السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
...لا يخفى عمن له بصيرة بالواقع الاتجاه العام , الذي يسلكه الفقه في هذه الأعوام , فإني لا أشك أنه متّجه الآن إلى الإندماج , وأن الأمة سائرة منذ حين إلى تقلص نفوذ المذاهب الفقهية وقلّة مالها من رواج , كما كان عليه الأمر في القرنين الثالث والرابع, إلاّ أن الأمر يومئذ كان متجها نحو استحكام المذهبية , وهو الآن متجه نحو ضعفها وانفراط أمرها , مع الفارق في الأسباب , وفي المستوى العلمي لدى الناس , ومما ساعد على ذلك , وسائل الإتصال , وسرعة الانتقال , وفشو الكتب والتسجيلات , واستفحال أمر الفضائيات والقنوات , ومن أهم هذه الأسباب ذهاب الخلافة الإسلامية , وضعف ارتباط الحكم بالدين , بل انتقاض عرى الحكم بما أنزل الله في الجملة , فلم يعد الأمر نزاعاً مذهبياً , بل صار حكماً لا علاقة له بالشرع , هذا إلى قلة تدارس الكتب الفقهية المذهبية , لما يغلب عليها من التعقيد وكثرة التفاصيل , " واختلاف منهجيتها عن منهجية التعليم الحالي " , في مقابل كثرة الكتب والرسائل العلمية من المذاهب الأخرى , , وسهولة مأخذها , وتناولها لبعض النوازل التي لم تتناول من وجهة نظر المذهب السائد , بل إن كثيراً ممن يزعمون أنهم متقيدون بمذهب ما , ويتبجحون بهذه العبارة , لا يلتزمون المذهب , لا في شؤونهم الخاصة, ولا فيما قد يجيبون غيرهم من السائلين , فالزّمن الذي نعيشه , ليس زمن التقليد الخالص للمذاهب , كما كان عليه الأمر منذ نحو القرن , وليس هو بزمن التحرّر , كما كان عليه في العصر الأول , الذي لا أرى أنّه يتكرّر , وإنما هو أشبه بما كان عليه الأمر في القرنين الثالث والرابع , مع التباين الكثير بينهما , قال ولي الله الدهلوي :" فالكتب والمجموعات محدثة , والقول بمقالات الناس , والفتيا بمذهب الواحد من الناس , واتخاذ قوله والحكاية له في كل شيئ , والتفقه على مذهبه , ولم يكن الناس قديماً علىذلك , في القرنين : الأول والثاني .(الانصاف في بيان اسباب الاختلاف ) .
والحق أن الاجتهاد قد تناقص ابتداء من نهايات القرن الرابع , حيث وضعت المختصرات , وأخلد الفقهاء إلى التقليد من غير نظر في الأعلم بل بحسب الاتفاق , والتشهي والتعظيم , والعادة , والبلد , فلو أراد الطالب اليوم في المغرب أن يتمذهب لأبي حنيفة لعسُر عليه , كما لو أراد أن يتمذهب لابن حنبل ببخارى ". ( سير أعلام النبلاء )
قال شارح المراقي : الظاهر أن مذهب مالك يتعين على جل أهل المغرب , إذ لا يكاد يوجد فيهم من يعرف فقه غيره من المذاهب ,,, " ( نثر البنود على مراقي السعود )
ولكني لا أحسب أن الأمر الآن كما قال .
والمنتظر ممن عرف هذه الحقائق أو بعضها , أن يضع في حسبانه هذا الذي ذكرت إذا ألّف , فلا يجاري المغالين في غلوائهم , ولا يساكن المتعصبين في جحورهم , بل يقف موقف الوسط , وهو يقتضي منه أن يحاول بيان راجح الأقوال من مرجوحها , وقويّها من ضعيفها , بحسب الإمكان , حتى يستمرّ انتفاع الأمة بتلك التآليف , ولا تغدوا نسياً منسياً , كما هو الواقع اليوم ,
والله أعلم