تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 26

الموضوع: جسر التعب

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    2,170

    افتراضي جسر التعب

    السلام عليكنَّ ورحمة الله وبركاته,
    جســـر التعــــب

    الحمد لله وبعد،،
    إذا أخذت تتصفح (مفكرة المهام) الصغيرة أمامك، أو استخرجت من درج مكتبك أوراقاً عتيقة كنت قد رسمت فيها لنفسك (خططاً) علمية ودعوية، أو حتى مهنية، سيثور مع غبار هذه الأوراق شيء من الحزن وستشعر أنك ما زلت في أدنى الوادي، بينما طموحاتك وأمنياتك وأحلامك مازالت هي الأخرى تعانق السحاب! وليس إلى وصلها سبيل بعد..

    فكيف إذا حرث المرء ذهنه وتذكر طموحاً أجمل من هذه الطموحات كلها، كطموح المرء أن يرافق محمداً –صلى الله عليه وسلم- في قصور الفردوس، فيعيش مستقبله السرمدي مع تلك الكوكبة الراقية..

    ما السبب ياترى أن تلك الأحلام والخطط الجميلة، ركضت فوقها السنوات بحوافرها، حتى بهت حبرها؛ ولم تتحقق بعد؟

    الحقيقة أن تفسير الإخفاق، وتعثر الخطط والطموحات، له عوامل كثيرة، دلت على بعضها النصوص الشرعية، ودلت على بعضها الخبرة البشرية الهائلة اليوم في علوم الإدارة والتخطيط والنجاح، وخصوصاً المعرفة الإدارية المبرهنة تجريبياً/إمبيريقياً..

    ولكن ثمة عاملٌ له في نفسي حفاوةٌ خاصة، عامل يفسر كثيراً من فشل الطموحات والأحلام.. هذا العامل بكل اختصار: هو أن الخطط فوق الصخور والأرجل ما زالت ناعمة ما حفيت بعد..

    مازال في كثير من النفوس وهم مطمور أنه يمكن أن يبلغ المرء المجد وهو لم يكابد المشاق ويلعق الصبِر..

    لقد ركّب الله في هذه الحياة أن (معالي الأمور) التي نص عليها القرآن، كالرسوخ في العلم، وإظهار الهدى ودين الحق على الدين كله، والتمكين في الأرض، وإصلاح الأمة، ونحوها من المطالب الكبرى لا تحصل للمرء وهو مستكملٌ راحته وطعامه وشرابه ونومه وأوقات استرخائه.. هذه حقيقة دلّ عليها الشرع وصرخت بها تجارب الحياة..

    إذا كان المرء ينام حتى تُجهرك أشعة الحمرة في عينيه، ويبسط خوان الطعام كلما اشتهى، ويخصص الأوقات الطويلة للقهوة والشاي والعصائر والفطائر، ولا يسمح لنفسه بأن تتنازل عن أي فرصة فسحة أو مسامرات مع أصحابه، ولا يستطيع كبح جماح تصفح الانترنت أن يسرق ساعاته، إذا كان المرء كذلك .. ومازال يرجو أن تتحقق يوماً ما خططه العلمية والدعوية والإصلاحية فمثل هذا الشخص قد استأصل عقله، وزرع بدلاً منه مصباح علاء الدين!

    معالي الأمور، والطموحات الكبرى، في العلم والتعليم والتأليف والإصلاح والتغيير والنهضة بالأمة؛ لا تكشف وجهها لك، حتى تمسح العرق عن جبينك بيدٍ ترتعش من العناء..

    كنت أتحدث مرةً مع أحد أقراني الناشطين في ميدان (التربية الدعوية)، فقال لي: ماوجهة نظرك في أكبر مشكلة تهدد المحاضن التربوية مع هذه المتغيرات والتحديات الفكرية الجديدة؟ فقلت له بقناعة تحفر أخاديدها في عقلي: صدقني يا أبا فلان، دع عنك كل هذه الانحرافات الفكرية، فليست بشيء، أخطر مشكلة تهدد التربية الدعوية (نقص الجدية).
    في بيئةٍ يغلب عليها ضجيج اللهو وخفة المرح وقهقهات الفكاهة .. أتُراها يمكن أن تنتج مُسنَداً أو مدونةً أو مَعْلَمةً أو معجماً؟! منطق الحياة يأبى ذلك.. والعلم خلقه الله ثميناً لا يُجلب في الأسواق المخفضة..

    سل من شئت من أهل العلم المبدعين، ونقّب في السيرة الذاتية لمن يأسرك تدفقه بالعلوم.. وستجد في كل هذه الشخصيات أن المتضرر الأكبر في حياتهم هو النوم والطعام والشراب والترفيه..

    خططنا في شواهق الجبال .. ومازالت أقدامنا غضة طرية! بل .. ونتوهم أنه في يومٍ من الأيام ستهبط النتائج بلا مقدمات..

