الخِطاب السياسي الإسلامي في شعر وليد الأعظمي

من المحال أن يعيش إنسانٌ عاقل وهو منفصلٌ عن محيطه وبيئته، منقطعٌ عن عالَمِه، محالٌ أن يعيش إنسان عاقلٌ بلا فكر يتبنَّاه في حياته، أو عقيدةٍ يعتنقها ويؤمن بها، أو دون موقفٍ من قضية، ورأيٍ في مسألة؛ "ولا زلتُ لا أُومِنُ بمذهبٍ اسمهُ الاستقلاليَّة، ولا أحترم كائنًا بشريًّا يسمِّي نفسَهُ (مستَقِلاًّ)"!هذا شأنُ الإنسان العاقل، وهذهِ طبيعته الَّتي جُبِلَ عليها في خلقه وتكوينه الربَّاني، فكيف إذا كان ذلك الإنسان أديبًا وشاعرًا ومفكِّرًا ومؤرِّخا صادقًا، يعرف ذاته جيدًا، ويرى على الحقِّ هالةَ النُّور التي لا يبصرها مَن على بصرهم غشاوة، فيتبنَّى في قَرِيضه - الذي تجود به قريحته - منهجَ الحقِّ، وعقيدةَ الصِّدق، فيَشْحذ عزيمته، ويَبْري يَرَاعه ويهذِّبه، ويُسخِّر وقته منافِحًا ومُكافحًا عن المنهج القويم.كان ذلك الطريق الذي سلكه الشَّاعر والخطَّاط وليد الأعظميُّ - رحمه الله - فكان بحقٍّ "شاعر الإسلام في زمَن الغربة" الذي كان في شعره مقرَّرات سياسيَّة إسلامية، بثَّها إلى العالَمِ عبر أثير القوافي العربيَّة الأصيلة، فصكَّ بِها مسامع الطُّغاة، وجبابرةَ الظُّلم والمعتدين على شِرعة الخالق - عزَّ وجلَّ - بل وردَّ بها حتَّى على أصحاب الأدب المزوَّر والثقافة العرجاء.فكان أول ما قرَّره الأعظميُّ هو توكيده على أنَّ السياسة جزءٌ لا ينفصل عن العمل الإسلاميِّ ومنهجه وعقيدته، فقالَها مدوِّية في قصيدة (دستور) التي نظَمَها سنة 1955م:
قَالُوا أَفِي الدِّينِ الْحَنِيفِ سِيَاسَةٌ
فَالدِّينُ حَقٌّ وَالسِّيَاسَةُ زُورُ

أَنَّى لَنَا بِالْجَمْعِ بَيْنَ كِلَيْهِمَا
وَالفَرْقُ بَيْنَ الوِجْهَتَيْنِ كَبِيرُ

فَأَجَبْتُهُمْ بِصَرَاحَةٍ مَا ضَرَّ لَوْ
سَاسَ الأَنَامَ مُهَذَّبٌ وَغَيُورُ

وإنَّنا حين نتحدث عن الخِطاب السياسيِّ في شعر الأعظمي، فإنَّ ذلك لا يُعدُّ اكتشافًا يعسر على الناقد والقارئ، أبدًا؛ لكون الخِطاب السياسيِّ الإسلامي واضحًا وملموسًا، وفي غير مكانٍ واحد من قصائده، بل وليس في القصائد وحدها، بل في جوانب حياته كلِّها؛ فالأعظميُّ وفي مطلع حياته كان من تلامذة الشيخ "محمد محمود الصوَّاف"، الذي عُرف - رحمه الله - بِمواقفه الثوريَّة ضد الأنظمة المستبِدَّة آنذاك، والشيخ الصوَّاف هو مَن قاد المظاهرات الشعبيَّة ضد معاهدة "بورت سموث" التي انتهَتْ بسقوط حكومة صالح جبر، وإلغاء المعاهدة، وقد شارك "وليد الأعظمي" في تلك المظاهرات، وألقى فيها عدَّة أبيات ومقطوعات شعريَّة، وكان ذلك سنة 1948م.وقد كان للصوَّاف التأثيرُ الكبير في حياة الأعظمي؛ حيث كان يشجِّعهُ ويقدِّمه في المَحافل العامَّة والمناسبات؛ ليُنشِد الشِّعر الإسلامي، وكان يَصحبهُ في زيارة المدُن العراقيَّة، ويقول وليد الأعظمي في قصيدة نظَمَها في ذكرى الصواف بعنوان (يا شيخ أمَّتنا):
لَمْ أَنْسَ لُطْفَكَ بِي وَإِنِّي يَافِعٌ
غَضُّ الشَّبِيبَةِ، لاَ أَلِينُ طِبَاعَا

فَصَقَلْتَ مَوْهِبَتِي لِأُصْبِحَ شَاعِرًا
بِالْحَقِّ أَشْدُو هَاتِفًا صَدَّاعَا

وَأَذُودُ عَنْ دِينِي بِكُلِّ مَوَاقِفِي
- لاَ أَسْتَرِيحُ - حَمِيَّةً وَدِفَاعَا

