بقلم: فضيلة الدكتور جمال المراكبي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه أما بعد:
فقد قلنا في الحلقة السابقة إن الخير العميم الذي اختص الله به هذه الأمة فجعلها خير أمة أخرجت للناس لا يناله إلا من حقق التوحيد مخلصًا لله الدين، وتابع النبي صلى الله عليه وسلم، أما أهل البدع والضلال فلا نصيب لهم في هذا الخير والفضل إلا بقدر قربهم من الحق ومتابعتهم للسنة والهدي النبوي، بل إنهم يُزادون عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم فلا يشربون منه، وتقول الملائكة للنبي صلى الله عليه وسلم: "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" "1".
وقلنا إن الزمان لا يخلو من متبع للحق ناصر للسنة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" "2".
وهؤلاء هم الطائفة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، يتمسكون بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تابعهم بإحسان من السلف الصالح.
تحقيق معنى السلف:

تأتي كلمة السلف ويراد بها معان عديدة منها:
1ـ القرض أو الدين، ومنه بيع السلف (أو السلم) كما جاء في الحديث الصحيح عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار للعامين والثلاثة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم أو وزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم" "3"
وذكر مالك في الموطأ أبوابًا في السلف منها: ما يجوز من السلف، وباب ما لا يجوز من السلف، وروى عن ابن عمر أنه قال: "السلف على ثلاثة وجوه: سلف تسلفه تريد به وجه الله، فلك وجه الله، وسلف تسلفه تريد به وجه صاحبك، فلك وجه صاحبك، وسلف تسلفه لتأخذ خبيثًا بطيب فذلك الربا".

2ـ وتأتي كلمة السلف ويراد بها من مضى من الأمم قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس""4" وفي المسند في حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار: "أن ثلاثة نفر فيما سلف من الناس انطلقوا يرتادون لأهلهم فأخذتهم السماء، فدخلوا غارًا، فسقط عليهم حجر". الحديث.
وقال تعالى عن فرعون وقومه: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُ مْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ (56)} [الزخرف: 55 - 56].
قال الفراء: جعلناهم سلفًا متقدمين ليتعظ بهم الآخرون "5".
وقال مجاهد: قوم فرعون كفارهم صاروا سلفًا لكفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم "6".

3ـ وتأتي بمعنى ما مضى من العمل، كما في قوله تعالى {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 572].
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 32].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أسلمتَ على ما سلف من خير".

4ـ وتأتي بمعنى من تقدم من أهل الفضل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تابعهم بإحسان، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وتابِعوهم من أهل السنة والجماعة، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 8- 10].
جاء في لسان العرب: سلف الإنسان من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته، ولهذا سُمي الصدر الأول من التابعين السلف الصالح.
وذكر القرطبي عن علي بن الحسين أن نفرًا من أهل العراق جاءوا إليه فسبوا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم عثمان فأكثروا، فقال لهم علي بن الحسين: أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا: لا، قال: أفمن الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم؟ قالوا: لا، فقال: قد تبرأتم من هذين الفريقين، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} قوموا فعل الله بكم وفعل، يدعو عليهم.
لماذا يجب على كل مسلم اتباع منهج السلف؟

أقول: يجب على كل مسلم عاقل اتباع منهج السلف في العقيدة والسلوك والأخلاق؛ لأن الأمة الإسلامية مرت بمرحلتين: المرحلة الأولى هي مرحلة الاجتماع على الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ومتابعته في هديه وسنته قبل أن تظهر المقالات المنحرفة والفرق الضالة، والمرحلة الثانية مرحلة الاختلاف في الدين والتنازع واتباع الأهواء المضلة وظهور مقالات الخوارج والروافض والمرجئة والقدرية وغيرها من المقالات الفاسدة التي لم يقل بها أحد من السلف الصالح، بل أنكروها وردوها.
وكانت الأمة في المرحلة الأولى في عز ونصر وتمكين فحازت شرف الخيرية، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" "7".
وكانت فتوح الإسلام في هذه المرحلة، ففتح الله على هذه الأمة البلاد وكذلك قلوب العباد فدخل الناس في دين الله أفواجًا، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، قال: فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم أحد ممن صحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، قال: فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم ممن صحب أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، قال: فيفتح لهم" "8".
وإلى هنا ينتهي الحديث، تنتهي قرون الخير، ينتهي زمن الفتوح، وتعم الفتن المضلة (عافانا الله منها بفضله ومَنِّه وكرمه)؛ قال الحافظ: واتفقوا أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يُقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورًا فاشيًا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها ورفعت الفلاسفة رءوسها، وامتُحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيرت الأحوال تغيرًا شديدًا، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن. اهـ "9".
فالمسلم الكيس الفطن هو الذي يتبع ولا يبتدع في دين الله، هو الذي يتبع أقوال السلف الصالح ومنهجهم قبل أن يظهر الخلاف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" "10".

وعن حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاةٌ إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت يا رسول الله: صفهم لنا، فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال:تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك" "11"
وفي رواية مسلم: "قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي، تعرفُ منهم وتنكر".
وفي رواية ثانية لمسلم: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجالٌ قُلُوبُهمُ قُلُوبُ الشياطين في جثمان إنس، قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمعُ وتُطيعُ للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع".

ورواية أبي داود عن سبيع بن خالد قال: أتيت الكوفة في زمن فتحت "تُستر" أجلب منها بغالًا، فدخلت المسجد فإذا صَدْعٌ من الرجال، وإذا رجل جالس تعرف إذا رأيته أنه من رجال أهل الحجاز، قال: قلت: من هذا؟ فتجهمني القوم وقالوا، أما تعرف هذا؟ هذا حذيفة بن اليمان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال حذيفة: إن الناس كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، فأحدقه القوم بأبصارهم، فقال: "إني أرى الذي تُنكرون، إني قلت يا رسول الله: أرأيت هذا الخير الذي أعطانا الله أيكون بعده شر كما كان قبله؟ قال: نعم، قلت: فما العصمة من ذلك؟ قال: السيف، قلت: يا رسول الله ثم ماذا يكون؟ قال: إن كان لله خليفة في الأرض فضرب ظهرك وأخذ مالك فأطعه وإلا فمت عاضٌّا بجذع شجرة، قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم يخرج الدجال، معه نهر ونار، فمن وقع في ناره وجب أجره وحُط وزره، ومن وقع في نهره وجب وزره وحط أجره قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم قيام الساعة".
وعند ابن ماجه: "يكون دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: فالزم جماعة المسلمين وإمامهم، فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت كذلك.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اعتزل تلك الفرق كلها" معناه أن يلتزم الإنسان السنة ولو كان وحده، ويعتزل كل المقالات والآراء الفاسدة ومن يروجون لها، ولو فعل ذلك فهو الجماعة هو ومن وافقه على ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائقة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك".
فالحديث يوضح للمسلم المنهج الذي يعتصم به حال الاختلاف، وقوله: كنا في جاهلية وشر، يشير إلى ما كان قبل الإسلام من الكفر، وقتل بعضهم بعضًا ونهب بعضهم بعضًا، وإتيان الفواحش، والمراد بالشر المذكور أولًا ما يقع من الفتن بعد مقتل عثمان، أو ما يترتب على ذلك من عقوبات الآخرة.
وقوله (عن الخير): وفيه دخن؛ إشارة إلى أنه لا يكون خيرًا محضًا خالصًا بل فيه كدر، وفي رواية: "لا ترجع قلوب قوم على ما كانت عليه" فكأن المعنى أن قلوبهم لا يصفو بعضها لبعض.
وقد فسر هذا الدخن بوجود البدع وظهورها قوله: "قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر"، وقوله في الشر الآخر: "دعاة يدعون على أبواب جهنم" باعتبار ما يئول إليه حالهم وحال من تابعهم في دعوتهم الفاسدة التي تهدم دين الإسلام.
وقوله: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا إشارة إلى أنهم من العرب، أو ممن يظهرون الإسلام، ووصفهم بأن قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس.
قال عياض: المراد بالشر الأول الفتن التي وقعت بعد عثمان، والمراد بالخير الذي بعده ما وقع في خلافة عمر بن عبد العزيز، وقال غيره: بل هو الاجتماع على معاوية وترك القتال في الفتنة، وفي الحديث الأمر باعتزال الفتن، وهجران البدع وأهلها مع الإنكار لها، ورد الباطل الذي يدعون إليه.
وفيه أن الجماعة قد تكون رجلًا واحدًا يعتصم بالسنة ويرد البدعة، كما كان من أمر أحمد بن حنبل في فتنة خلق القرآن "12".


(2)

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلوُنَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
تكلمنا عن وجوب اتباع منهج السلف الصالح، فهو منهج الأمة المجمع عليه قبل وقوع الفرقة والخلاف، فالله سبحانه جعل لنا نبينا صلى الله عليه وسلم أسوةً يقتدي به المؤمنون من هذه الأمة، فاقتدى به وبسنته وهديه خير قرون هذه الأمة، والواجب على من جاء بعدهم أن ينتهج نهجهم ويسير على طريقتهم، ومن ترك ذلك فقد خرج عن منهاج الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سِبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115].
لقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الاختلاف وأمرنا أن نعتصم بسنته وسنة الراشدين من بعده، فقال: "إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أَسَرَّ إلى فاطمة رضي الله عنها (وهي بَضْعة منه) في مرضه الذي توفي فيه بأنه قد حضر أجله وأنها أول أهله لحوقًا به صلى الله عليه وسلم، ثم أوصاها بقوله: "فاتقى الله واصبري فإني نعم السلف أنا لك" "13".
فنحن واللهِ أحوج إلى هذه الوصية، بتحقيق تقوى الله عز وجل في السر والعلن والقول والعمل، والصبر على طاعة الله عز وجل وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم واتباع سنته وهديه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم خير سلف لكل مؤمن مهتدٍ وهو سلفُ رحمةٍ لأمته كما جاء في صحيح مسلم: "إن الله إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطًا وسلفًا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه" "14".
وبقدر طاعتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعنا لهديه يكون نصيبنا من هذه الرحمة، ويتجلى هذا حين يقوم الناس لرب العالمين حفاةً عراةً غرلاً بهمًا وتدنو الشمس من الرءوس وتشتد الكرب بالناس ويشتد بهم العطش، فيجدون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مواطن الشفاعة، ويجدونه صلى الله عليه وسلم على حوضه يسقيهم بيده شربة لا يظمأون بعدها أبدًا، أما من ترك هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأحدث في دين الله ما ليس منه فترده الملائكة عن الحوض، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: "إنكم محشورون حفاة عراة غرلاً: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]، وإن أول الخلائق يُكْسَى يوم القيامة إبراهيم الخليل، وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ (118) [ الأنعام: 117-118] فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم "15"، وهذا لفظ البخاري في كتاب الرقاق باب الحشر.

وفي الحديث الآخر، فيقال: "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقًا" "16".
فالبدع التي يحدثها الناس على خلاف منهج الرسول صلى الله عليه وسلم تجرهم إلى هذا المصير؛ لأن كل بدعة ضلالة، وكل بدعة في الدين مردودة على من ابتدعها كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".
ولقد كان سلفنا الصالح أشد الناس اتباعًا لهدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال ابن مسعود: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم".
وقال ابن عمر: "كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة".
وقال ابن عباس: "ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة، حتى تحيى البدع وتموت السنن" "17".
وقال عمر بن عبد العزيز: "أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته، وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة، ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها؛ فإن السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا وببصر نافِذٍ كفوا، وهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم إنما حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون" "18"
والبدع التي يروج لها أعداء السنن كثيرة جدًّا، حتى لو رأيت الناس اليوم، وقارنت بينهم وبين ما كان عليه سلف الأمة لرأيت البون شاسعًا، والأمة غير الأمة، وشتان بين أمة في حال عزها وقوتها واجتماعها على الحق، وبين أمة قد نزغ الشيطان بينها فصارت فرقًا وأحزابًا كل حزب بما لديهم فرحون، تركت سبيل عزها، واتبعت سنن من كان قبلها من الأمم إن شبرًا فشبر وإن ذراعًا فذراع.

• وإن مما أحدثه أهل البدع في زمان الضعف والفرقة بدعة الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من ربيع الأول، متبعين في ذلك هدي النصارى في احتفالهم بعيد الميلاد، والعجيب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتفق العلماء على يوم مولده تحديدًا، وأنه صلى الله عليه وسلم مات في شهر ربيع الأول، ودخل المدينة بعد الهجرة في شهر ربيع الأول، ولكن أبى المبتدعون إلا أن يخصوا هذا الشهر بالاحتفال بالمولد، وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتفل بالمولد لأنه كان يصوم يوم الاثنين والخميس، ويقول عن يوم الاثنين: "هذا يوم ولدت فيه"، ولو صدقوا في زعمهم واتبعوا السنة لصاموا يوم الاثنين ويوم الخميس كما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصوم.
ولكن أهل البدع لا يهتمون بالعبادة بقدر ما يهتمون بالبدعة؛ ولهذا فاليوم عندهم بل والشهر كله موسم للطعام والشراب وعرائس الحلوى، مما ورثوه عن أسلافهم من العبيديين الذين كانوا يتقربون بِسبِّ أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة وسائر الصحابة، ويغالون في علي وبنيه ويبنون القباب والمشاهد ويرفعون القبور ويطوفون بها ويدعون أهلها من دون الله عز وجل، ومن نصحهم وقال لهم: هذا خلاف السنة نبذوه واتهموه ببغض النبي صلى الله عليه وسلم وبغض الصالحين.

فإلى الله المشتكى ممن ترك هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده واتبع غير سبيل المؤمنين، ونذكرهم بمقالة الجنيد رحمه الله: "الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم".
وبمقالة إمام دار الهجرة: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
ونسأل الله أن يعصمنا الزلل وأن يجعلنا ممن اعتصم بالكتاب والسنة وبهدي سلفنا الصالح، وأن يهدي ضال المسلمين وأن يوحد صفوفهم على الحق؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله أولًا وآخرًا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واتبع هداه وسلم تسليمًا كثيرًا.



المصدر/ موقع المراكبي
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ
"1" متفق عليه.
"2" متفق عليه.
"3" البخاري (كتاب السلم).
"4" رواه البخاري.
"5" لسان العرب.
"6" ذكره البخاري معلقًا في التفسير.
"7" متفق عليه.
"8" متفق عليه.
"9" فتح الباري ص7، ص8.
"10" الترمذي وأحمد بسند صحيح.
"11" الترمذي وأحمد بسند صحيح.
"12" راجع فتح الباري بشرح صحيح البخاري.
"13" متفق عليه.
"14" صحيح الجامع.
"15" متفق عليه.
"16" متفق عليه.
"17" اللالكائي.
"18" أبو داود- كتاب السنة.