    خذ مثلاً .. ما أكثر ما تجد عند طلاب العلم والباحثين (مسوّدة كتاب أو مؤلَّف) لم يتجاوز تقسيم الموضوع والعناصر، وبعض الشواهد والنصوص والملاحظات المهمة، وتسري عليه السنون، تزاور الشمس عن يمينه وشماله.. ولم ير النور بعد، ولا أظنه سيراها .. طالما أن فضول النوم، وفضول الطعام والشراب، وفضول الترفيه، وفضول الخلطة، وفضول الحديث والكلام، وفضول النظر، قد استكملت أوقاتها وأخذت نصيبها غير منقوص..

    وهكذا تجد في عزم كثير من الناس شُعباً من الخير والإنجاز والإنتاج.. لكنها لم تتجاوز بعد مرحلة (المشروع)..

    بل خذ أمراً من شؤون الدنيا ذاتها .. ما أكثر ما تجد شاباً يحدث نفسه، وأهله، وأصدقاءه؛ عن عزمه على البدء بمشروع تجاري في غضون "الأيام القادمة".. ومع ذلك تمضي السنوات ومازالت هذه "الأيام القادمة" التي يحدثك عنها لم تأت بعد! لأنه لم يستطع التخلي عن حصص الترفيه والراحة والسهرات من برنامجه اليومي!

    _____________

    وللحديث بقية إن شاء الله.
    أرجو من أخواتي الفاضلات قبول عذري عن استقبال الاستشارات على الخاص.
    ونرحب بكن في قسم الاستشارات على شبكة ( الألوكة )
    انسخي الرابط:
    http://www.alukah.net/Fatawa_Counsels/Counsels/PostQuestion.aspx

  2. #2
    سارة بنت محمد غير متواجد حالياً مشرفة سابقة بمجالس طالبات العلم
    تاريخ التسجيل
    Dec 2007
    المشاركات
    3,129

    افتراضي رد: جسر التعب

    ولكن ثمة عاملٌ له في نفسي حفاوةٌ خاصة، عامل يفسر كثيراً من فشل الطموحات والأحلام.. هذا العامل بكل اختصار: هو أن الخطط فوق الصخور والأرجل ما زالت ناعمة ما حفيت بعد..
    صدق والله!
    الاكتفاء بالأحلام دون البحث عن طرق التنفيذ ووضعها في موضع التنفيذ الفعلي آفة من آفات عصرنا.
    عندما يريد إنسان أن يحفظ سورة ويظل يحلم ثم لا يبدأ فعليا في الامساك بالمصحف وحفظها...لن يحفظها وهذا مثال بسيط يومي يحدث بيننا

    عندما نظن أننا "إن شاء الله" سنجلس جلسة ما بعد الفجر وسنقرأ القرآن كل كذا وكذا وسنختم متن كذا وكذا
    قالها ابن القيم من قبل: كم جاء الثواب يسعى إليك فرده بواب سوف ولعل وعسى!!

    وكنت سودت فائدة ولما أكتبها بعد في درر وفوائد وفرائد: جميل أن تخطط..ولكن تذكر أنك بحاجة لوقت للتنفيذ!
    عن جعفر بن برقان: قال لي ميمون بن مهران: يا جعفر قل لي في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره.

    السير 5/75

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    2,170

    افتراضي رد: جسر التعب

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سارة بنت محمد مشاهدة المشاركة
    صدق والله!
    الاكتفاء بالأحلام دون البحث عن طرق التنفيذ ووضعها في موضع التنفيذ الفعلي آفة من آفات عصرنا.
    عندما يريد إنسان أن يحفظ سورة ويظل يحلم ثم لا يبدأ فعليا في الامساك بالمصحف وحفظها...لن يحفظها وهذا مثال بسيط يومي يحدث بيننا

    عندما نظن أننا "إن شاء الله" سنجلس جلسة ما بعد الفجر وسنقرأ القرآن كل كذا وكذا وسنختم متن كذا وكذا
    قالها ابن القيم من قبل: كم جاء الثواب يسعى إليك فرده بواب سوف ولعل وعسى!!

    وكنت سودت فائدة ولما أكتبها بعد في درر وفوائد وفرائد: جميل أن تخطط..ولكن تذكر أنك بحاجة لوقت للتنفيذ!
    أحسن الله إليكِ..
    أرجو من أخواتي الفاضلات قبول عذري عن استقبال الاستشارات على الخاص.
    ونرحب بكن في قسم الاستشارات على شبكة ( الألوكة )
    انسخي الرابط:
    http://www.alukah.net/Fatawa_Counsels/Counsels/PostQuestion.aspx

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    2,170

    افتراضي رد: جسر التعب


    لما كان الإمام مسلم بن الحجاج يصنف كتابه "الصحيح" الذي هو أحد مفاخر هذه الأمة، وبلغ -رحمه الله- أحاديث الصلاة، وبلغ منها تحديداً أحاديث مواقيت الصلاة، جاء لحديث عبد الله بن عمرو المشهور في تحديد أوقات الصلاة، وكان هذا الحديث جاء بروايات متفرعة متعددة، فرتبها ترتيباً حسناً استوعب اختلاف الطرق فيها عن قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو، فلما رأى رحمه الله صنيعه هذا أراد أن يوصل رسالة لقارئ كتابه أن هذه النتيجة الحديثية التي توصل إليها في حديث عبد الله بن عمرو لم تأت إلا بالعناء المضني، فأخرج بعدها أثراً عن الإمام الحافظ يحي بن أبي كثير (ت129هـ) يقول فيه:

    (حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، قال أخبرنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، قال: سمعت أبي يقول: "لا يستطاع العلم براحة الجسم" )[صحيح مسلم:612].

    وموطن العجب هاهنا أن الإمام مسلم لا يخرج في كتابه إلا أحاديث مرفوعة عن النبي –صلى الله عليه وسلم، هذا شرطه في الكتاب من حيث الأصل، فكيف روى هذا الأثر عن إمام من صغار التابعين، يتحدث فيه عن التعب في العلم، ووضعه بين أحاديث الصلاة؟ يقول القاضي عياض (ت 544هـ) في كتابه إكمال المعلم:
    (فكثيرٌ من يسأل عن ذكره هذا الخبر فى هذا الموضع وليس منه، ولا هو من حديث النبى -صلى الله عليه وسلم- ولا من شرط الكتاب ، فقال لنا بعض شيوخنا: إن مسلماً رحمه الله أعجبه ما ذكر فى الباب، وعرف مقدار ما تعب فى تحصيله وجمعه من ذلك، فأدخل بينها هذا الخبر تنبيهاً على هذا، وأنه لم يحصِّل ما ذكر إلا بعد مشقة وتعب فى الطلب، وهو بيِّن، والله أعلم)[القاضي عياض، إكمال المعلم: 2/577].

    واضح جداً أن هذه العبارة التي قالها الإمام يحي بن أبي كثير (لا يستطاع العلم براحة الجسم) أنها كانت ذات وقعٌ في نفس الإمام مسلم، وكأنه كان يستحضرها بشكل خاص، فالعبارات التي تهيج النفس على الجلد والدأب والمثابرة في العلم كثيرة، لكنه اختار من بين هذه النصوص عبارة الإمام يحي بن أبي كثير هذه (لا يستطاع العلم براحة الجسم) لأن لها في نفسه أثراً أقرب إلى روحه.

    ومن تأمل في ضخامة العلم، وقصر العمر، وكثرة متطلبات الحياة؛ أدرك حقاً أن عبارة الإمام يحي بن كثير هذه (لا يستطاع العلم براحة الجسم) أنها: لم تخرج من طرف الذهن.. ولم تكتب بحبر الأدب.. وإنما حفرت حروفها بإزميل التجارب..لما كان الإمام مسلم بن الحجاج يصنف كتابه "الصحيح" الذي هو أحد مفاخر هذه الأمة، وبلغ -رحمه الله- أحاديث الصلاة، وبلغ منها تحديداً أحاديث مواقيت الصلاة، جاء لحديث عبد الله بن عمرو المشهور في تحديد أوقات الصلاة، وكان هذا الحديث جاء بروايات متفرعة متعددة، فرتبها ترتيباً حسناً استوعب اختلاف الطرق فيها عن قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو، فلما رأى رحمه الله صنيعه هذا أراد أن يوصل رسالة لقارئ كتابه أن هذه النتيجة الحديثية التي توصل إليها في حديث عبد الله بن عمرو لم تأت إلا بالعناء المضني، فأخرج بعدها أثراً عن الإمام الحافظ يحي بن أبي كثير (ت129هـ) يقول فيه:
    (حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، قال أخبرنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، قال: سمعت أبي يقول: "لا يستطاع العلم براحة الجسم" )[صحيح مسلم:612].

    وموطن العجب هاهنا أن الإمام مسلم لا يخرج في كتابه إلا أحاديث مرفوعة عن النبي –صلى الله عليه وسلم، هذا شرطه في الكتاب من حيث الأصل، فكيف روى هذا الأثر عن إمام من صغار التابعين، يتحدث فيه عن التعب في العلم، ووضعه بين أحاديث الصلاة؟ يقول القاضي عياض (ت 544هـ) في كتابه إكمال المعلم:
    (فكثيرٌ من يسأل عن ذكره هذا الخبر فى هذا الموضع وليس منه، ولا هو من حديث النبى -صلى الله عليه وسلم- ولا من شرط الكتاب ، فقال لنا بعض شيوخنا: إن مسلماً رحمه الله أعجبه ما ذكر فى الباب، وعرف مقدار ما تعب فى تحصيله وجمعه من ذلك، فأدخل بينها هذا الخبر تنبيهاً على هذا، وأنه لم يحصِّل ما ذكر إلا بعد مشقة وتعب فى الطلب، وهو بيِّن، والله أعلم)[القاضي عياض، إكمال المعلم: 2/577].

    واضح جداً أن هذه العبارة التي قالها الإمام يحي بن أبي كثير (لا يستطاع العلم براحة الجسم) أنها كانت ذات وقعٌ في نفس الإمام مسلم، وكأنه كان يستحضرها بشكل خاص، فالعبارات التي تهيج النفس على الجلد والدأب والمثابرة في العلم كثيرة، لكنه اختار من بين هذه النصوص عبارة الإمام يحي بن أبي كثير هذه (لا يستطاع العلم براحة الجسم) لأن لها في نفسه أثراً أقرب إلى روحه.

    ومن تأمل في ضخامة العلم، وقصر العمر، وكثرة متطلبات الحياة؛ أدرك حقاً أن عبارة الإمام يحي بن كثير هذه (لا يستطاع العلم براحة الجسم) أنها: لم تخرج من طرف الذهن.. ولم تكتب بحبر الأدب.. وإنما حفرت حروفها بإزميل التجارب..

    وللحديث تتمة إن شاء الله.
    أرجو من أخواتي الفاضلات قبول عذري عن استقبال الاستشارات على الخاص.
    ونرحب بكن في قسم الاستشارات على شبكة ( الألوكة )
    انسخي الرابط:
    http://www.alukah.net/Fatawa_Counsels/Counsels/PostQuestion.aspx

  5. #5

    افتراضي رد: جسر التعب

    خذ مثلاً .. ما أكثر ما تجد عند طلاب العلم والباحثين (مسوّدة كتاب أو مؤلَّف) لم يتجاوز تقسيم الموضوع والعناصر، وبعض الشواهد والنصوص والملاحظات المهمة، وتسري عليه السنون، تزاور الشمس عن يمينه وشماله.. ولم ير النور بعد
    وكأنه يتحدث عني سبحان الله غير انه سرى عليها الشهور وليس السنون،
    والعجيب أني كنت اشتكي ذاك الامر لاحدى الاخوات بالامس

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    2,170

    افتراضي رد: جسر التعب

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم عبد الرحمن بنت مصطفى مشاهدة المشاركة
    وكأنه يتحدث عني سبحان الله غير انه سرى عليها الشهور وليس السنون،
    والعجيب أني كنت اشتكي ذاك الامر لاحدى الاخوات بالامس
    نعم, هذا حال الكثير من طلبة العلم, وأرجو الله ألا تصل إلى السنين.
    أرجو من أخواتي الفاضلات قبول عذري عن استقبال الاستشارات على الخاص.
    ونرحب بكن في قسم الاستشارات على شبكة ( الألوكة )
    انسخي الرابط:
    http://www.alukah.net/Fatawa_Counsels/Counsels/PostQuestion.aspx

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    2,170

    افتراضي رد: جسر التعب


    ما أكثر ما رأيتُ عالماً شاباً بزّ أقرانه يتدفق بالأسانيد والمسائل، أو رأيت عملاً علمياً رصيناً صار أصلاً في بابه .. إلا قلت في نفسي: رحم الله يحي بن أبي كثير حين قال (لا يستطاع العلم براحة الجسم).

    وهذا التعب الذي يجب تحمله ومكابدته لا يختص بمطلب دون مطلب، بل هو عام في (الكمالات الإنسانية) كلها، كما يقول ابن القيم (الكمالات كلها لا تُنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبر إليها إلا على جسر من التعب)[ابن القيم، مفتاح دار السعادة، 2/895، طبعة مجمع الفقه].

    وأعظم المتعبين ثمرةً أولئك الذين أنفقوا تعبهم باتجاه المستقبل الأبدي، وقد قال ابن القيم رحمه الله (هيهات ما وصل القوم إلى المنزل إلا بعد مواصلة السرى، ولا عبروا إلى مقر الراحة إلا على جسر التعب)[ابن القيم، بدائع الفوائد، 3/1187، طبعة مجمع الفقه].

    ومن المهم أن يلاحظ المرء (حكمة الله) في هذه العلاقة بين (التعب والإنجاز) كما أشار لذلك ابن القيم حين شرح مسائل القدر الكوني وحكمة الله فيه فقال:
    (يوضحه الوجه الحادي والعشرون: أنه قد استقرت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب، ولا يُدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق)[ابن القيم، شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص448، طبعة دار التراث].


    وهذه العلاقة بين (التعب والإنجاز) ليست معنى شرعياً يختص بالأمم التي بلغها الوحي، بل هو معنى تستنتجه العقول فور معاركتها الحياة .. وأول من رأيته نبّه على تواطؤ الثقافات على هذا المعنى بعبارة بديعة جداً، الإمام الحافظ الزاهد أبو إسحاق إبراهيم الحربي (285هـ)، صاحب الكتاب المشهور تاريخياً عن (غريب الحديث)، وهو من تلاميذ أحمد بن حنبل، حيث نقل عنه ابن تيمية عبارة تهز النفوس مما فيها من البلاغة وهيبة المعنى، حيث يقول ابن تيمية:
    (قال إبراهيم الحربي: "أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يُدرك بالنعيم" )[ابن تيمية، قاعدة في المحبة مطبوعة ضمن جامع الرسائل، 2/393، تحقيق رشاد سالم]



    وللحديث تتمة إن شاء الله
    أرجو من أخواتي الفاضلات قبول عذري عن استقبال الاستشارات على الخاص.
    ونرحب بكن في قسم الاستشارات على شبكة ( الألوكة )
    انسخي الرابط:
    http://www.alukah.net/Fatawa_Counsels/Counsels/PostQuestion.aspx

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Aug 2012
    الدولة
    العراق
    المشاركات
    281

    افتراضي رد: جسر التعب

    بارك الله فيكِ,وننتظر المزيد.
    إنَّ الَّذي مَلأ الُّلغَاتَ محَاسناً جَعَلَ الجمَالَ وَسرَهُ في الضَّاد

  9. #9
    سارة بنت محمد غير متواجد حالياً مشرفة سابقة بمجالس طالبات العلم
    تاريخ التسجيل
    Dec 2007
    المشاركات
    3,129

    افتراضي رد: جسر التعب

    أتعبتني مقالة الشيخ السكران بصراحة شديدة حتى أنني صرت أنام ضعف ما كنت أفعل من كثرة التعب (ابتسامة)

    ثم لما اشتد الأمر استحضرت أبيات لطلاب هذه الأيام لأخرج من حالة التعب هذه

    لكن...أظن لو وضعتها كتعليق على مثل هذا المقال...سأستحق طردي من الفصل (ابتسامة)
    عن جعفر بن برقان: قال لي ميمون بن مهران: يا جعفر قل لي في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره.

    السير 5/75

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    2,170

    افتراضي رد: جسر التعب

    وروى هذه العبارة الخطيب البغدادي في تاريخه عن إبراهيم الحربي بصيغة مختلفة قليلاً، وتحدث فيها ابراهيم الحربي بأمور عن نفسه في غاية العجب، ليس في كونه يتحمل المشاقّ فقط، بل في معنى أدق، وهو كونه لا يأبه بها ولا يلتفت إليها، حيث جاء في تاريخ الخطيب:
    (أجمع عقلاء كل أمة أنه من لم يجرِ مع القدر لم يتهنّأ بعيشه، كان يكون قميصي أنظف قميص وإزاري أوسخ إزار، ما حدثت نفسي أنهما يستويان قط، وفرد عقبي مقطوع، وفرد عقبي الآخر صحيح، أمشي بهما وأدور بغداد كلها، هذا الجانب وذلك الجانب، لا أحدث نفسي أني أصلحها، وما شكوت إلى أمي، ولا إلى أختي، ولا إلي امرأتي، ولا إلي بناتي قط: حُمّى وجدتها، الرجل هو الذي يدخل غمّه على نفسه، ولا يَغُمّ عياله، كان بي شقيقة خمساً وأربعين سنة ما أخبرت بها أحداً قط، وأفنيت من عمري ثلاثين سنة برغيفين، إن جاءتني بهما أمي أو أختي أكلت، وإلا بقيت جائعاً عطشان إلى الليلة الثانية)[الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، 6/522، طبعة بشار].

    وبكل صراحة فإن مثل هذا النمط من الاشتغال بالمطالب العالية والإعراض التام عن الالتفات للمشاق والتعب؛ نمط استثنائي لا أظن يطيقه إلا النوادر في التاريخ..
    وهذه العبارة لإبراهيم الحربي شاع معناها في من جاء بعده من أهل العلم، فتتابعوا على تأكيد تجريبية وعقلانية هذا المعنى، وتداوله بين الأمم، حتى قال ابن القيم في تأثر واضح بعبارة إبراهيم الحربي:
    (العقلاء قاطبة متفقون على استحسان إتعاب النفوس في تحصيل كمالاتها، وكل من كان أتعب في تحصيل ذلك؛ كان أحسن حالا وأرفع قدرا)[ابن القيم، شفاء العليل، ص449، طبعة دار التراث].

    ___________
    وللحديث تتمة إن شاء الله.
    أرجو من أخواتي الفاضلات قبول عذري عن استقبال الاستشارات على الخاص.
    ونرحب بكن في قسم الاستشارات على شبكة ( الألوكة )
    انسخي الرابط:
    http://www.alukah.net/Fatawa_Counsels/Counsels/PostQuestion.aspx

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    2,170

    افتراضي رد: جسر التعب

    بارك الله فيكِ,وننتظر المزيد.
    وفيكِ بارك الله أختنا المتميزة, وشكر لكِ مروركِ الكريم.

    أتعبتني مقالة الشيخ السكران بصراحة شديدة حتى أنني صرت أنام ضعف ما كنت أفعل من كثرة التعب (ابتسامة)

    ثم لما اشتد الأمر استحضرت أبيات لطلاب هذه الأيام لأخرج من حالة التعب هذه

    لكن...أظن لو وضعتها كتعليق على مثل هذا المقال...سأستحق طردي من الفصل (ابتسامة)
    أضمن لكِ البقاء في الفصل, فأتحفينا ..
    أرجو من أخواتي الفاضلات قبول عذري عن استقبال الاستشارات على الخاص.
    ونرحب بكن في قسم الاستشارات على شبكة ( الألوكة )
    انسخي الرابط:
    http://www.alukah.net/Fatawa_Counsels/Counsels/PostQuestion.aspx

  12. #12
    سارة بنت محمد غير متواجد حالياً مشرفة سابقة بمجالس طالبات العلم
    تاريخ التسجيل
    Dec 2007
    المشاركات
    3,129

    افتراضي رد: جسر التعب

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مروة عاشور مشاهدة المشاركة
    أضمن لكِ البقاء في الفصل, فأتحفينا ..
    مع هذا الضمان أضع الأبيات وأرجو ألا يحاول عمل بحث على جوجل ليرى أين انتشرت مقالته
    لو قرأ الأبيات فغالبا سيعتزل الكتابة بعد ذلك ^_^

    من طلب العلا نام الليالي
    وشد اللحاف وقال أنا مالي
    إن أخذت صفرا فلا تبالي
    فالصفر فخرا للرجال
    الله أكبر كبيرا
    دخلت الامتحان بلا تحضيرا
    السؤال الأول كان عسيرا
    والثاني لم أجد له تفسيرا
    والثالث كاد عقلي أن يطيرا
    فدعوت ربي أن يقرب ورقة زميلي مني
    وأن يبعد عين المراقب عني
    لكي أغش بتأني
    وأنجح وأنا متهني

    هؤلاء هم الطلاب الطلاب (ابتسامة)
    عن جعفر بن برقان: قال لي ميمون بن مهران: يا جعفر قل لي في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره.

    السير 5/75

  13. #13

    افتراضي رد: جسر التعب

    جزاك الله خيرا أختى مروة ونفع بك ..
    بااارك الله فيك حبيبتى سارة وأسعدك دنيا وآخرة ...لكن من أين لك بهذه التحف ....يعنى كسول وغشااااش ...(:
    رحمك الله يابن القيم .... يقول ابن القيم رحمه الله (الكمالات كلها لا تُنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبر إليها إلا على جسر من التعب) ...أما صاحبنا هذا فالله المستعان ..على رأيك ربما اعتزل الشيخ لكن ابن القيم لا أظنه كان سيستوعب هذه الدرر أصلا (:
    جزاكن الله خيرا ونفع بكن حبيباتى .

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    2,170

    افتراضي رد: جسر التعب

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سارة بنت محمد مشاهدة المشاركة
    مع هذا الضمان أضع الأبيات وأرجو ألا يحاول عمل بحث على جوجل ليرى أين انتشرت مقالته
    لو قرأ الأبيات فغالبا سيعتزل الكتابة بعد ذلك ^_^

    من طلب العلا نام الليالي
    وشد اللحاف وقال أنا مالي
    إن أخذت صفرا فلا تبالي
    فالصفر فخرا للرجال
    الله أكبر كبيرا
    دخلت الامتحان بلا تحضيرا
    السؤال الأول كان عسيرا
    والثاني لم أجد له تفسيرا
    والثالث كاد عقلي أن يطيرا
    فدعوت ربي أن يقرب ورقة زميلي مني
    وأن يبعد عين المراقب عني
    لكي أغش بتأني
    وأنجح وأنا متهني

    هؤلاء هم الطلاب الطلاب (ابتسامة)
    أحسن الله إليكِ : )
    مُتميزة في جدكِ ومزحكِ!
    أرجو من أخواتي الفاضلات قبول عذري عن استقبال الاستشارات على الخاص.
    ونرحب بكن في قسم الاستشارات على شبكة ( الألوكة )
    انسخي الرابط:
    http://www.alukah.net/Fatawa_Counsels/Counsels/PostQuestion.aspx

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    2,170

    افتراضي رد: جسر التعب

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم إبراهيم والبراء مشاهدة المشاركة
    جزاك الله خيرا أختى مروة ونفع بك ..
    بااارك الله فيك حبيبتى سارة وأسعدك دنيا وآخرة ...
    جزاكن الله خيرا ونفع بكن حبيباتى .
    آمين آمين آمين
    أسعدني مروركِ العطِر.
    أرجو من أخواتي الفاضلات قبول عذري عن استقبال الاستشارات على الخاص.
    ونرحب بكن في قسم الاستشارات على شبكة ( الألوكة )
    انسخي الرابط:
    http://www.alukah.net/Fatawa_Counsels/Counsels/PostQuestion.aspx

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    2,170

    افتراضي رد: جسر التعب

    إذا كنت في مسجد حيكم تدور تتحفظ متناً من متون العلم .. أو كانت المراجعُ منشورةٌ بين يديك، مطويةٌ زواياها، وقد غصصت في منتصف البحث ..
    أو كنت واقفاً في مهمة دعوية تراوح بين قدميك .. ثم داهمك النعاس، أو تلقيت رسالة من أصدقائك تعرض عليك مشروع نزهة ..
    فبالله عليك تذكّر قول إبراهيم الحربي (أجمع عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم) وسترى كيف تتراقص همتك مجدداً وتقبل على شأنك..


    ولا يقتصر التعب والجهد في الوصول إلى أعلى مطلب وهو الجنة والسلامة من النار، أو المطالب الشريفة كالعلم والإيمان وإطعام المساكين والإصلاح المجتمعي، بل حتى اللذائذ الدنيوية التي يطلبها الناس كالمال والصيت والمنصب الخ، فإنها أيضاً تتطلب العبور على جسر التعب، كما قال ابن تيمية:
    (لذات الدنيا لا تُنال غالباً إلا بنوع من التعب)[ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ص20/146].

    والحقيقة أن هذا التعب الذي تتطلبه المعالي من أعظم ما يعين النفس على تحمله أن يستحضر المرء الثمرة، وأن يستدعي في ذهنه حسن العاقبة، فإن الجدوى والمكتسب تهوّن على النفس تحمل المشاق والتعب، كما يقول ابن الجوزي في استعارة مكثفة:
    (تلمّح فجر الأجر يهُن ظلام التكليف)[ابن الجوزي، المدهش، ص295، طبعة الكتب العلمية].

    ___________

    وللحديث تتمة, إن شاء الله.
    أرجو من أخواتي الفاضلات قبول عذري عن استقبال الاستشارات على الخاص.
    ونرحب بكن في قسم الاستشارات على شبكة ( الألوكة )
    انسخي الرابط:
    http://www.alukah.net/Fatawa_Counsels/Counsels/PostQuestion.aspx

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    2,170

    افتراضي رد: جسر التعب

    هذه العلاقة بين (التعب والنجاح)، هل جاءت الإشارة إليها في القرآن والسنة النبوية؟

    نعم، جاءت إشارات كثيرة لهذه العلاقة، من أهمها ذلك التصوير النبوي الأخاذ إذ قال - صلى الله عليه وسلم - في جملة مكثفة بيانية جميلة:
    )حُفّت الجنة بالمكاره), [صحيح مسلم:2822].
    فالجنة لا يوصل إليها إلا بمكابدة ما تكرهه النفوس من ترك الهوى والشهوات..

    وفي تصوير نبوي آخر في غاية الجمال الأدبي رسم النبي – صلى الله عليه وسلم - مشهد المؤمن وهو يتحمل الكلفة والجهد بقوله:
    (الدنيا سجن المؤمن), [صحيح مسلم:2956].


    وإذا قارنت بين تصوير القرآن لأهل الجنة، وتصوير القرآن لأهل النار؛ تلاحظ كيف يذكر القرآن أن أهل الجنة ازدحموا فوق جسور التعب في الدنيا، وأهل النار استرسلوا مع الراحة والنزوة..

    تأمل –مثلاً- كيف يذكر الله تقليل أهل الجنة لنومهم في الدنيا وسهرهم في عبادة الله، كما قال الله (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ), [الذاريات:16-17]. وقول الله عن قلة نوم سادات الصحابة (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ), [المزمل:20] وقول الله لنبيه (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا), [المزمل:2].

    بالله عليك أعد تأمل هذه الآيات "قليلاً من الليل ما يهجعون"، "قم الليل إلا قليلا" ونحوها، وقارن ذلك بوسائدنا التي تقوست من نوم الليل والنهار..
    إنها المعالي تحتاج المكابدة..

    __________

    وللحديث تتمة إن شاء الله.
    أرجو من أخواتي الفاضلات قبول عذري عن استقبال الاستشارات على الخاص.
    ونرحب بكن في قسم الاستشارات على شبكة ( الألوكة )
    انسخي الرابط:
    http://www.alukah.net/Fatawa_Counsels/Counsels/PostQuestion.aspx

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    2,170

    افتراضي رد: جسر التعب

    أولا: وفي مقابل أهل الجنة، قارن نمط معيشة أهل النار لما كانوا في الدنيا وكيف يصورها القرآن؟

    يقول الله عن أهل الشمال (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ)[الواقعة:45].


    ولذلك فإن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة استقبلتهم الملائكة بالتهاني والترحيب بألفاظ تشير إلى هذا المعنى كما قال الله:

    (وَالْمَلَائِكَ ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)[الرعد:23-24].

    فلاحظ كيف جعلت الملائكة العبارة الترحيبية "بما صبرتم" بما يشير لأمور تخالف الراحة حملوا أنفسهم عليها..
    أرجو من أخواتي الفاضلات قبول عذري عن استقبال الاستشارات على الخاص.
    ونرحب بكن في قسم الاستشارات على شبكة ( الألوكة )
    انسخي الرابط:
    http://www.alukah.net/Fatawa_Counsels/Counsels/PostQuestion.aspx

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    2,170

    افتراضي رد: جسر التعب

    ومن أعظم مصادر معرفة هذه المعنى تدبر أخبار وقصص الأنبياء في القرآن، وما عانوه مع أممهم، انظر –مثلاً- كيف لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وكيف كان يستثمر كل الأوقات الممكنة في دعوتهم كقول نوح صلى الله عليه وسلم (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا)[سورة نوح:5] وقوله أيضاً (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا)[سورة نوح:8-9].

    وفوق هؤلاء كلهم العناء والأهوال التي كابدها سيد ولد آدم محمد –صلى الله عليه وسلم- حتى مكّن الله له، ولخص ابن القيم جزءاً من المشهد بقوله:
    (وكما دخل رسول -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم- إلى مكة ذلك المدخل العظيم، بعد أن أخرجه الكفار ذلك المخرج، ونصره ذلك النصر العزيز، بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه..، وبالجملة: فالغايات الحميدة فى خبايا الأسباب المكروهة الشاقة)[ابن القيم، إغاثة اللهفان، ص2/817، طبعة مجمع الفقه].

    وبسبب تجريبية وعقلانية هذا المعنى، وكون الناس يدركونه من مجالدة كبَد الدنيا، فقد تنافس الشعراء في تجسيد هذا المعنى في أبيات سائرة، ومن ذلك قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي(ت 231هـ) في قصيدته الشهيرة في فتح عمورية:
    (بَصُرت بالراحة الكبرى فلم ترها ** تُنال إلا على جسر من التعبِ) [ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، ص1/49، طبعة دار الكتاب]

    بل إن أبا تمام قابل مقابلة بديعة بين نوعين من النوم، لا يحصل أحدهما إلا بهجر الآخر! كما قال:
    (ولم تُعطِني الأيام نوماً مُسكّناً ** أَلَذُّ به؛ إلا بنوم مشرّد)[ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، ص1/245، طبعة دار الكتاب]

    ___________

    وللحديث تتمة إن شاء الله.

    .
    أرجو من أخواتي الفاضلات قبول عذري عن استقبال الاستشارات على الخاص.
    ونرحب بكن في قسم الاستشارات على شبكة ( الألوكة )
    انسخي الرابط:
    http://www.alukah.net/Fatawa_Counsels/Counsels/PostQuestion.aspx

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    2,170

    افتراضي رد: جسر التعب

    فحتى النوم الهانئ لا يحصل للمرء إلا بساعات أخرى يعاني فيها هجر النوم! وأقرب صورةٍ لهذا الذي ذكره أبو تمام هي صورة (النوم بعد الإنجاز) فإن له مذاقاً لا يعدله نوم البطالة العمر كله..

    ثم جاء المتنبي (ت354هـ) بعد أبي تمام، ونحت هذا المعنى في صورٍ متعددة في منتهى البراعة الأدبية، حيث أشار المتنبي أن هذه المشاقّ وألوان التعب والعناء هي التي أصلاً صنعت الفروق بين الناس في المجد والمعالي، وإلا لاستووا، كما يقول المتنبي:
    (لولا المشقة ساد الناس كلهم ** الجود يُفقِر، والإقدام قتّالُ) [ديوان المتنبي، ص490، طبعة دار بيروت].

    وأقام المتنبي في بيت من عيون الشعر علاقة عكسٍ وتضاد بين النفس والبدن، وأن النفس إذا كانت همتها عالية أتعبت البدن، وإذا انخفضت الهمة ارتاح البدن!، كما يقول المتنبي:
    (وإذا كانت النفوس كباراً ** تعبت في مُرادها الأجسامُ) [ديوان المتنبي، ص261، طبعة دار بيروت].

    وفي بيت آخر نسج المتنبي هذا المعنى بتشبيه أخاذ، وهو أنه برغم أن النحل يدافع عن بيوته بلسع من يقترب منه فإن الناس تغامر لتجني العسل والتمتع بحلاوته، وهكذا طموحات الحياة، كما يقول المتنبي:
    (تريدين لقيان المعالي رخيصة ** ولابد دون الشهد من إبر النحل) [ديوان المتنبي، ص518، طبعة دار بيروت].

    ____________

    وللحديث تتِمة إن شاء الله.
    أرجو من أخواتي الفاضلات قبول عذري عن استقبال الاستشارات على الخاص.
    ونرحب بكن في قسم الاستشارات على شبكة ( الألوكة )
    انسخي الرابط:
    http://www.alukah.net/Fatawa_Counsels/Counsels/PostQuestion.aspx

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •