قال ابن خلدون عن تجربته في ولاية القضاء المالكي في مصر :


(( ... فلما عزل هذا القاضى المالكى سنة ست وثمانين، اختصني السلطان بهذه الولاية تأهيلا لمكاني وتنويها بذكرى، وشافهته بالتفادي من ذلك فأبى إلا إمضاءه، وخلع على بإيوانه وبعث من كبار الخاصة من أقعدنى بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية بين القصرين، فقمت بما دفع إلى من ذلك المقام المحمود ووفيت جهدي بما أمنني عليه من أحكام الله لا تأخذني في الحق لومة، ولا يزعني عنه جاه ولا سطوة مسويا بين الخصمين آخذا بحق الضعيف من الحكمين، معرضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين، جانحا إلى التثبت في سماع البينات والنظر في عدالة المنتصبين لتحمل الشهادات؛ فقد كان البر منهم مختلطا بالفاجر والطيب ملتبسا بالخبيث، والحكام ممسكون عن انتقادهم متجاوزون عما يظهرون عليه من هناتهم؛ لما يموهون به من الاعتصام بأهل الشوكة فإن غالبهم مختلطون بالأمراء؛ معلمين للقرآن وأئمةً في الصلوات، يلبسون عليهم بالعدالة فيظنون بهم الخير ويقسمون لهم الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاة والتوسل لهم، فأعضل داؤهم وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم، ووقفت على بعضها فعاقبت فيه بموجع العقاب ومؤلم النكال، وتأدى إليَّ العلم بالجرح في طائفة منهم، فمنعتهم من تحمل الشهادة، وكان منهم كتاب لدواوين القضاة والتوقيع في مجالسهم قد دربوا على إملاء الدعاوى وتسجيل الحكومات واستُخدموا للأمراء فيما يعرض لهم من العقود بإحكام كتابتها وتوثيق شروطها، فصار لهم بذلك شفوف على أهل طبقتهم وتمويه على القضاة بجاههم، يدَّرعون به مما يتوقعونه من عتبهم لتعرضهم لذلك بفعلاتهم وقد يسلط بعض منهم قلمه على العقود المحكمة فيوجد السبيل إلى حلها بوجه فقهى أو كتابي ويبادر إلى ذلك متى دعا إليه داعى جاه أو منحة وخصوصا في الأوقاف التي جاوزت حدود النهاية في هذا المصر لكثرة عوالمه فأصبحت خافية الشهرة مجهولة الأعيان عرضة للبطلان باختلاف المذاهب المنصوبة للحكام بالبلد فمن اختار فيها بيعا أو تمليكا شارطوه وأجابوه مفتاتين فيه على الحكام الذين ضربوا فيه سُد الحظر والمنع حماية عن التلاعب وفشا من ذلك الضرر في الأوقاف وطرق الغرر في العقود والأملاك. فعاملت الله في حسم ذلك بما آسفهم عليَّ وأحقدهم، ثم التفتُّ إلى الفتيا بالمذهب وكان الحكام منهم على جانب من الخبرة لكثرة معارضتهم وتلقينهم الخصوم وفتياهم بعد نفوذ الحكم وإذا فيهم أصاغر بينا هم يتشبثون بأذيال الطلب والعدالة ولا يكادون إذا بهم طفروا إلى مراتب
الفتيا والتدريس فاقتعدوها وتناولوها بالجزاف واحتازوها من غير مُثَرِّب ولا منتقد للأهلية ولا مرشح إذ الكثرة فيهم بالغة ومن كثرة الساكن مشتقة، وقلم الفتيا في هذا المصر طلق وعنانها مرسل يتجاذب كل الخصوم منه رَسَنًا ويتناول من حافته شقا يروم به الفُلْج على خصمه ويستظهر به لإرغامه فيعطيه المفتى من ذلك ملء رضاه وكفاء أمنيته متتبعا إياه في شعاب الخلاف فتتعارض الفتاوى وتتناقض ويعظم الشغب إن وقعت بعد نفوذ الحكم، والخلاف في المذاهب كثير، والإنصاف متعذر، وأهلية المفتى أو شهرة الفتيا ليس تمييزها للعامي، فلا يكاد هذا المدد ينحسر ولا الشغب ينقطع، فصدعت في ذلك بالحق، وكبحت أعنة أهل الهوى والجهل ورددتهم على أعقابهم، وكان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب يشعوذون بمفترق من اصطلاحات العلوم هنا وهناك، لا ينتمون إلى شيخ مشهور ولا يعرف لهم كتاب في فن، قد اتخذوا الناس هزؤا وعقدوا المجالس مثلبة للأعراض ومأبنة للحُرَم، فأرغمهم ذلك منى وملأهم حسدا وحقدًا على وخلوا إلى أهل جلدتهم من سكان الزوايا المنتحلين للعبادة يشترون بها الجاه ليجيروا به على الله وربما اضطر أهل الحقوق إلى تحكيمهم فيحكمون بما يلقي الشيطان على ألسنتهم يترخصون به للإصلاح لا يزعهم الدين عن التعرض لأحكام الله بالجهل، فقطعت الحبل في أيديهم وأمضيت أحكام الله فيمن أجاروه فلم يغنوا عن الله شيئا وأصبحت زواياهم مهجورة وبئرهم التى يمتاحون منها معطلة وانطلقوا يراطنون السفهاء في النيل من عرضى وسوء الأحدوثة عنى بمختلق الإفك وقول الزور يبثونه في الناس ويدسون إلى السلطان التظلم منى فلا يصغي إليهم، وأنا في ذلك محتسب عند الله ما مُنيت به من هذا الأمر ومعرض فيه عن الجاهلين وماض على سبيل سواء من الصرامة وقوة الشكيمة وتحرى المعدلة وخلاص الحقوق والتنكب عن خطة الباطل متى دعيت إليها وصلابة العُود عن الجاه والأغراض متى غمزني لامسها ولم يكن ذلك شأن من رافقتُه من القضاة، فنكِروه منى ودعوني إلى متابعتهم فيما يصطلحون عليه من مرضاة الاكابر ومراعاة الأعيان والقضاء للجاه بالصور الظاهرة أو دفع الخصوم إذا تعذرت بناء على أن الحاكم لا يتعين عليه الحكم مع وجود غيره وهم يعلمون أن قد تمالئوا عليه. وليت شعرى ما عذرهم في الصور الظاهرة إذا علموا خلافها، والنبى صلى الله عليه وسلم يقول في ذلك: (من قضيت له من حق أخيه شيأ فإنما أقضى له من النار)، فأبيت من ذلك كله إلا إعطاء العهدة حقها والوفاء لها ولمن قلدنيها، فأصبح الجميع عليَّ أَلْبًا، ولمن ينادى بالتأفف منى عونا، وفى النكير على أمة، وأسمعوا الشهود الممنوعين أن قد قضيت فيهم بغير الحق، لاعتمادي على علمي في الجرح وهى قضية اجماع، وانطلقت الألسنة وارتفع الصخب وأرادني بعضٌ على الحكم بغرضهم فوقفت، وأغروا بى الخصوم فتنادوا بالتظلم عند السلطان وجمع القضاة وأهل الفتيا في مجلس حفل للنظر في ذلك، فخلَّصتُ تلك الحكومةَ من الباطل خلوصَ الإبريز، وتبين أمرهم للسلطان وأمضيت فيها حكم الله تعالى إرغاما لهم فغدوا على حرد قادرين، ودسُّوا لأولياء السلطان وعظماء الخاصة يقبحون لهم إهمال جاههم ورد شفاعاتهم مموهين بأن الحامل على ذلك جهل المصطلح وينفقون هذا الباطل بعظائم ينسبونها إليَّ؛ تبعثُ الحليمَ وتُغرى الرشيد، يستثيرون حفائظهم عليَّ ويُشربونهم البغضاءَ لي، والله مجازيهم ومسائلهم. فكثر الشغب علي من كل جانب وأظلم الجو بينى وبين أهل الدولة، ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد؛ وَصَلوا من المغرب في السفين، فأصابها قاصفٌ من الريح فغرِقت، وذهب الموجودُ، والسكن والمولودُ، فعظم المصاب والجزع، ورجح الزهد، واعتزمت على الخروج عن المنصب فلم يوافقني عليه النصيح ممن استشرته، خشيةً من نكير السلطان وسخطه، فتوقفت بين الورد والصَّدَر، وعلى صراط الرجاء والياس، وعن قريب تداركني اللطف الربانى وشملتني نعمة السلطان أيده الله في النظر بعين الرحمة وتخلية سبيلى من هذه العهدة التى لم أطق حملها ولا عرفت كما زعموا مصطلحها، فردها إلى صاحبها الأول وأنشطني من عقالها، فانطلقت حميد الأثر مشيعا من الكافة بالأسف والدعاء وحميد الثناء تلخطنى العيون بالرحمة وتتناجى الآمال في بالعودة، ورتعت فيما كنت راتعا فيه قبلُ من مراعى نعمته، وظل رضاه وعنايته، قانعا بالعافية التى سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه عاكفا على تدريس علم أو قراءة كتاب أو إعمال قلم في تدوين أو تأليف مؤملا من الله قطع صُبابة العمر في العبادة ومحو عوائق السعادة بفضل الله ونعمته )).