعل الأصلح لمجموع العباد في الأرض ووجوب فعله لجميعهم (والفرق بين وقوع الشيء على المجموع ووقوعه على الجميع، أن الأولى لا تفيد استغراق جميع الأفراد في ذلك الشيء، بينما تفيد الثانية هذا المعنى). فقد تجد من المسلمين من يقول إن الله لا يليق بكمال صفاته في العقل أن يترك النوع البشري (بهذا العموم الذي يراد به المجموع) في الأرض بلا رسل ولا رسالات، ولكن هذا لا يمنع من أن يموت كثير من بني آدم دون أن تصلهم تلك الرسالة. وكما سألنا من زعم وجوب ذلك عقلا لأعيان العباد جميعا، فإننا نسأل من زعم وجوبه للمجموع كذلك: ما حجتك وما مستندك في تحسين ذلك وتقبيح خلافه من الله تعالى؟ حقيقة قولك أنك تزعم أن تخلف الرسالة عن بلوغ جميع البشر في الدنيا قبيح بينما تخلفها عن بعضهم (كما هي الحال في عالمنا) ليس بقبيح، وهذا منك تناقض واضح لأن محصول ذلك التخلف واحد نوعا (وهو هلاك أقوام بلا رسالة) وإنما يتفاوت في مقداره لا غير. فإن قلت إن تخلف الرسالة عن الجميع أذم وأقبح من تخلفها عن بلوغ بعضهم فهذا حقيقته نسبة القبح إلى ما قضاه الله في البشر تحقيقا من وجود أهل الفترة! وفي جميع الأحوال فلا مستند لك في ذلك كله إلا مستند المعتزلة في أن الحسن عند الله (أو الخير الأخلاقي في وصف أفعال الله) إنما هو ما يستحسنه الإنسان لنفسه في حاضر أمره في الدنيا ومستقبله بعد موته.
    وعند هذا ترى جنوحه في الكلام إلى بيان أن من فاتته الرسالة في الأرض فستأتيه في الآخرة لا محالة لأن الله من عدله ورحمته وحكمته وكمال صفاته أنه لا يعذب حتى يبعث رسولا. والذي يحمله على هذا المسلك في الحقيقة أنه يستشعر في نفسه أن ثمة نقصا قد وقع منه في دعواه، فلم يجد إلا أن يصادر على محل البحث ليقرر أن من لم يقع له التعرض للرسل والرسالات في الدنيا فهو واقع له في الآخرة لا محالة، وإذن فلا ضير! ولو أنك سألته: فما المانع إذن من أن يجعل الله تعالى رسالته للناس كلهم في الآخرة بعد الموت لا في الدنيا، من غير أن يبعث فيهم رسولا في الدنيا قط؟ فلن تجده إلا قائلا لك: لأن جعلها في الدنيا أحسن! فنقول: أحسن في علم من وعلى أي اعتبار؟ نعم هو أحسن للناس في الدنيا ولا شك، ولكن كلامك هذا حقيقته أن فعل الأحسن للناس والأصلح لهم متعين على رب الناس، وأنه هو الأحسن في علم الله ولابد، وبهذا تكون قد قلت بوجوب فعل الأصلح الذي قالته المعتزلة، وخاطبت الملاحدة في جواب اعتراضاتهم الصبيانية السخيفة على وقوع الشرور والمكروهات في مفعولات خالقهم في الحياة الدنيا، بعين ما خاطبهم به ضالة المتكلمين من قبل، فانتبه!

    إن القول بوجوب استواء سائر البشر فيما بلغهم من الرسل في الدنيا لم يأت إلا من ظن المعتزلة أن التسوية بين الخلائق في الفضل من مقتضى العدل، وأن التفريق في العطايا والمنح الربانية بين المخلوقات ظلم. وهذا من تشبيه الأفعال لأن مفهوم العدل عند صاحب هذا الكلام إنما جاء من قياسه الأمر على نفسه هو! فكأنما يرى أنه لو كان الأمر إليه، لحرص على ألا يموت أحد من البشر في الأرض إلا وقد مر به رسول أو مرت به حجة رسالية، لأنه لو تخلف عن هذا لكان ظالما إذ أوصل إلى أقوام من الخير ما لم يوصله إلى غيرهم، فلم يسو بينهم فيما آتاهم من ذلك!
    ولهذا أجابهم أئمتنا بأن إرسال الرسل في الأرض ليس واجبا على الله تعالى أصلا، وأن التسوية بين البشر في ذلك ليست هي مقتضى العدل والحكمة، وحاججوهم بمطلق وجود أهل الفترة في تاريخ العالم تحقيقا وبموت أقوام كثيرة من البشر من غير بلوغ الحجة الرسالية إليهم، وبهلاك أقوام على الشرك من غير أن يقضي رب العزة من أسباب هدايتهم في الأرض ما أنعم بمثله على غيرهم من خلقه! فلو أنه سبحانه شاء ألا يموت إنسان في هذا العالم من غير أن تكون قد بلغته رسالة من الرسالات ووصله نور الوحي الرباني، لفعل سبحانه ولما أعجزه ذلك، ولكنه لم يقع، فدل على أن هذا ليس هو ما اقتضته حكمته جل وعلا، وإنما اقتضت أن يكون الأنبياء والمرسلون بهذا العدد الذي كانوا عليه من غير زيادة ولا نقصان، وأن يرسَل كل واحد منهم إلى بلد معين دون غيره، وأن يخاطب قوما بأعيانهم دون غيرهم! وإلا لجاز أن يقال لماذا لم يرسل الله جل وعلا ضعف هذا العدد من المرسلين ليقلل من مساحة الأرض التي لم تفش فيها الدعوة، ومن أعداد البشر الذين لم تبلغهم الرسالة؟ أليس هذا من الظلم؟ ونقول قطعا ليس من الظلم لأنه لم يكن من مقتضى العدل – أصلا – أن يستوي سائر البشر فيما يبلغهم من رسالات المرسلين، وفي الطريقة التي تبلغهم بها تلك الرسالات، ونوعية القرائن التي تؤدي إلى حصول تلك المعرفة لدى كل منهم إن قُدر حصولها!

    ومثل هذا يقال في أمم البشر وأقوامهم وجماعاتهم، فلا يقال أليس من العدل أن تستوي جميع الأمم فيما جاءهم من الرسل والنبوات؟ هذا قياس فاسد لأن التسوية في العطاء أو في الابتلاء من الخالق لخلقه ليست من مقتضيات العدل الإلهي، فلا يصح أن يقال إن مطلق التفريق بينهم ظلم! ألا ترى كيف أن الله جل وعلا لما خاطب بني إسرائيل في القرءان يبكتهم لقسوة قلوبهم، حاججهم بأنه سبحانه قد فضلهم على العالمين، بما كان حقه أن يقابَل من جانبهم بمزيد من الشكر والإخبات فوق ما كان من غيرهم من الأمم، لا بالاسكتبار والغرور وغيره مما كان منهم؟ فبأي شيء فضلهم جل وعلا؟ فضلهم بأن جعل فيهم الأنبياء ذرية بعضها من بعض، فلا يأتي فيهم نبي إلا خلفه نبي من نسله! فهل يجرؤ أحد من المسلمين على أن يزعم أن هذا التفضيل كان ظلما لما سوى اليهود من الأمم؟ وهل ظلم سبحانه هنود أمريكا – مثلا – أو سكان أحراش إفريقيا بأن لم يجعل لقرية من قراهم أو لقوم من أقوامهم مثل ما جعل لهؤلاء من تسلسل الأنبياء في سلسلة متصلة؟ كلا ولا شك، سبحانه وتعالى علوا كبيرا! فكذلك نقول إنه لا يظلم قوما من الأقوام إن اقتضت حكمته ألا يبعث فيهم نبيا ولا رسولا أصلا في زمانهم أو في مكانهم حيث كانوا، لأن إرسال المرسلين في بني آدم فضل من الله يؤتيه من يشاء، وحكمة الله تعالى في خلق البشر تتحقق ببلوغه من بلغهم وتخلفه عمن لم يصل إليهم، سواء بسواء، لا بأحد الوجهين دون الآخر! وهو (أي هذا الفضل الرباني) كسائر ألوان النعم والعطايا الربانية = ابتلاء كبير يبتلي به من يريد من عباده، سبحانه وتعالى!

    فلا يحسبن من جاءه ذلك الخير الرباني الوافر الذي فُضل به على كثير ممن خلق الله تفضيلا، إذ وُلد في بلد ما في زمان ما فوجد فيها رسولا من رسل الله أو نبيا من أنبيائه، أنه قد حظي بتفضيل حقيقته أن يكون خارجا على سبيل الاستثناء من سنن الله الكونية والشرعية في خلقه! هذا ظن باطل ما وقعت المعتزلة قاتلهم الله في نفي الشفاعة يوم القيامة إلا من زعمهم لزومه منها، يحسبون أنهم بذلك يفرون مما وقعت فيه يهود من قبل من الظن بمنزلتهم عند ربهم إذ استكبروا في الأرض وعتوا وزعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه الذين لم يجب لهم من الله في معاملته إياهم إلا ما يكون للابن من أبيه!

    لقد ضرب الله بني إسرائيل مثلا في القرءان حتى يجعلهم آية وعبرة لكل عاقل! فهي أمة قد فُضلت بالفضل العظيم وتتابع فيها الأنبياء بالوحي والهداية فكانوا على اتصال بالسماء لأجيال متتابعة كالحبل الموصول، ومع هذا ركبتهم الأنفة والعزة بالإثم وزعموا أنهم خاصة الخاصة عند الله تعالى لمجرد أنهم من سلالة كذا ومن قوم كذا، حتى صار الدين عندهم بالدم والتناسل، بل زعموا أنهم هم البشر ومن سواهم دواب وإن شابهوا البشر، وأنهم ليس عليهم في أولئك "الأميين" من سبيل! وإذا بهم يجعلون من أنفسهم أندادا لرب البشر، ينازعونه الحكم والتشريع لعنهم الله! فلما ابتلاهم ربهم بأن أوحى لبعض أنبيائه بأن يطيعوا هم وأتباعهم رسولا يأتيهم من أمة أخرى من أولئك القوم الذين كانوا يعدونهم من قبل دواب (أميين) لا عقل فيهم ولا خير، انقلبوا عليهم كبرا وغرورا ونازعوا الله أمره وقتلوا أنبياءه، فصاروا أشد الأمم استحقاقا للعنة الله تعالى وغضبه، نسأل الله السلامة!
    أبو الفداء ابن مسعود
    غفر الله له ولوالديه

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    المشاركات
    3,277

    افتراضي رد: رسالة: فَصْلُ المَقَالِ في التَحْذيرِ مِنْ بِدْعَةِ تَشْبِيهِ الأفْعالِ

    فلإلزام المعتزلة لعلنا نسألهم بطريقتهم في قياس الأفعال: ألم يكن من الأحسن لليهود ألا يرسل الله لهم رسولا في الدنيا أصلا، وإنما يمتحنهم في عرصات الآخرة امتحانا واحدا كسائر أهل الفترة، فيعافوا بذلك من أن يموت أحدهم وقد عاش ستين أو سبعين سنة في هذا العالم على ملة يسب فيها رب العالمين ويقاتل رسله؟ فإن قالوا: الله أعلم، فإنا لا ندري ما عقوبة الله تعالى لأحدهم إن لم يوفق في امتحان أهل الفترة، فلعلها أن تكون أشدّ عليه وأعظم، قلنا لهم: فالزموا منزلتكم إذن ولا توجبوا على الله ما لا تعلمون! دعوا التنظير في الحكم والعلل الربانية بالقياس على ما ترونه وتعلمونه من عللكم أنتم وتحسيناتكم، فإن هذا عداون على رب العالمين كبير.

    فإن قالوا أليس قد قال تعالى ((وإن من أمة إلا خلا فيها نذير)) (فاطر: 24)؟ قلنا بلى، ولكن هذا ليس نصا في الإيجاب العقلي أصلا، ثم إنه ليس نصا في وصول النذارة لكل أحد من البشر! وإلا فما معيار "الأمة" وما ضابطها الذي ترى أنت أن العدل الإلهي يستلزمه؟ أليس قد قال الله تعالى: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ)) الآية [المائدة : 19]؟ فما بال الذين ماتوا في تلك الفترة؟ ألم يكونوا أمة – بل أمما - لا نذير فيها؟ فكيف نجمع بين آية فاطر وبين مطلق وجود أهل الفترة في الأرض؟ الجواب أن الأمة الواحدة – أيا ما كان حدها ووصفها المكاني (مسطح الأرض الذي تغطيه) والزماني (عدد الأجيال الداخلة تحتها) - لا يمر عليها قدر من الزمان عادة إلا رأيتها تتشعب من بعده وتتفرع عنها أمم، وقد تنقسم إلى قبائل وأقوام شتى وتتفرق في الأرض تفرقا كبيرا، وقد تظل متحققة بوصف الأمة الواحدة لقرون متتابعة ثم تبيد وتفنى، فلو أن الله تعالى لم يرسل إلا بضعة من الرسل في قوم نوح – مثلا – الذين نجوا معه في الفلك، من بعد أن تفرقوا في الأرض إلى أصول تلك الأمم والشعوب والقبائل التي نراها اليوم، لصح له سبحانه أن يقول في ذلك ((وما من أمة إلا خلا فيها نذير))، فكيف وقد جاء في صحيح السنة أن الله قد بعث من النبيين من يجاوز عددهم المئة والعشرين ألفا؟

    والقصد أن كل أمة من أمم البشر اليوم تتفرع عن أصل في سلفها القديم، قد تعرض – لا محالة – لرسالات المرسلين، وإن مرت بما مرت به من الفترة! فالخطاب في آية المائدة إنما خرج مخرج التفضل على أهل الكتاب، بأن جاءهم من الله رسول يبين لهم من بعد أن انقطعت عنهم الرسل فيما بعد عيسى عليه السلام. أما الخطاب في آية فاطر، فخطاب تفضل كذلك ولكن على عموم النوع البشري (مجموع أمم الأرض) بأن الله تعالى قد أرسل فيهم من المنذرين جمعا غفيرا فما ترك من أمة إلا بعث فيها من بعث. وسواء في هذه الآية أو تلك، فالخطاب موجه لأمة قد جاءها رسول من الله تحقيقا، ألا وهو محمد عليه السلام، فلا حجة لأحد من تلك الأمة المخاطبة بالقرءان (3) أن يقول يوم القيامة لم يأتني نذير ولا بشير!

    ولدقة مأخذ هذه الشبهة وخفائها على كثير من المسلمين، لا يصل كثير من الإخوة إلى جواب فصل تام الإحكام مع مجادليهم من اللادينيين والملاحدة في تلك المسألة ومتعلقاتها، لأنهم يُستدرجون في كل مرة إلى عين ما استدرَج الملاحدة إليه المعتزلة من قبل من تشبيه الأفعال، سواء بضرب الأمثال مما مر معك جانب منه ونحوه، أو بالسعي إلى تحرير موازنة بين ما قد يظهر لهم من الخير وما قد يظهر من الشر ترجح فيها كفة الخير في جميع تلك الحوادث والإرادات الإلهية التي يأتي صبية الإلحاد بالاعتراض تلو الاعتراض عليها. ولو أنهم قالوا إن الله ليس كمثله شيء، وليس علمه كعلمنا ولا تقوم حكمته في تعيين الأحسن فيما هو فاعل بنا ولا يترجح الخير في علمه (كحكم أخلاقي على أفعاله وإراداته) بناء على نظرنا نحن البشر وعلى معارفنا وتقديراتنا، وليس الخير عنده هو ما نحبه نحن لأنفسنا ولابد، ولا الشر عنده ما نكره نحن ولابد، لذا لم يجز أن نسأله عما يفعل من مفعولات يظهر لنا فيها الشر ولا ندري ما وجه الخير فيها، وكأن عقولنا تمنع من أن يوقع علينا خالقنا شيئا مما نكره (من حيث المبدإ) لخير لا نعلمه، أو من أن يفرق بين آحاد نوعنا فيما يتفضل به علينا من فضل ومنة ورحمة، فيعطي هذا ما يمنع ذاك، ويوسع لهذا فيما يضيقه على ذاك، لو أنهم اكتفوا بهذا المعنى لقامت به حجتهم على الملاحدة وعلى المعتزلة وعلى جميع من شذ عن الحق في هذه المسألة الدقيقة، من دون أن يستدرجوا إلى القول بوجوب هداية البشر في الحياة الدنيا ونحو ذلك من إطلاقات يغفل أكثرهم عن لوازمها، والله الهادي إلى سواء السبيل.

    لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

    جاء أحد الإخوة ذات يوم بشبهة تتكرر كثيرا في المنتديات المتخصصة في الرد على الملاحدة، وسماها "إشكالية"، ألا وهي سؤالهم: إذا كان الله لا يحتاج إلى عبادتنا إياه فلماذا خلقنا؟
    فأجبته بجواب أنقله ههنا بتمامه مع تصرف يسير للفائدة:
    "يقول رب العزة تبارك وتعالى: ((لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)) [الأنبياء : 23]. فهل تأملتَ في معنى هذه الآية يوما ما؟
    لماذا لا يُسأل الله عما يفعل؟ أليست لنا عقول يمكنها أن تسأل وتستفهم وتطلب المزيد والمزيد من الجواب، ولا تكتفي من طرح الأسئلة ولا تشبع من ذلك أبدا؟
    بلى! ولكن هذا - والله - من ابتلاء الإنسان بعقله! ذلك أن مجرد سؤال الله عما يفعل سؤال من يطلب الإحاطة المعرفية أو يريد الحكم على هذا الفعل أو ذاك كما يكون في سؤال المخلوقين عن أفعالهم = هذا من تشبيه الخالق بالمخلوق في أفعاله، وهو من أبطل الباطل، وهو أصل من بضعة أصول تقوم عليها سائر الممل الإلحادية التي عرفها الناس منذ أن ظهر الإلحاد على الأرض وإلى يومنا هذا.
    يا عبد الله: الإنسان مخلوق، جميع أفعاله مخلوقة، جميع صفاته مخلوقة مركبة فيه تركيبا، يقوم بغيره كما يقوم غيره به، تطرأ عليه الحاجة وتعرض عليه الضرورة كما هو شأن كل مخلوق، لذا فعندما يفعل شيئا ما، فمن المعقول ألا تخرج أفعاله عن دائرة الحاجة أو الضرورة. حتى عندما يحب ويكره (وهي أفعال قلبية) فهو محتاج لذلك بموجب غريزة ركبها فيه خالقه، لو لم يشبعها لذاق العنت والضرر. من هنا جاز في العقل أن يُسأل من هذا وصفه (كائن مخلوق مركب قد ركبت فيه صفاته وغرائزه وعقله الذي به يختار ما يختار)، عن اختياراته لماذا اختارها، وأفعاله ما الذي دفعه إليها، لأنه إن لم يكن مسؤولا من غيره من المخلوقين، فهو مسؤول من خالقه الذي ركب فيه تلك الأشياء.
    أما عندما نتكلم عن خالق الخلق جميعا، سبحانه وتعالى وتقدس، فنحن لا نتكلم عن مخلوق قد رُكبت فيه نفسه بما جُبلت عليه من دوافع فكرية وعاطفية لا تخرج عنها خياراته فيما يأتي من الأفعال وما يذر! فالله عندما يحب شيئا فلا يرد عليه أصلا أن يكون ذلك الحب من حاجة أو "غريزة" أو "شهوة" أو نحو ذلك! وكذلك فيما يكره وفي جميع ما يصدر عنه سبحانه من إرادات وأفعال! إرادات الإنسان وأفعاله معلولة بإرادة خالقه السابقة عليها ضرورة! أما الخالق القيوم فهو علة العلل الذي لا يسبقه شيء سبحانه، ولا يرد عليه النقص أصلا!
    أنت تشهد - كما أرجو - بصحة هذا الأصل العقلي الكلي وتوافقني عليه.
    فعلى هذا نأتي للسؤال المهم: هل يجوز لنا - عقلا - أن نسأل عن سبب أفعال هذا الخالق كما نسأل عن أسبابنا ودوافعنا خلف أفعالنا نحن المخلوقين؟
    تأسيسا على ما تقدم، لا تجد في عقلك إلا جوابا واحدا لهذا السؤال، وهو - ولله الحمد - عين ما قرره الملك سبحانه في الآية الكريمة!
    ولهذا أنكر أهل السنة على بعض طوائف المتكلمين (لا سيما المعتزلة) وقوعهم فيما يسمى "بتشبيه الأفعال". وتشبيه الأفعال بدعة خطيرة لا ينتبه إليها للأسف كثير ممن يشتغلون بالرد على شبهات الملاحدة في هذه القضية! تشبيه الأفعال يعني أن يقاس الله تعالى على مخلوقاته في أفعاله وإراداته، ليس في مطلق معانيها، فهي معاني نثبتها على ظاهرها ولا نرى في قولنا - مثلا - إن الله أحب كذا أو كره كذا أن فيه تشبيها بالمخلوقين (خلافا للجهمية وغيرهم من مبتدعة المتكلمين الذين قالوا إن مجرد هذا الإثبات المعنوي لازمه التمثيل)، ولكن يقع تشبيه الأفعال عندما يتطرق الإنسان إلى الخوض بعقله في تلك الأفعال بما يلزم من مجرده حصول التشبيه بالمخلوقين، ومن ذلك أن نسأل مثلا: لماذا اختار الله أن يخلق الإنسان ولم يكتف بالملائكة؟
    الجواب الكافي هنا إنما هو قوله تعالى: ((لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)) ويتجلى لك هذا المعنى في قوله تعالى في جوابه للملائكة يوم سألته عن سبب خلقه لآدم، ذاك المخلوق الضعيف الذي توقعوا من حاله أنه سيفسد في الأرض ويسفك الدماء = ((إني أعلم ما لا تعلمون))، ثم قال بعدما برهن لهم سبحانه على ما تقرر لديهم العلم به مسبقا من أنه يعلم ما لا يعلمون، بأن أظهر لهم ما علمه سبحانه لآدم مما لم تعلمه تلك الملائكة = ((ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون))، فما كان جوابهم إلا أن قالوا ((سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم)) فتأمل كيف أن الله تعالى ما زاد في أصل الأمر على أن قال لهم ((إني جاعل في الأرض خليفة))، فلما سألوه بين لهم أنه علمه الأسماء كلها وأعده لذلك الاستخلاف إعدادا، وأنه يعلم أنه سيقع منه الإفساد كما سيقع منه الإصلاح، ويعلم من أمره ما لا يعلمون. فهل زادوا بأن سألوه (مثلا): ولماذا تخلقه أصلا يا رب؟ ألسنا نعبدك ليل نهار لا نفتر عن عبادتك؟ ألا تكفيك عبادتنا الدائمة التي لا تنقطع، وقد ملأت بنا السماوات كلها؟ لا والله لم يسألوه سؤالا كهذا وما كان لهم أن يفعلوا! هذا سؤال من يدخل فيما لا شأن له به ولا يجوز له ذلك، وهو واقع - لا محالة - من مجرد السؤال نفسه في تشبيه الأفعال وقياس الخالق على خلقه! ما لازم أن يقع السؤال على هذه الصيغة: "ألا يكفيك كذا؟"؟ لازمه قياس الخالق على المخلوق، في معنى وقوع الخلق والتكوين من الحاجة التي يتصور لسدها وجود حدّ للكفاية، ما أن يبلغه الصانع حتى يكتفي ولا يزيد! وهذا قياس محض وتشبيه محض، قد تنزه الله تعالى عنه، وتنزهت ملائكته البررة عن أن تقع فيه!
    فنحن قد شهدنا بضرورة العقل أنه سبحانه لا تعليل لأفعاله إلا إرادته وعلمه وغيرها من صفات ذاته، بخلاف المخلوقين الذين تتعلل أفعالهم بإراداتهم وصفاتهم وغيرهم من المخلوقين أمثالهم، المعللة كلها بإرادة الخالق الواحد من فوقهم جميعا.
    ولو أنك تأملت، لوجدت أن أي سؤال عن سبب فعل الله كذا وكذا، كسائر الأسئلة عن الأسباب والتفسيرات، يحتمل أن يتسلسل سؤالا بعد سؤال. بمعنى أنني لو سألتك الآن: لماذا تكتب في المنتدى؟ لجاء جوابك: لأني أريد أن أعرف جواب مسألة ما. فإن قلت لك: ولماذا تريد أن تعرف جواب المسألة، فستجيب: لأني محتار فيها والوساوس تقتلني، فإن زدت وسألتك ولكن لماذا تحاصرك الوساوس؟، فقد ينتقل بنا الكلام إلى أمور تربوية وأمور تتعلق بظروف معيشتك وتركبيتك النفسية والفكرية .. الخ. والقصد أن هذا التسلسل في الإجابة عن السؤال "لماذا؟" جائز في حقك لأنك مخلوق. ولكن ما نهايته؟ ما نهاية هذا التسلسل في السؤال؟ نهايته بضرورة العقل أن نصل إلى نقطة نقول فيها: الله أعلم، هذا ما أراد الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا نجيب إلا بما علمنا (مما نرى إمكان أن نتوصل إلى العلم به بالأساس). هذه السلسلة قد تطول وقد تقصر في حق المخلوق لأنه معلول بغيره، ولكنها لابد وأن تنتهي مهما طالت أو قصرت عند إرادة خالقه سبحانه التي لا تقاس على إراداتنا ولا تتعلل بشيء خارج عن ذاته جل وعلا، وإلا انفتح تسلسل الأسباب وهو ممنوع في العقل.
    لذا نقول إنه إذا كان الفاعل الذي نسأل عن أفعاله هو الله نفسه، تبارك وتعالى، فلا يجيز العقل أن تتسلسل الأجوبة في السؤال "لماذا" على نحو ما يكون في حق المخلوق. ذلك أنه هو نهاية السلسلة أصلا، إرادته وحكمته وعلمه (التي لا نعلم منها إلا ما يأتينا من خبره هو وحده سبحانه) هي نهاية المعرفة بالنسبة لنا! نعم قد يجتهد العلماء في استنباط الحكمة من تشريع ما أو من خلق شيء ما، من غير أن يكون في ذلك نصّ منزل، ولكن هذا الاجتهاد مضبوط بضابط لا يجوز أن يتخطاه، وهو ألا تكون المسألة مما يمتنع الوصول إلى معرفة جوابه بالنص أو القياس الصحيح. قمثلا يجوز أن نسأل: ما الحكمة (أو ما السبب) في تشريع الحج (مثلا)، فنبدأ في قياس أفعاله على أحداث يوم الحشر - كما فعل بعض أهل العلم - ليصلوا إلى القول اجتهادا بأن سبب التشريع والحكمة منه إمرار الحاج والمعتمر بأحداث تقرب إلى ذهنه مشهد يوم الحشر حتى يستحضر مهابته وعظمته، بما يرجع على نفسه بكثير من المنافع. هذا اجتهاد قد يصيب وقد يخطئ وصاحبه ممن يرجى له الأجر أو الأجران. ولكن هب أنه زاد فسأل: ولماذا يريد الله خلق نوع من المخلوقات يميته ثم يبعثه ويحشره إلى جنة أو نار من الأصل؟ هنا يكون السؤال عما لا يتطرق إليه نص ولا قياس، ولا يزاد فيه على أن يقال: هكذا أراد الله سبحانه، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون. كذلك يجوز أن نسأل - مثلا - لماذا خلق الله تعالى القمر؟ ففي القرءان أنه جعل الأهلة مواقيت للناس والحج. ومن أسباب خلق القمر ما جعله الله سببا فيه من أحداث تجري على الأرض كالمد والجزر مثلا، بما في ذلك من منافع للمخلوقين علموا منها ما علموا جهلوا ما جهلوا. هذا مما أمكننا معرفته من النص ومن المشاهدة والقياس، وليس في إثباته ما يلزم منه تشبيه أفعال الخالق بالمخلوق. أما أن يسأل السائل: ولماذا أراد بالأساس أن يخلق خلقا هذه صفتهم ينتفعون بالقمر لهذه الغاية وتلك، فهنا نقول له قف: الله لا يُسأل عما يفعل، فالزم حدّك ولا تجاوزه، ولا تنس أنك تتكلم عن خالق السماوات والأرض الأول الذي ليس قبله شيء، الظاهر الذي ليس فوقه شيء، سبحانه وتعالى.
    وحاصل هذا الكلام الطويل، والأمر الذي أنصحك بأن تعض عليه بنواجذك ما حييت: أن الله تعالى ليس كمثله شيء، لم يكن له كفؤا أحد، فلا يُسأل عما يفعل كما يُسأل المخلوقون!
    فهل يسعك هذا الجواب يا عبد الله، كما وسع سائر عقلاء المسلمين من زمان الصحابة وإلى يوم الناس هذا؟
    أم تراك لا تكتفي حتى تملأ جوفك بتنطعات الفلاسفة وتهافتاتتهم، ومساعي المتكلمين في توضيح الواضحات التي لا تراهم إلا يبعدونها عن أذهان العقلاء جميعا حتى يصبح القطع ظنا واليقين نظرية وفرضية وجدلية؟ أعيذك بالذي خلقك من هذه السبيل وأهلها!
    يا أخي والله لا يضيرك الجهل بالحكمة من خلق الإنسان (وليس الهدف: فالهدف في اللغة شيء يسدد الإنسان ويقارب لإصابته، والله منزه عما يقتضيه هذا المعنى من نقص واضح)!
    لا يضيرك أن تموت ولم تعلم لماذا خلق ربك خلقا للجنة وخلقا للنار، ولم يجعلهم جميعا كالملائكة، أو يجعلهم جميعا في نعيم سرمدي وهناء وسرور أبدي من غير ابتلاء ولا امتحان ولا شيء من ذلك! هو يحب ذلك ويريده، سبحانه، يحب أن يرى عبدا يعبده ويخشاه بالغيب من غير أن يراه! يحب أن يراهم تهون عليهم المصائب والبلايا محبة فيه وخشية له من غير أن يروه، فهل لديك اعتراض على هذا؟ هل لعاقل من المخلوقين أن يعترض على هذا أو أن يسأل لماذا يحب هذا؟
    هذا ما عندي وعند عقلاء المسلمين..
    فهل نخرج منك الآن بتوبة إلى الله تعالى مما بدر منك من تجاوز في حقه (بمجرد السؤال عما ليس لك أن تسأل عنه، فضلا عن أن تجعله "إشكالية"!)، وانصراف عن هذا المنتدى وغيره مما تُطرح فيه أمثال تلك المسائل، والاستعاذة بالله تعالى من كل وسواس يطرأ عليك، والانصراف إلى طلب العلم الشرعي الذي لا يسع المسلم جهله؟ "
    انتهى.

    وبهذا النقل يتم المقصود من هذه الرسالة الموجزة، والله أسأل أن يهدينا سبيل الرشاد وأن يوفقنا للخير وأن يسدد رمينا، وأن يغفر لنا ولآبائنا وللمسلمين، إنه سبحانه غفور رحيم، والحمد لله رب العالمين.

    كتبه وأتم كتابته، أبو الفداء بن مسعود، في الخامس عشر من ذي القعدة 1433 من الهجرة.

    -------------
    حواشي:
    (1) ويجدر ههنا التنبيه إلى أن للمعتزلة خلطا عظيما وخلافا كبيرا فيما بينهم في تعريف ما يقال له عندهم "العلم الضروري"، فعلى المشهور من نحلتهم (وينظر بيان ذلك في "شرح الأصول الخمسة" المنسوب للقاضي عبد الجبار المعتزلي) أن بدايات العقول (البدهيات الأولى) ليست من العلم الضروري لأن الإنسان – بحسبهم – يكتسب المعرفة بها ولا يجدها مركبة في نفسه. وبناء على هذا التظير (الذي تأثروا فيه تأثرا واضحا بفلسفات اليونان في البحث في أصول المعرفة الإنسانية) قالوا إن العلم بالصانع مكتسب وليس ضروريا، ومن ثم زعموا بأن الوصول لإثباته بالنظر العقلي أول واجبات المكلفين! بل إنك تراهم يرددون شبهة الملاحدة في أنه لولا أن كان إثبات الصانع يحتاج إلى نظر ما اختلفت فيه طوائف الأرض هذا الخلاف، فيجعلون مطلق وجود الخلاف في مسألة ما، دليلا على احتياجها للاستدلال والنظر للوصول إلى معرفة الحق فيها، تماما كما صنعت الملاحدة! ولا شك أن ما بني على باطل فهو باطل، فالعلم الضروري عندنا وعند من يعقل، إنما هو ما يتضرر الإنسان ويزول عنه الوصف بسلامة العقل نفسه إن لم يجده في نفسه بالفطرة وسلامة المنطق واللغة! وصحيح إن اللغة نفسها لا تتعلم إلا اكتسابا، ولكن هذا لا يعني أن بدهيات العقل تعرف بالنظر! فعندما يطلق اللفظ "اكتساب" في هذا السياق، فهل يراد تعلم أدلة تلك البدهيات نفسها ومن ثم تحصيل المعرفة بها من طريق النظر؟ أم يراد اكتساب المعرفة باللغة في الصغر، التي يجد الإنسان منطقها مركبا في نفسه مقتضيا للتسليم بتلك البدهيات الأولى من غير احتياج إلى نظر أو تدليل؟ هذا اكتساب وذاك اكتساب، ولكن أحدهما يناقض المقصود بالعلم الضروري، بينما يتفق الآخر معه. لذا حق لنا أن نتساءل: لو لم يفتتن هؤلاء المساكين بصنيع فلاسفة الإلحاد في النزول على مسلمات وبدهيات العقل الأولى بالتنظير والاستدلال وكذا، أفكانوا يغرقون على إثرهم فيما غرقوا فيه من تفلسف في الحدود والتعاريف وما يتفرع على ذلك من بناء المعرفة كلها على تنظير فاسد في أصل أصوله كما ترى؟

    (2) الحديث في الصحيحين وغيرهما من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال قدِمَ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَبيٌ، فإذا امرأةٌ من السبيِ قد تحلُبُ ثَديَها تَسقي، إذا وجدَتْ صبيًّا في السبيِ أخذَتْه، فألصقَتْه ببَطنِها وأرضعَتْه، فقال لنا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( أترَونَ هذه طارحَةً ولدَها في النارِ ) . قُلنا : لا، وهي تقدِرُ على أن لا تطرَحَه، فقال : ( لَلّهُ أرحَمُ بعبادِه من هذه بولَدِها)" اهـ (واللفظ للبخاري).
    والمراد من لفظة "عباده" ههنا المؤمنون، كما دلت عليه بعض روايات الحديث في غير الصحيحين، وكما هو مقتضى الحكم بتخليد الكافرين من البشر في النار (وهو حرمان من تلك الرحمة).

    (3) وهي أمم شتى لا أمة واحدة، وإنما يقال لها أمة الدعوة للاشتراك في كونها جميعا مخاطبة بالدعوة.
    أبو الفداء ابن مسعود
    غفر الله له ولوالديه

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •