نص السؤال:
لقد انتشرت بعض الآراء والأحكام والاعتقادات في بعض أحياء الجزائر لم نعهدها من الدعاة السلفيِّين، ولم نسمعها في توجيهاتهم، سواءً في مجالسهم الخاصَّة أو العامَّة، هذه الأحكام التي تُروَّج قد تزعَّمها بعض المتخرِّجين من كلِّيَّة أصول الدين بالخرُّوبة، بل بعضهم قد تخرَّج على أيديكم، وهم يُكَتِّلون الناسَ حولها، انطلاقًا من تأسيساتٍ وتأصيلاتٍ سَلَكُوها، نودُّ من الشيخ أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس أن يبيِّن الحقَّ فيها -إن ظهر له-، وتعزيزَ ذلك بأدلَّةٍ وتعليلاتٍ تفنِّد القواعدَ التي انتهجها هؤلاء، وجزاكم الله خير الجزاء. وهاكم هذه التأسيسات مرتَّبةً على النحو التالي:
أوَّلاً: إنه ينفي مرتبة الاتِّباع، ويرى أنَّ الناس: إمَّا مقلِّدٌ أو مجتهدٌ لا ثالث لهما، وبما أنَّ المجتهد منعدمٌ في بلادنا فيَلْزَم كلَّ الناس التقليدُ، ورتَّب على ذلك حكمًا مفاده أنهم مُلْزَمُون بالمذهب المالكيِّ السائد في البلاد، وممَّا سبق من إقراره بالتقليد، فإنه أصبح يفتي الناسَ بما يوافق المذهب، وممَّا انجرَّ عن ذلك أنه فصل من اتَّبعه في ذلك عن علماء الحجاز كالشيخ ابن بازٍ وابن العثيمين -رحمهما الله- بدعوى أنهم حنابلةٌ ونحن مالكيةٌ لنا علماء، وترتَّب عن ذلك أنهم أصبحوا يزجرون من يقرأ كُتُبَ ابن عثيمين لأنه حنبليٌّ ونحن مالكيةٌ، بل صرفوا الناس إلى كتب القرضاوي ومالك بن نبي وشكيب أرسلان وغيرهم، فما تعليقكم على ذلك ؟
ثانيًا: إنه أصبح يحتجُّ بأنه لا إنكار في مسائل الخلاف، سواءً كان الخلاف معتبرًا أو غير ذلك، وبمقول قوله: لا تنكر على الحنفي الذي يشرب النبيذَ لأنه حنفيٌّ.
ثالثًا: إنه ناقمٌ على السلفية تسميةً ومنهجًا، فالتسمية يرى بأنها زادت الأمَّة فُرقةً، أمَّا منهجًا فيرى أنَّ الدعاة السلفيِّين كانوا هم السببَ في طمس معالم المذهب المالكيِّ وأنهم أبعدوا الناسَ عنه.
وإليك الآن بعض فتاويه الجديدة:
- أفتى بجواز الاحتفال بالمولد النبويِّ الشريف وأعياد الميلاد التي هي من عادات الكفَّار، ولمَّا اعتُرض عليه بفتوى اللجنة الدائمة قال بأنَّ لديه عالِمًا أفتى بذلك وهو القرضاوي، واستدلَّ بقاعدةٍ معناها: أنَّ الشيء إذا عمَّ عند المسلمين كان من عاداتهم ولو كان أصلها من عادات الكفَّار.
- وأفتى لأحد الإخوة بجواز أخذ قرضٍ بنكيٍّ للزواج لأنه ضرورةٌ.
- وأنه يرى الأخذَ بالأيسر من فتاوى أهل العلم مثل فتاوى القرضاوي التي تسهِّل على الناس، بخلاف فتاوى الألباني فإنها متشدِّدةٌ، وفقهُه واقفٌ على ظواهر النصوص دون اعتبار المقاصد العامَّة للتشريع والقواعد العامَّة لهذا الدين.
- وقال في الشيخ الألبانيِّ بأنه محدِّثٌ فقط وليس بفقيهٍ، وأنَّ فيه ظاهريةً لأنه لا يرى الأخذَ بالإجماع السكوتيِّ، وغير ذلك من المسائل التي وافق فيها مذهبَ أهل الظاهر.
أمَّا أتباعه فيصفون الألبانيَّ بالأعجمي الذي لا يفهم كلام العرب...
هذا، ونرجو من فضيلة شيخنا أن يبيِّن لنا وجه الصواب والحقِّ في هذه المسائل، وأن يقدِّم له نصيحةً لعلَّه يرجع إلى الحقِّ ويستقيم. وجزاكم الله عنَّا وعن المسلمين خيرَ الجزاء.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فطليعة العبارة الأولى التي مفادها نفي رتبة الاتِّباع غير صحيحةٍ، لأنَّ العلماء يفرِّقون بين مرتبة الاتِّباع والتقليد، فالاتِّباع سبيله قبول الحجَّة والانقياد للدليل، بخلاف التقليد، كما أنَّ الاتِّباع أعمُّ من الاجتهاد، فكلُّ مجتهدٍ متَّبعٌ، ولا عكس. فإذن الاتِّباع سبيلُه الدليل والعمل بالوحي، لذلك سَمَّى الله تعالى العملَ بالوحي «اتِّباعًا» في قوله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 3]، وقوله تعالى: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [الأنعام: 106]، وقوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام: 155]؛ ذلك لأنَّ حدَّ العلم: «التبيين وإدراك المعلوم على ما هو به»، فمن بان له شيءٌ فقد علمه، والمقلِّد لا علم له، وقد ذكر ابن عبد البرِّ أنهم لم يختلفوا في ذلك، وقد فرَّق الله ورسوله وأهل العلم بين التقليد والاتِّباع، كما فرَّقت الحقائق بينهما، فإنَّ الاتِّباع: «سلوك طريق المُتَّبَع والإتيانُ بمثل ما أتى به»، وأمَّا التقليد: فهو «الرجوع إلى قولٍ لا حجَّة لقائله عليه»، وقد فرَّق بينهما الشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- حيث قال: «التقليد هو: أخذُ قول المجتهد دون معرفةٍ لدليله، وأهله هو من لا قدرة له على فهم الدليل، وهم العامَّة غير المتعاطين لعلوم الشريعة واللسان، والاتِّباعُ هو: أخذُ قول المجتهد مع معرفة دليله ومعرفة كيفية أخذه للحكم من ذلك الدليل حسب القواعد المتقدِّمة، وأهله هم المتعاطون للعلوم الشرعية واللسانية، الذين حصلت لهم مَلَكةٌ صحيحةٌ فيهما»(١)، ولا شكَّ أنَّ التقليد -بالمفهوم السابق لغير العاجز عن فهم الدليل- مذمومٌ، لأنَّ الله تعالى أمر بالاتِّباع ونهى عن التقليد في قوله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ [الأعراف: 3]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [لقمان]، ومن هنا يظهر بطلان فَهْم من جعل التقليدَ اتِّباعًا، نعم، قد يجوز التقليد في حالةٍ ضيَّقتها الشروط، كأن يكون المقلِّد جاهلاً عاجزًا عن معرفة حكم الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، شريطةَ أن يقلِّد من عُرف بالعلم والاجتهاد، دينًا وصلاحًا من أهل السنَّة، وأن لا يظهر له الحقُّ عند غير مقلَّده، وأن لا يلتزم إمامًا بعينه في كلِّ المسائل، وإنما يتحرَّى الحقَّ قَدْرَ الاستطاعة، ومن جهةٍ أخرى لا يتتبَّع الرُّخَصَ للتسهيل على نفسه تنقُّلاً بين المذاهب، ولا يكون في تقليده مخالَفةٌ واضحةٌ للكتاب والسنَّة وإجماع الأمَّة. والخروجُ عن هذه الشروط يجعل التقليد مذمومًا(٢).
• أمَّا قوله: «وبما أنَّ المجتهد منعدمٌ في بلادنا فيَلزم كلَّ الناس التقليدُ»، ورتَّب على ذلك حكمًا مفاده أنهم مُلْزَمون بالمذهب المالكيِّ السائد في البلاد.
فالجواب على هذا المقطع الثاني من السؤال الأوَّل، الذي هو عبارةٌ عن نتيجةٍ منطقيةٍ على المقدِّمة السابقة، أنه لَمَّا كانت المقدِّمةُ السابقة -المبنيَّة على حصر الناس في مجتهدٍ ومقلِّدٍ- فاسدةً وباطلةً؛ ﻓ«مَا بُنِيَ عَلَى فَاسِدٍ فَفَاسِدٌ»، ذلك لأنَّ إغفالَ مرتبة اتِّباع الوحي والعملِ بالدليل الذي لا يُشترط فيه سوى العلم بما يعمل، ولا يتوقَّف ذلك على تحصيل شروط الاجتهاد، إنما هو إغفالٌ لمقتضى توحيد الله والإيمان به، إذ لا نجاة للعبد من عذاب الله إلاَّ بتوحيد المُرسِل بالعبادة والخضوع والذلِّ والإنابة والتوكُّل، وتوحيدِ متابعة الرسول، وذلك بالتسليم له، والانقياد لأمره، وتلقِّي خبره بالقبول والتصديق دون أن نعارضه بخيالٍ باطلٍ، أو نحمِّله شكًّا وشبهةً، أو نقدِّم عليه آراء الرجال، فلا يجوز أن نُحاكِم إلى غيره، ولا نرضى بحكم غيره، كما جاء ذلك في «العقيدة الطحاوية»(٣).
• أمَّا قوله بأنه ليس ثَمَّةَ علماءُ في بلادنا، ولا مَن هم في حكمهم؛ فجوابه من وجوهٍ:
- الوجه الأوَّل: إذا كان يضع مثل هذه التأصيلات المذكورة، ويحكم بمثل هذه الأحكام، فإنه يتناقض مع نفسه، لكون هذه الأمور من اختصاص أهل النظر، وهو مُقِرٌّ على نفسه بالتقليد، ومن كان على شاكلة المقلِّدين فلا سبيل له لوضع التأصيلات واستحكام المناهج، فضلاً عن تمييز العالم من الجاهل، لأنَّ المقلِّد ليس بعالمٍ اتِّفاقًا، فلا يعرف الكاملَ من المجتهدين والناقصَ منهم -كما ذكر ذلك الشوكانيُّ-، وإنما يفعل ذلك من لهم إدراكٌ يعرفون به الكمالَ والنقص.
- الوجه الثاني: قد يخفى على من سبيله التقليد أنَّ الاجتهاد -بالنظر إلى المجتهد من حيث استيعابُه للمسائل أو اقتصاره على بعضها- ينقسم إلى مجتهدٍ مطلقٍ ومجتهدٍ جزئيٍّ.
والمراد بالمجتهد المطلق هو: «من توفَّرت فيه شروط الاجتهاد وبلغ رتبته بحيث يمكنه النظر في جميع المسائل»، بينما المجتهد الجزئيُّ هو: «الذي لم يبلغ رتبة الاجتهاد في جميع المسائل، وإنما بلغ هذه الرتبةَ في بابٍ معيَّنٍ أو مسائلَ معيَّنةٍ أو فنٍّ معيَّنٍ، وهو جاهلٌ لِما عدا ذلك». والعلماء وإن كانوا يختلفون في جواز تجزئة الاجتهاد؛ إلاَّ أنَّ ما عليه أهل التحقيق من أهل العلم جوازُه وصحَّتُه، وبه قال ابن قدامة وابن تيمية وابن القيِّم وغيرهم(٤) وهو الصحيح. وعليه، فإنَّ انتفاء وجود المجتهد المطلق في بلادنا لا ينافي وجودَ غيره، وللمجتهد الجزئيِّ أن يُفْتيَ في النوع الذي اجتهد فيه كما قرَّره ابن القيِّم -رحمه الله- مبيِّنًا حجَّةَ الجواز أنه قد عَرف الحقَّ بدليله، وقد بذل جُهْدَه في معرفة الصواب، فحُكْمُه في ذلك -كما قال- حُكم المجتهد المطلق في سائر الأنواع. وهذا -ولا شكَّ- أنه من التبليغ عن الله ورسوله، وجزى الله من أعان الإسلامَ ولو بشطر كلمةٍ خيرًا، ومنعُ هذا من الإفتاء بما عَلِم خطأٌ محضٌ(٥).
- الوجه الثالث: أنَّ أهل العلم بيَّنوا لنا طريقَ معرفة العالم من الجاهل، وأن يستفتيَ العامِّيُّ من غلب على ظنِّه أنه من أهل الاجتهاد، وطريقُ معرفته إمَّا بانتصابه للفتيا بمشهدٍ من أعيان العلماء دون نكيرٍ، وإمَّا بأن يأخذ الناسُ عنه ويجتمعوا على سؤاله والعمل بما يقول، وإمَّا بما يظهر على العالم من سمات الدين والتقوى والعدالة، وإمَّا بإخبار عدلٍ يثق به بأنَّ هذا عالمٌ عدلٌ، وقد بيَّنَّا في «الإرشاد إلى مسائل الأصول والاجتهاد» أنَّ طالب العلم ومن يقوم مقامه له سبيلٌ لمعرفة العالم والأعلم، إمَّا بالشهرة والتسامع ورجوع الناس إليه، وإمَّا عن طريق مجالسته ومناقشته ووزن فتاويه، كما يظهر الأعلم بأكثرية إصابته للصواب، أو إذعان المفضول له وتقديمه، أمَّا العامِّيُّ المحض فله اتِّباع من يثق في دينه شريطةَ إلمامه بالعلم، ويهتدي إلى معرفة ذلك بالشهرة والتوجيه(٦).
• أمَّا ترتيبه على ذلك أنَّ الكلَّ مُلْزَمون بالمذهب المالكيِّ السائد في البلاد.
فجوابه: أنَّ هذه النتيجة مبنيَّةٌ -أيضًا- على المقدِّمة الأولى التي ظهر فسادُها سابقًا، و«مَا بُنِيَ عَلَى بَاطِلٍ فَبَاطِلٌ».
ومن جهةٍ أخرى؛ فإنَّ هذا التقرير نابعٌ ممَّن يدَّعي على نفسه التقليد وهو مُقِرٌّ به، والمقلِّد ليس بعالمٍ، فلا سبيل له إلى مثل هذا التقرير.
ومن جهةٍ ثالثةٍ؛ فإنَّ هذا الإلزام بالتزام المذهب المالكي معارِضٌ للإجماع المقطوع به عن السلف في موضعين:
- الأوَّل: إجماع السلف الأوَّل من القرون الثلاثة الأولى على عدم إلزام أحدٍ من الناس بالتمذهب بمذهبٍ معيَّنٍ.
- والموضع الثاني: اتِّفاق الصحابة والتابعين والأئمَّة الأربعة وغيرهم على تقديم النصِّ على آرائهم، ونهيهم الناسَ عن تقليدهم. وقد أشار ابن القيِّم -رحمه الله- إلى أنَّ هذه بدعةٌ قبيحةٌ حدثت في الأمَّة لم يقل بها أحدٌ من أئمَّة الإسلام، وقد بيَّن أنه لا يَلْزَم العامِّيَّ التمذهبُ ببعض المذاهب المعروفة، إذ «لاَ وَاجِبَ إِلاَّ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ»، ولم يُوجِب الله ورسوله على أحدٍ من الناس أن يتمذهب بمذهب رجلٍ من الأمَّة فيقلِّدَه دينَه دون غيره، وقد انطوت القرون الفاضلة مبرَّأةً ومبرَّأً أهلُها من هذه النسبة(٧).
نعم؛ ليس ذلك على الإطلاق، بل يجوز الالتزام بمذهبٍ معيَّنٍ في حالاتٍ، منها: أنه لا يستطيع أن يتعلَّم دينه إلاَّ بالتزام مذهبٍ معيَّنٍ، ولكنَّ ذلك إنما يكون وَفْق ضوابطَ تقيِّد مثل هذه الحالات التي مردُّها أساسًا إلى دفع المفاسد التي لا يتحقَّق دفعُها إلاَّ بالتزام مذهبٍ، على أن يكون التزامُه بمذهب إمامٍ معيَّنٍ ليس في كلِّ المسائل، بل عليه أن يتحرَّى الحقَّ، ويتَّقيَ الله في حدود الاستطاعة، وأن لا يكون انتقاله بين المذاهب متتبِّعًا للرُّخَص على نفسه، لِما فيه من مفسدة التشهِّي وتحكيم الهوى.
• أمَّا قول السائل: «وممَّا انجرَّ عن ذلك أنه فصل من اتَّبعه في ذلك عن علماء الحجاز كالشيخ ابن بازٍ وابن العثيمين -رحمهما الله- بدعوى أنهم حنابلةٌ ونحن مالكيةٌ لنا علماءُ...».
فالجواب: أنَّ المعلوم أنَّ الشيخين ابن بازٍ وابن العثيمين -رحمهما الله تعالى- من علماء الأمَّة ليسا مقلِّدَيْن، وإنما سارا على الجادَّة في اتِّباع الدليل حيثما وُجد ومتى صحَّ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ودونك فتاويهما ومقالاتِهما وكتاباتِهما.
وقد أمر الله تعالى بسؤال أهل الذكر من غير تقييدٍ بزمانٍ أو مكانٍ فقال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43، الأنبياء: 7]، فالآية مطلقةٌ عن الزمان والمكان، فلم يتعبَّدنا الله تعالى بسؤال أهل المشرق دون أهل المغرب ولا العكس، وإنما تعبَّدنا باتِّباع الحقِّ حيثما كان، فالدين واحدٌ، والرسول واحدٌ، والحقُّ واحدٌ.
• وأمَّا قول السائل: «أنهم صرفوا الناس إلى كتب القرضاوي ومالك بن نبي وشكيب أرسلان وغيرهم»، اﻫ.
فجوابه: أنَّ المناصب والولايات ليست دليلاً على العلم، إذ العلماء لا يتمُّ تعيينهم عن طريق صناديق الاقتراع، ولا عن طريق التعيين الإداريِّ، ولكنَّهم يُعرفون بميزة العلم والتقوى، ورسوخ أقدامهم في مواطن الشبه، لِما بذلوه من جهودٍ وأوقاتٍ، وتفانَوْا في دعوتهم إلى الله تعالى، غيرَ أنَّ الناس قد يشتبه عليهم من تشبَّه بالعلماء وليسوا منهم، كالوعَّاظ والخطباء والقرَّاء والمفكِّرين والمثقَّفين، فالقرَّاء هم جماعةٌ من طلبة العلم حصلوا على نُتَفٍ منه، لم يبلغوا فَهْمَ أهل العلم وإدراكَهم، وهم كثيرٌ في عصرنا هذا، في الرجال والنساء والكبار والصغار، بسبب كثرة المتخرِّجين من الجامعات، وانتشار المدارس والمعاهد والزوايا، ولا شكَّ أنَّ المسارعة في القراءة دون فهمٍ أو فقهٍ يفضي إلى الانحراف عن الحقِّ، وقد ورد عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «سَيَأْتِي عَلَى أُمَّتِي زَمَانٌ تَكْثرُ فِيهِ القُرَّاءُ، وَتَقِلُّ الفُقَهَاءُ، وَيُقْبَضُ العِلْمُ، وَيَكْثُرُ الهَرْجُ»، قَالُوا: «وَمَا الهَرْجُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟» قَالَ: «القَتْلُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ زَمَانٌ يَقْرَأُ القُرْآنَ رِجَالٌ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهِمْ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ زَمَانٌ يُجَادِلُ المُنَافِقُ الكَافِرُ المُشْرِكُ بِاللهِ المُؤْمِنَ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ»(٨). وقد كان الخوارج يقرأون القرآنَ، ولكن لم يبلغوا درجةَ الفهم والعلم، وقد وصفهم الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: «يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ»(٩)، أي: لا يصل إلى حلوقهم فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم، لأنَّ المطلوب تعلُّق القرآن بالقلب وتدبُّرُآياته -كما أشار النوويُّ-، فالعلماء لا يقرءون نُتَفًا من العلم، وإنما يدرسون العلومَ الشرعية دراسةً عامَّةً شموليةً من غير أن يتوقَّفوا في التعلُّم، يعانون في تحصيل العلم، ولا يقرءون منه الشذرات، بل هم دائمو الطلب بعزائمَ قويَّةٍ، لا يُثنيهم عناء الرحلات ولا سهرُ الليالي ومعاناة الأيَّام.
وكذلك أهل الوعظ والإرشاد والخطابة -وإن كانت هذه المَهَمَّة تؤدَّى من قِبَل العلماء والفقهاء في الأوَّل- إلاَّ أنَّ هذه المناصب أصبح يمارسها مَن ليس له حظٌّ أو نصيب سوى النَّزْر اليسير، الذين يملكون فصاحةَ اللسان وبلاغته، ولهم به قدراتٌ في قلب الألفاظ وتغييرها كيفما شاءوا، يشدُّون مشاعر الناس، ويسلبون قلوبَهم بحسن الحديث وحلاوة المنطق، وليس ذلك بدليلٍ على أنهم من أهل العلم والفهم، بل قد يكون العالم عَيِّيًا لا يُحسن الكلامَ، وليس عنده قوَّة البيان ولا حسنُ الحديث ولا حلاوة المنطق، قليل الكلام بطبعه أو غير قادرٍ على الخطابة والوعظ والإرشاد، قال ابن رجبٍ -رحمه الله-: «وقد فُتن كثيرٌ من المتأخِّرين بهذا، فظنُّوا أنَّ من كثُر كلامُه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم مِمَّن ليس كذلك، وهذا جهلٌ محضٌ، وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كأبي بكرٍ وعمر وعليٍّ ومعاذٍ وابن مسعودٍ وزيد بن ثابتٍ كيف كانوا ؟ كلامُهم أقلُّ من كلام ابن عبَّاسٍ وهُم أعلم منه.
وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة والصحابةُ أعلم منهم، وكذلك تابعو التابعين، كلامُهم أكثر من كلام التابعين والتابعون أعلم منهم. فليس العلم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال، ولكنَّه نورٌ يُقذف في القلب، يفهم به العبد الحقَّ، ويميِّز به بينه وبين الباطل، ويعبِّر عن ذلك بعباراتٍ وجيزةٍ محصِّلةٍ للمقاصد»(١٠).
وكذلك القول في المفكِّرين وأرباب الثقافة، فهؤلاء -وإن صحَّ تسميتهم بأنهم من المفكِّرين أو الحكماء- فلا يتعدَّى هذا الوصف جوانبَ تخصُّصهم التي أجادوا فيها، كالطبِّ والهندسة والفيزياء والكيمياء وغيرها من العلوم التجريبية، أو علم الاجتماع والنفس والتربية وغيرها من العلوم الإنسانية، فهُم معدودون من جمهور المسلمين وعوامِّهم، بل هم أشبه بأهل الكلام الذين ليس لهم من العلم إلاَّ عباراتٌ وشقائقُ المسائل وتفريعُها، فيظنُّهم الجاهل علماء، ولا يخفى أنَّ معرفة شقائق المسائل لا يعكس حقيقةَ العلم وليس دليلاً عليه، وقد قال الإمام مالكٌ -رحمه الله-: «الحكمة والعلم نورٌ يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل»(١١). وقد ذكر ابن عبد البرِّ -رحمه الله- إجماعَ «أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أنَّ أهل الكلام أهل بدعٍ وزَيْغٍ، ولا يُعَدُّون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والفقه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم»(١٢).
فالحاصل أنَّ الاعتبار في وصف العالم بالعلم ما يحتويه صدرُه من العلم بالله تعالى وعن الله تعالى، وما اتَّصف به من تقوى الله وخشيته.
فمالك بن نبي، وشكيب أرسلان، والعقَّاد وغيرهم أجادوا تخصُّصهم ولهم مكانتهم فيه، لكنَّهم غير مختصِّين في العلوم الشرعيَّة، فلا يخرجون عن صنف المفكِّرين والمثقَّفين، فمالك بن نبي مهندسٌ ميكانيكيٌّ، متخرِّجٌ من معهد الهندسة العالي بباريس، وهو مفكِّرٌ إسلاميٌّ جزائريٌّ توفِّي سنة (1393ﻫ-1973م)، أمَّا شكيب أرسلان اللبناني فهو كاتبٌ وأديبٌ وشاعرٌ ومؤرِّخٌ وسياسيٌّ توفِّي سنة (1366ﻫ-1946م)، وأمَّا عبَّاس محمود العقَّاد؛ فهو أديبٌ مصريٌّ وشاعرٌ ناثرٌ، توفِّي سنة (1383ﻫ-1964م)؛ فهؤلاء اختصاصاتهم في العلوم اللغوية والتجريبية.
أمَّا القرضاوي وأضرابه فإنهم لا يُعْرَفون برسوخ أقدامهم في مواطن الشبه، وهم غيرُ مُتشبِّعين بالسنن والآثار، وكثيرًا ما تزيغ أفهامهم عن فهم السلف الصالح، لذلك نجد فتاويَهم مخالفةً لأقوال السلف، كما يُعْرف عنهم عدم الاتِّصاف بتقوى الله في فتاويهم وسيرتهم، فهُم يجيزون الاستماعَ إلى العزف والأغاني والطرب من الرجال والنساء، ويتلذَّذون بالاستماع إليها ويجيزونها لغيرهم، كما يجيزون العمل في البنوك الربوية بدعوى أنَّ المصلحة تقتضي ذلك، كما يجيزون دخول السينما وممارسةَ أعمال المسرح والتمثيليَّات للذكور والإناث، ويرون ضرورةَ منح النساء مزيدًا من الحقوق، وأنَّ النساء اللاَّتي تجاوزن سنَّ الحمل والولادة يُسمح لهنَّ بالترشُّح في الانتخابات، وهم ممَّن يرَوْنَ أنَّ الدول العربية يجب أن تتحوَّل إلى الديموقراطية، وأنَّ الإسلام يجب أن يشهد إصلاحاتٍ ويحتفيَ بالتسامح في ظلِّ تقارُب الأديان ووحدتها، وهم مِمَّن يمتدحون المُثُل الغربية ويعتقدون أنَّ ثمَّةَ إمكانيةً للتعايش بين اليهود والدولة الفلسطينية، كما يُفتون الجنود الأمريكيِّين المسلمين أن يقاتلوا في صفوف الجيش الأمريكيِّ في أفغانستان، كما أنه من المعروف في خُطبهم التشهيرُ بالحكَّام والانتقاصُ منهم وتأليب العامَّة عليهم، والاعتراف بالدولة اليهودية ضمنًا والثناءُ عليها جهارًا في مناسبات الانتخابات اليهودية، وتجويزُ الأحزاب والممارسات الديمقراطية، والإشادة بحرِّيَّة الشعوب في اتِّخاذ أنموذج نظامها، وأنَّ اختيارها فوق كلِّ اعتبارٍ، وغيرها من الأمور التي لا يرضاها المسلمون فضلاً عن علمائهم وفقهائهم الذين هم جميعًا شهداء الله في أرضه، ولا شكَّ أنَّ ارتكاب مثل هذه المحاذير يمنع من الثقة بالفتوى -كما قد بيَّنَّا ذلك في كتاب «الإرشاد»-(١٣).
((يتبع))