المجادلة بغير علم
مع الآية 3 من سورة الحج:

قال تعالى:{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } * { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ }
في تفسير ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى ذاماً لمن كذب بالبعث وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى، معرضاً عما أنزل الله على أنبيائه، متبعاً في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد من الإنس والجن، وهذا حال أهل البدع والضلال المعرضين عن الحق المتبعين للباطل، يتركون ما أنزله الله على رسوله من الحق المبين، ويتبعون أقوال رؤوس الضلالة الدعاة إلى البدع بالأهواء والآراء، ولهذا قال في شأنهم وأشباههم: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي: علم صحيح، { وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَـٰنٍ مَّرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ } قال مجاهد: يعني: الشيطان، يعني: كتب عليه كتابة قدرية { أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ } أي: اتبعه وقلده { فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } أي: يضله في الدنيا، ويقوده في الآخرة إلى عذاب السعير، وهو الحار المؤلم المقلق المزعج، وقد قال السدي عن أبي مالك: نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث، وكذلك قال ابن جريج.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن مسلم البصري، حدثنا عمرو بن المحرم أبو قتادة، حدثنا المعتمر، حدثنا أبو كعب المكي قال: قال خبيث من خبثاء قريش: أخبرنا عن ربكم من ذهب هو، أو من فضة هو، أو من نحاس هو؟ فقعقعت السماء قعقعة - والقعقعة في كلام العرب الرعد - فإذا قحف رأسه ساقط بين يديه. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: جاء يهودي فقال: يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو، من در أم من ياقوت؟ قال: فجاءت صاعقة فأخذته.

مع الآية 8 من سورة الحج:
قال تعالى:{ ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } * { ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } * { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٍ لِّلعَبِيدِ }
في تفسير ابن كثير رحمه الله: لما ذكر تعالى حال الضلال الجهال المقلدين في قوله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَـٰنٍ مَّرِيدٍ } ذكر في هذه حال الدعاة إلى الضلال من رؤوس الكفر والبدع فقال: { ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَـٰبٍ مُّنِيرٍ } أي: بلا عقل صحيح، ولا نقل صحيح صريح، بل بمجرد الرأي والهوى. وقوله: { ثَانِىَ عِطْفِهِ } قال ابن عباس وغيره: مستكبراً عن الحق إذا دعي إليه، وقال مجاهد وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم: { ثَانِىَ عِطْفِهِ } أي: لاوي عنقه، وهي رقبته، يعني: يعرض عما يدعى إليه من الحق، ويثني رقبته استكباراً؛ كقوله تعالى: { وَفِى مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَـٰهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍ فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَـٰحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [الذاريات: 38 - 39] الآية، وقال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَـٰفِقِ نَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } [النساء: 61] وقال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُون َ } [المنافقون: 5] وقال لقمان لابنه: { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ }
[لقمان: 18] أي: تميله عنهم استكباراً عليهم، وقال تعالى: { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَـٰتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِىۤ أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [لقمان: 7] الآية.
وقوله: { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } قال بعضهم: هذه لام العاقبة؛ لأنه قد لا يقصد ذلك، ويحتمل أن تكون لام التعليل. ثم إما أن يكون المراد بها المعاندين، أو يكون المراد بها أن هذا الفاعل لهذا، إنما جبلناه على هذا الخلق الدنيء لنجعله ممن يضل عن سبيل الله. ثم قال تعالى: { لَهُ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ } وهو الإهانة والذل، كما أنه لما استكبر عن آيات الله، لقاه الله المذلة في الدنيا، وعاقبه فيها قبل الآخرة؛ لأنها أكبر همه ومبلغ علمه، { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } أي: يقال له هذا تقريعاً وتوبيخاً، { وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ } كقوله تعالى:
{ خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ ٱلْحَمِيم ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ إِنَّ هَـٰذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ }
[الدخان: 47 - 50]. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن الصباح، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا هشام عن الحسن قال: بلغني أن أحدهم يحرق في اليوم سبعين ألف مرة.

مع الآية 20 من سورة لقمان:
قال تعالى: { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ }
في تفسير ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى منبهاً خلقه على نعمه عليهم في الدنيا والآخرة بأنه سخر لهم ما في السموات من نجوم يستضيئون بها في ليلهم ونهارهم، وما يخلق فيها من سحاب وأمطار وثلج وبرد، وجعله إياها لهم سقفاً محفوظاً، وما خلق لهم في الأرض من قرار وأنهار وأشجار وزروع وثمار، وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة من إرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة الشبه والعلل، ثم مع هذا كله ما آمن الناس كلهم، بل منهم من يجادل في الله، أي: في توحيده، وإرساله الرسل، ومجادلته في ذلك بغير علم، ولا مستند من حجة صحيحة، ولا كتاب مأثور صحيح، ولهذا قال تعالى: { ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَـٰبٍ مُّنِيرٍ } [الحج: 8] أي: مبين مضيء، { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } أي: لهؤلاء المجادلين في توحيد الله: { ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } أي: على رسوله من الشرائع المطهرة { قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا } أي: لم يكن لهم حجة إلا اتباع الآباء الأقدمين، قال الله تعالى: { أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ } [البقرة: 170] أي: فما ظنكم أيها المحتجون بصنيع آبائهم أنهم كانوا على ضلالة، وأنتم خلف لهم فيما كانوا فيه، ولهذا قال تعالى: { أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ }.