بسم الله الرحمن الرحيم






وما كان قيسٌ هلكه هلك واحدٍ ### ولــــكـــنـَّـ ه بــنــيـــانُ قــــومٍ تــــهـــدَّمــ ــا


عن شيخ الحنابلة أكتب


الحمد لله حمدًا لا ينفد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن بالسنة تعبد، أما بعد:


فقد طلب مني الشيخ محمد زياد التُّكلة - حفظه الله - أن أكتب عن شيخنا العلامة عبد الله ابن عقيلٍ - رحمه الله -، وقد كنتُ مترددًا في ذلك، ثم استخرتُ الله، وعزمتُ على الكتابة؛ لما لشيخنا - رحمه الله - من فضل علي وإحسان، ولما لصاحب الطَّلب من عنايةٍ خاصَّةٍ بترجمة شيخنا، قويت بها الآصرة بيني وبينه.


وقد تعمدتُ الاختصار في مقالتي هذه؛ لعلمي أن في طلاب الشيخ ممن يكبرني سنًا من هم أحق مني بالكتابة عنه، ورأيتُ أن أكتب عن الذي أغفله كثير ممن كتب عنه مما أحسب أنه يفيد القارئ، فأقول وبالله التوفيق:


* إن من أهم الجوانب التي تميَّز بها شيخنا - رحمه الله - أنه كان يجمع للطالب المتفرِّق، ويضم له النظير إلى نظيره، بأسلوب قلَّ أن تجده عند غيره، من ذلك على سبيل المثال أنه كان يقول عند أول موضع يذكر الفقهاء فيه «السِّقْط»:
الفقهاء يذكرون السِّقْط في باب كذا وفي باب كذا ... ويعدُّها.
وفي كتاب الحج عند قول الفقهاء أنه يستحب الدخول من (كَداء) والخروج من (كُدى) يقول رحمه الله: افتح وادخل، واضمم واخرج.
وكذلك في كتاب الحج يقول: البقاع أربع: مشعر حرام، ومشعر ليس بحرام، وحرام ليس بمشعر، وليس بمشعر ولا حرام، ثم يبيِّنها.


* ومن تلك الجوانب أنه كان يُنبِّه الطالب على النكت الشريفة والفوائد اللطيفة، ويستحسنها كثيرًا، ويحث الطلاب على العناية بها، فكان يقول: الفقهاء - رحمهم الله - لهم تصرفاتٌ في كتبهم تدلُّ على كمال معرفتهم بحسن السَّبك وجودة العبارة، ينبغي لطالب العلم ألا يغفل عنها – أو كلامًا هذا معناه –.
فمن اللطائف التي كان يذكرها أنه لما شرح آخر جملة في متن «الزاد» - وكان ذلك ضحى الأربعاء 4 جمادى الأولى 1430 -، قال: المؤلف - رحمه الله - مثَّل في آخر مثالٍ بالخاتم إيذانًا منه بختم الكتاب.


* ومن تلك الجوانب أنه - رحمه الله - طالت ممارسته لكتب المذهب وأدمن النظر فيها، فكان المقدَّم من أهل عصرنا في دراية المذهب ومصنفاته، خَبَر أبعاده، وسَبَر أغواره، وكان يدل الطالب على مظان المسائل، من ذلك في بداية قراءتي عليه «ألفية المفردات» عند قول الناظم:
وصاحب الخصائص الكرامِ ### منفردًا بها عن الأنامِ
قال شيخنا: الشيخ منصور في «كشاف القناع» استوفى كثيرًا من خصائصه صلى الله عليه وسلم في كتاب النكاح.
وقال لي في المجلس نفسه: «ألفية المفردات» نظمٌ جليلٌ كان المشايخ يوصون بحفظها، ونحن حفظناها.


* ومن تلك الجوانب أن الشيخ - رحمه الله - كان حكيمًا في توجيهه، صادقًا في نصحه للطالب، فأذكر مرةً أن شبابًا أتوا إلى الشيخ وسألوه عن أمورٍ لا تعنيهم ولا ينتفعون بها من بعض المدلهمات التي لا يتصدى لها إلا الكبار، فلم يجبهم الشيخ وسألهم عن شروط الوضوء، فلم يستطيعوا عدَّها! فقال لهم الشيخ: احضروا معنا الدرس وانشغلوا بما ينفعكم بارك الله فيكم.


* ومن أهم الجوانب التي تميَّز بها الشيخ - رحمه الله - قوة ارتباطه بالله - عز وجل -، تجد ذلك جليًّا حتى في أقلِّ الأمور شأنًا، فأذكر مرة أني كنت أقرأ على الشيخ في «مختصر قواعد ابن رجب»، فتكرر وقوع ذباب على يد الشيخ وكتابه، ويصرفه الشيخ ثم يرجع، فقال رحمه الله: الله لا يُسلِّط علينا!


* ومن تلك الجوانب أن كلَّ من عرف الشيخ - رحمه الله - لاحظ شدَّة عنايته بالرقائق، فأذكر مرة أني كنت أقرأ عليه في «ألفية المفردات» في الثاني من ربيع الأول 1431، فلما انتهيتُ وكنتُ آخر الطلبة، وأردت السلام على الشيخ لأنصرف؛ صار الشيخ يردد بيتًا من «السفارينية» وهو:
ومن يمتْ ولم يتبْ من الخطا ### فأمره مفوَّضٌ لِذي العَطا
واستمر الشيخ في ترداده حتى انصرفتُ وأنا أسمعه يردده.


* ومما تميز به شيخنا - رحمه الله - أنه كان مع كبير حلمه وطويل صبره حازمًا فيما يتعلق بالعلم وأدبه، فأذكر أن رجلًا أتى إلى الشيخ وطلب أن يقرأ في «أخصر المختصرات»، فأذن له الشيخ، وبدأ الرجل بعد الحمد بقراءة قول المصنف: كتاب الطهارة.
فقال له الشيخ: ألا يوجد شيء قبل هذا؟
فقال: لا.
فقال الشيخ: تأكَّد.
فقلَّب في الصفحات، ثم قال: تقصد المقدمة يا شيخ؟
فقال الشيخ: نعم، أليست من الكتاب؟
فلم يُوفَّق في الجواب حيث قال كلامًا معناه: أنه لم يأتِ للشيخ قاصدًا، وإنما أتى عرَضًا، وأنه كان مستعجلًا.
فبدا الغضب على وجه الشيخ، وقال: أنا لا يأتي عندي من لا يقصد الدرس، ولا يُحضِّر، قم أصلحك الله.
ومما يتصل بذلك من التنبيه على كمال الأدب أن أحد الطلبة أهدى للشيخ كتابًا ولم يكتب عليه إهداءً للشيخ، فقال الشيخ: عدم كتابة الإهداء إما أنه تقليلٌ من شأن الهدية أو من شأن المُهدَى إليه.


* ومن تلك الجوانب التي يستفيد منها طالب العلم أن الشيخ - رحمه الله - كان يأنس كثيرًا بأهل العلم إذا زاروه أو زارهم، وأذكر أن الشيخ - بعد خروجه من المشفى في مرضه قبل الأخير - زاره شيخنا العلامة صالح الفوزان - أمد الله في عمره -، فتحامل الشيخ على نفسه ووقف وأراد تقبيل رأس الشيخ صالح، وما رأيتُه في يومٍ أشد منه سرورًا منه في ذلك اليوم.
ومما يستحسن ذكره أن رجلًا سأل الشيخ عبد الله في ذلك المجلس عن مسألة، فقال الشيخ: تسألني وهذا شيخ المشايخ أمامك! - يعني الشيخ صالحًا -، فما زالا يتدافعان الفتوى حتى أجاب الشيخ صالحٌ السائلَ.
وفي ذلك المجلس سأل الشيخُ عبد الله الشيخَ صالحًا - مع أنه يكبره سنًّا - عن مسألة مشكلة في الفرائض، فأجابه عنها، وكان مجلسًا مشهودًا حضره جماعةٌ من المشايخ وطلاب العلم.


* وقد جمع الله عز وجل لشيخنا – رحمه الله – بين نفع الدراية وشرف الرواية، فهو مُلحِق الأحفادِ بالأجداد، وبإسناده شرفت نجدٌ على كثيرٍ من البلاد، فمن أسانيده العالية روايته عن شيخه عليِّ بن ناصرٍ أبو وادي عن شيخ المحدثين في الهند نذير حسين الدَّهلويِّ بسنده المعلوم.
هذا مع ما كان عليه رحمه الله من العناية بالأدب والشعر، وذلك ظاهر في كلامه، فإذا تكلَّم تكلَّم بالكلام الفصيح، فألفاظه رائقة، ومعانيه فائقة، فلله دَرُّه حين يتناثر من فيه دُرُّه.


* ولما مرض الشيخ في آخر شهر محرم من العام 1432، ودخل في غيبوبةٍ استمرت أشهرًا؛ لم يشعر طلابه أنهم فقدوا شيخاً فقط، بل فقدوا شيخًا معلِّمًا وأبًا حنونًا وموجِّهًا ناصحًا.
يبكيه طالب علمٍ كان علَّمه ### وتائهٌ عن سبيل الرُّشْد أرشدهُ
سحَّت على ذلك العدلِ الرضى دِيَمٌ ### من الرِّضى وأنار الله مرقدهُ
ولمَّا وافت المنيةُ شيخنا في شهر شوالٍ من العام المنصرم؛ حلَّت فاجعةٌ بالعلم وأهله، وكنت أستذكر - وأنا أحمل مع الجموع نعشه - قولَ ابن المعتزِّ:
وما كان ريح المسك ريح حنوطه ### ولكنَّه هذا الثَّناء المخلَّفُ
وليس صريرُ النَّعش ما تسمعونه ### ولكنَّه بنيان قومٍ يُقصَّفُ
ولما دُفن الشيخ - رحمه الله - تذَّكرتُ قولَ أبي الطَّيِّب:
ما كنتُ أحسبُ قبل دفنكَ في الثَّرى ### أنَّ الكواكب في التُّراب تغورُ


أسأل الله أن يسبغ على شيخنا شآبيب الرَّحمة والغفران، وأن يرفع درجته في المهديين، وأن يجزيه عنَّا خيرًا كثيرًا، كما أسأله سبحانه أن يجزل الأجر والمثوبة للشيخ صالح العصيمي فهو الذي نصحني بالقراءة على الشيخ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


وكتبه
خالد بن ماجد بن عبدالرحمن الرشيد العمرو
حامدًا مصليًّا مسلمًا
فجر السبت 12 رجب 1433