كان الأعظميُّ يستغلُّ أيَّة مناسبةٍ لِيَطرح من خلالها رؤيتَه الإسلاميَّة، ويُهاجِم المناهج المضادَّة للإسلام والشخصيَّات السياسية والفكرية التي تروِّج لها وتتبنَّاها، كما أنَّ الشاعر "وليدًا الأعظمي" دخل العمل السياسيَّ الإسلامي من أوسع أبوابه، وأقصدُ حين اشتركَ في تأسيس "الحزب الإسلامي العراقي" سنة 1960م، كما أنَّهُ اعتُقِل غير مرَّة بسبب مَواقِفه السياسيَّة من الأنظمة والحكومات الَّتي تعاقبت على حكم العراق، فيَروي "وليدٌ الأعظمي" في مُذكراتِه مُكوثَه مع رفاقه في أحدِ مراكز الشُّرطة في بغداد؛ حيث زَارهُ إلى ذلك الموقفِ رئيسُ الوزراءِ العراقيُّ آنذاك؛ الزعيم "عبدالكريم قاسم" والذي عُرف بقربه من الشيوعيِّين، وبقوانينه العدوانيَّة على الشريعة، وأبرزها قانون "الميراث" أو ما يُعرف بقانون الأحوال الشخصيَّة سيِّئ الصِّيت.يقول "وليد الأعظمي" عن ذلك اللِّقاء: "لَم يتناول "عبدالكريم قاسم" موضوعًا إلاَّ قاطَعْناه قبل أن يتمَّه، ونجادله ونردُّ عليه، وكان عندما يَنْزعج ويأخذهُ الغضب، يترك كرسيَّه ويذهب ويغسل وجهه بالماء البارد، وهكذا استمرَّ الجدال سبع ساعات؛ من التاسعة مساء حتى الرابعة فجرًا"[1].ويروي الدكتور محسن عبدالحميد في مقدِّمته لديوان الأعظمي: "وإنْ أنْسَ فلم أنسَ يوم وقفَ شاعِرُنا في قاعة الشَّعب في مُناسبة الاحتفال بمولد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -[2] صارخًا متحدِّيًا بقصيدته الرَّائعة التي استهلَّها بمطلعه الذي تحوَّل في البلاد العربيَّة كلها إلى أنشودةٍ رائعة:
يَا هَذِهِ الدُّنْيَا أَصِيخِي وَاشْهَدِي
أَنَّا بِغَيْرِ مُحَمَّدٍ لاَ نَقْتَدِي

وعندما وصل إلى قوله:
لاَ رَأْسُمَالِ الغَرْبِ يَنْفَعُنَا وَلاَ
فَوْضَى شُيُوعِيٍّ أَجِيرٍ أَبْلَدِ

وَسَطًا نَعِيشُ كَمَا يُرِيدُ إِلَهُنَا
لاَ نَسْتَعِيرُ مَبَادِئًا لاَ نَجْتَدِي

دخل "عبدالكريم قاسم" رئيس وزراء العراق إلى القاعة، فرجع شاعرُنا المؤمن الشُّجاع إلى البيتين، فقرأَهُما مرةً أخرى يصكُّ بهما أذُنَ "الزعيم الأوحد" الذي كان يُمالِئُ الشيوعيِّين يومئذ"[3].ومن قبل ذلك، وتحديدًا في العهد الملَكيِّ للعراق، ورئيس الوزراء "نوري السعيد" المشهور بتواطئه مع الإنجليز، وعقده لاتِّفاقاتٍ عديدة معهم، كان للشاعر الأعظميِّ مواقف سياسية لا تختلف كثيرًا عمَّا جاء بعدها، ويقول الأعظمي في قصيدة (الزلزلة):
حَتَّامَ يَا (نُورِي السَّعِيدْ)
تَسْبِي البِلاَدَ وَكَمْ تَكِيدْ

أَوَمَا كَفَى هَذَا الفَسَا
دُ وَمَا عَقَدْتَ مِنَ العُهُودْ؟

سُقْتَ الشَّبَابَ إِلَى الْمَعَا
قِلِ وَالْمَجَازِرِ وَاللُّحُودْ

إنَّ كل ما ذكَرْناه ما هو إلاَّ غيضٌ من فَيْض، وما هذهِ سوى بعضِ اللَّمحات من حياة شاعرنا "وليد الأعظمي" الغاصَّة بالمواقف السياسيَّة المنطلِقة من ثوابت الإسلام وشريعته، ويَحْدوني الأمل الكبير وأنا أكتب هذهِ الكلمات، أن يَشْحذ الأدباء والنُّقادُ المسلِمِين، وأن يلتفتوا لدراسة أدبِ وليد الأعظمي وشعره وحياته، وإن كانت هنالك دراستان تناوَلَتا هذا العَلَم الإسلاميَّ الكبير، إحداهما في جامعة بغداد، والأخرى في السُّودان، فلا زلنا نعتقد أنَّ هذا لا يوفي حقَّ الأعظمي الذي عاش عمره منافحًا عن الإسلام وقضاياه، ولا ننسى أنَّهُ كتبَ أغلب قصائده في السُّجون والمعتقلات، ولا ننسى أنهُ القائل:
سَكَتَ الزَّمَانُ وَظَلَّ صَوْتُ مُحَمَّدٍ
كَالرَّعْدِ يَقْصِفُ فِي رُؤَى الظُّلاَّمِ



[1] "الأعمال النثرية الكاملة"، جمع وترتيب عبدالله الطنطاوي، الجزء الثامن، ص 4345، دمشق، دار القلم، الطبعة الأولى 1428هـ.

[2] نذكر هنا حادثة تأريخيَّة واقعية دون التعرُّض للحكم الشرعيِّ بالاحتفال بالمولد النبوي.

[3] د.محسن عبدالحميد: مقدمة ديوان "نفحات قلب" للشاعر وليد الأعظمي: بغداد 1415هـ.




رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Literature_Lan...#ixzz22HzuAHnd