لامية أبو ماضي، وقضية المرأة

أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

يقول أبو ماضي في المقطع الأخير من قصيدته:



جَشَّمُوها كلَّ أمرٍ معضلِ
وهي لم تُخلَق لغيرِ المنزلِ
فإذا فارقت الدار ضحاً
لم تعد إلا قُبيل الطَّفل (1)
أَلِفَت ما عَوَّدُوها مثلما
تألف الظبيةُ طعمَ الحنظل


قال أبو عبدالرحمن: التقدمية والرجعية كلمتان وصفيتان؛ فلابد من اسم يوصف بإحدى الكلمتين,, وهذان الوصفان ليسا قيمتين منطقيتين أو خلقيتين أو جماليتين، بل يتعلقان بقيمة الموصوف نفسه، وإنما تعني الرجعية الرجوع إلى الماضي، وتعني التقدمية اتباع ومعانقة مسيرة العصر؛ باعتبار أن التقدم امتداد أمامي زماني,, أي اتباعٌ لتدفق الزمن المستقبلي، وبعكس ذلك الرجعية امتداد لتدفق الزمن الماضي الذي خلَّفناه وراأنا، فالامتداد معه رجوع إليه,, لا قيمة للرجعية والتقدمية غير هذا المفهوم اللغوي عن الامتدادين الزمنيين.
وقد يكون ما خلفناه من الماضي بالمعايير المنطقية والخلقية والجمالية شيئاً من غَباإ القرون وجهلها وشهواتها وأهوائها وشبهاتها؛ فيكون الرجوع إليه باطلاً أو شراً أو قبحاً,, وهذا لايكون ألبتة عند أهل دين إلاهي قام تصورهم وسلوكهم على نص صحيح الدلالة والثبوت محكم غير منسوخ,, وقد يكون بالمعايير نفسها من مفاخر القرون عقيدة وسلوكاً؛ فيكون الانقطاع عنه وابتغاأُ غيره هو البطلان والشر والقبح.
وقل مثل ذلك عما نعانقه من سلوكِ وتصورِ أهلِ الزمن الآن، وما نجعله من ذلك غاية للزمن المستقبلي: من شهوات وشبهات وآثامِ وجهلِ وغباإِ أهل العصر؛ فتكون المعانقة له قبحاً وشراً وبطلاناً,, وقد يكون حقاً استجد، وخيراً استجد، وجمالاً استجد؛ فيكون تركه والرجعة إلى الماضي بخيره وشره تزمتاً وانغلاقاً وتفريطاً فيما أوجب الله (بشرعه، وما أوجب تفكير العقل الذي خلقه منزل الشرع): الاحتفاأَ به.
قال أبو عبدالرحمن: وبهذا تعلمون أن التقدمية والرجعية ليستا قيمتين في ذاتهما.
والأُنثا المثقفة اليوم تُستثارُ عاطفياً بمثل: ليست للأمر المعضل، ولم تخلق لغير المنزل، وأنها ضعيفة المناعة عن أكل الحنظل!!,, وبهذا تغدو قصيدة أبو ماضي رجعية بمفهوم التقدميين الذين يجعلون الكلمتين قيمتين في ذاتهما.
قال أبو عبدالرحمن: والمدخل إلى الحق في هذا الموضوع لايفضي إلا بمراعاة أربع حقائق:
أولاهن: التفريق بين وظيفة المرأة المستندة على واقع خصَّيصتها الخَلقية بفتح الخاإ وبين حق هذه الوظيفة، وارتباط سعادتها بالوظيفة نفسها وما يترتب عليها من حقوق.
وثانيتهن: ملاحظة الخصائص الأنثوية الواقعية، وما يترتب عليها من استعداد فطري، وملاحظة التجارب التاريخية في عمارة الأرض، وإعطاأُ الحالات النادرة حجمها الواقعي.
وثالثتهن: تجديد العقيدة بأن المشرِّع للرجل والأنثا هو خالقهما سبحانه.
ورابعتهن: الاعتبار بالتاريخ الراهن الذي تعيشه المرأة التقدمية في المجتمعات الأجنبية: هل هي سعيدة فيه، وهل نالت الحقوق التي تسعدها؟.
فأما الحقيقة الأولى: فهي أن الوظيفة الشرعية للمرأة رأفةٌ بها، واستحياأٌ لما خلقت له من البضاضة والنعومة، والبعد عن منغصات الأسواق والمجتمعات؛ لتحتفظ بقواها البدنية والنفسية والفكرية؛ ولتخرِّج جنسين من الأجيال: جيل يخلفها في الوظيفة والحقوق من البنات اللواتي هن تحت تربيتها من بناتها وربائبها، وجيل من الذكور؛ فتغرس البذور الأولى من التربية التي تسبق ملاحظات الأب العابرة، وتربية المدرسة، ثم تربية المجتمع التي لا ترحم,, فأما البضاضة والنعومة والتجمل فلأن الله جعل الرجل والمرأة قرينين لا يستغني أحدهما عن الآخر، واقتضت سنته الكونية ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً أن تكون المغريات في جانب المرأة النعومة والبضاضة والجاذبية والزينة؛ فهنَّ المنشَّآت في الحلية بنص الشرع,, وحضارة التقدمية الراهنة (حضارة الذئاب التي تخنق ولا تأكل) أحرص من كل القرون السابقة على التفنن في صنع زينة المرأة، وما يحقق جاذبيتها وإغراأها، ثم تقوم الدعاية والترويج والتربية على الزينة بجهد أعظم من جهد التصنيع!!,, فلن يتحقق هذا الجزأُ من الوظيفة إلا بظلٍّ وكن وتخلُّصٍ من كل عِبإٍ غير أعباإ الوظيفة.
وأما وظيفة المنزل التي يتحقق بها تربية النَّشإِ، ويتحقق بها فطرة الله الكونية، ودعوته الشرعية: بأن تكون المرأة سكناً للرجل تربطهما المودة والرحمة، وتَتَحَقَّقُ بهما سعادة الطرفين، وسعادة من يعولانه من الأسرة: فلا يمكن بوظائف خارج المنزل؛ لأن اليوم والليلة محَّددا الساعات,, يفيان بثلث للنوم وتربية الجسم، والاحتفاظ بجاذبيته,, وثلثين بين أداإ حقوق الله، وتربية النفس والفكر بالتثقف والتسلية المباحة، وإدارة المنزل والقيام بأعبائه تنظيفاً وطهياً، وتهيأة لجو الأسرة لباساً ونوماً، وتربية للنشإ,, وليس ذلك بحصصٍ كحصص المدرسة، وإنما بالملازمة والمتابعة؛ ليقوم كل واحد بواجبه المدرسي وواجبه تجاه ربه، وليقوم بقسطه من الراحة والتسلية والنوم، وليستعد لدوره الذي ينتظره في المستقبل؛ فيكون الابن فرحة لمجتمعه، وتكون البنت رحمة للعش الذي ينتظرها,, إن هذه الوظيفة جوهر وركن واستغراق لما فضل من نشاط المرأة؛ فلا يُهمَّش بسويعاتٍ من امرأة تُكلَّف بأعباإٍ خارج المنزل، ثم تعود إليه كليلة مرهقة!!.
والأعباأ خارج لمنزل حالة استثناإ وليست قاعدة,, تكون حالة استثناإ لمثل الارملة الفقيرة إذا انحط المجتمع الموسر وأحوجها للكسب,, وما نعيشه الآن مما يجعل عمل المرأة خارج المنزل ضرورة حياتية أمرٌ عظيم جعل الاستثناأ قاعدة، والقاعدة استثناأ، لأننا أخللنا بالمنهج، فجعلنا المرأة مزاحمة للرجل في العمل؛ فوُجِد الرجل العاطل غير القادر على النفقة، ووجدت المرأة الموظفة غير المتفرغة للرجل إلا أن يكون رجلاً دنيأً يريد حُبّاً، ويريد أن ينفق عليه حِبُّه بكسر الحاإ,, وهذا الخلل مكفول علاجه فيما يأتي من حديث عن حقوق الوظيفة للمرأة.
وإذا تزاحمت واجبات المنزل وواجبات المجتمع - وهذا لا يكون إلا في وظائف خارج المنزل لا يقوم بها إلا المرأة؛ بحيث يكون المجتمع مُأثراً بالمرأة، ولاتكون المرأة مُأثرة بالوظيفة : فإن ذلك يُنَظَّم بعقول مباركة مُأمِنة (تحسن المعادلة بين المصالح والمفاسد والضرورات والكماليات والواجب والأوجب)، مهتدية بدين ربها، منتفعة بالتجارب؛ وحينئذ يُقدَّم لوظيفة المجتمع (بدوام كامل، وراتب كامل) من لا ارتباط لها بأعباإٍ منزلية من القواعد والعوانس إذا وجد عندهن الأهلية؛ وبهذا يكون تعليم المرأة ضمانة لمستقبلها بإذن الله إذا لم تواتها ظروف سعيدة تجعلها ربة منزل,, ثم تُقَدَّم ربة المنزل المأهَّلة لوظيفة المجتمع علمياً بنصف راتب ونصف دوام؛ لتجمع بين الحسنيين.
وأما حقوق الوظيفة وظيفة المنزل، والأسرة فهي أن تكون مكفيَّة الأعباإ الحياتية طعاماً وشراباً وسكناً وكسوة بالقوامة التي أوجبها الله على الرجل,, وأن تكون مراحة ومُريحة من المنغصات بحقوق العشرة التي سنها الله للطرفين، وهو باب عريض من أبواب الفقه الإسلامي,, وليست هذه الحقوق وقتية، بل هي مَدَا الحياة؛ لأن الزوجة ذات الحنان الدافِإِ ستذبل وتشيخ وتعجَّز، وتكون أُمَّاً وجدة وعمة وخالة؛ فلها حقوق على الولد وولد الولد، وولد الأخ، وولد الأخت,, ولقد أدركت في مدينتي شقراإ (ولا تزال تلك الظاهرة بحمد الله في مجتمعنا) شباباً وكهولاً يتقربون إلى الله، ويسعدون سعادة نفسية بالقيام على راحة عجائزهم,, لابالنفقة فحسب، بل بإدخال كل عناصر البهجة على نفوسهم,, وبعضهم يحزن إذا لم يكن عنده عجوز يتقرَّب إلى الله برضاها، ويرد بعض جميلها,, وليست المسألة مسألة إحسان فحسب، بل مسألة سيادة؛ لأن عجائزنا المباركين هم الآمرون الناهون نشتري مرضاة الله: إما بإقناعهم، وإما بطاعتهم!!.
وأدركت من الزوجين من يطويان فراش الأحضان، وينام كل واحد وحده؛ لكبر سنهما,, ولكن ما فضل من نشاطهما في اليقظة أكثره مناجاة ومداعبات باللسان، وذكريات لوقائع حياتهما,, هو يقول: عسى يومي قبل يومك يا أم فلان!!.
وهي تقول: أنا عنقود ما ناب مفقود,, عسى يومي قبل يومك أنت.
والأبناأُ الكبار، والحفدة الصغار يُطيفون بهما، ويتعلقون بهما، وتتأصل في نفوسهم كل مقومات البر والمرحمة والصفاإ، وتدخل البهجة والسعادة في نفوس أفراد الأسرة.
قال أبو عبدالرحمن: وإن القلب ليتقطع حسرة على المرأة الأوربية وغيرها من التقدميات؛ لأنها:
إما عاطلة تتقاذفها شهوات ذئاب تخنق ولا تأكل، وتوظف حياتها للنوم نهاراً، والسهر والاستعداد ليلاً,, وربما جمعت إلى ذلك مايتلفها من المخدرات والخمور.
وإما عاملة لها من أسبوعها ممارسة مثل ممارسة العاطلات,, وهي قبل ذلك في جحيم الكدح لكسب لقمة العيش؛ لأنه ليس في سلوك القوم قوامة وكفاية من الرجل أباً وزوجاً وأبناً وأخاً.
وإما عفيفة محترمة ذات زوج منحها سنتين من عمر الزواج أسميها سنتي العسل، ثم التمس له خدينات من علب الليل.
وكل هذه الأصناف من النساإ إذا ذبلت زهرتها، ولم تعد صالحة للأحضان فلا وَزَرَ لها إلا بالكدح وخدمة نفسها، أو بالعمل غير الشريف، أو الاستعداد بأنظمة من التأمين تعتمد عليها حالة عجزها، أو بالإيواإ في دار العجزة!!,, مع أن جحوشاً وأُتناً من الولد والحفدة موجودون موسرون؛ لأن نظام الأسرة بدَّده سيادة القانون الوضعي الذي سنه الكيد اليهودي الصهيوني ؛ ولأنه لايوجد شريعة ذات ابواب في النفقة والصدقة والكفالة.
وأما الحقيقة الثانية: فإن الخصائص الخلقية بفتح الخاإ الملموسة المشاهدة التي أحوجت إلى نون النسوة وتائها وألفها: قضت بتباين الاستعداد كماً وكيفاً في مجالات الكدح وعمارة الأرض خارج نطاق المنزل,, وكل تواريخ القرون السالفة والخالفة وهي تجارب طويلة الأمد لا يمكن مزاحمتها بتجارب مستقبلية يحتاج الحكم عليها إلى أعمار شاهدة بأن الكدح خارج المنزل قائم على الرجل، وأن مساهمة المرأة في ذلك نادرة غير تأسيسية، وأنها من شواهد الاستثناإ وليست من أمثلة القاعدة.
ومن عجز عن تبديل فطرة الله الكونية في خلق الرجل والمرأة، ومن عجز عن استِأناف خلق يُسَوِّي بين المرأة والرجل: فتسويته بينهما في الوظائف والحقوق عار كبير، وظلم شنيع، وإفساد للحياة؛ لأن سنة الله الكونية سائرة لا تبديل لها، والكسر والتصدع والفناأُ لمن يصادمها,, وخالق الخلق هو الأعلم بما يصلحه ؛ فهو الأحق بالتشريع له.
وأما الحقيقة الثالثة: فتقضي بأن دعوى الجمع بين طاعة شرع الله، والمناداة بما يخالف شرع الله نفاق في الدعوى، وتأسيس لثقافة من أهواإ بشرية يُدَّعى أنها أحكام شرعية، وإذن فلابد من أحد خيارين:
إما الرجوع إلى الشرع بما يجب أن يُفهم به من شروط الاستنباط وأصوله، ورد ما عارضه وإن كان حبيباً إلينا بأهوائنا، وهذا هو الإنابة,, وإما التصريح بأن ما نهواه ليس هو المراد الشرعي بكل شروط الاستنباط وأصوله، وأننا نرغب اتباع أهوائنا، وأننا نرفض أن يكون خالق الخلق ومالكهم هو الأحق بالتشريع لهم وتنظيم حياتهم,, وذلك هو الردة.
وأهل الصلاح هم أهل الصراحة؛ فلابد من إلحاحهم بمقتضى الصراحة على أحد هذين الخيارين؛ لأن العدو المصارح أهون من نفاق العدو المباطن.
وأما الحقيقة الرابعة: فقد سلفت ضمناً في حيثيات الحقيقة الأولى,, إن شعور المرأة التقدمية بالهوان لايظهر إلا بعد أن تفقد دواعي الأخدان أو الزواج الباهت الذي لا تتجرد فيه حقوق الكدح والنفقة على الرجل,, أي عندما تحتاج إلى نفسها في الشيخوخة، فيصدق عليها حال ابن الفارض عندما عاين ملائكة الرحمان لقبض روحه