إلى الدكتور عدنان إبراهيم، حتى لا تكون لبناً مسكوباً
لم اكتب في حياتي رسالةً مفتوحة لأحدٍ من العالمين،ولم أفكر بذلك قط، ولا أعلم تفسيراً يبرِّر أن يكون الدكتور عدنان إبراهيم استثناءً من ذلك سوى أنني أحبُّ هذا الرجل، واستشعر مدى حاجة العقل الجمعي المسلم لجهوده الفكرية، وأعتقد أنَّ لديه تكويناً معرفياً يجعل كلَّ منصفٍ يؤمّل خيراً كثيراً من هذا الرجل.
صراحةً، ودون إسهابٍ في ابتداء ولا انتهاء، الدكتورعدنان إبراهيم قرَّر أن يتعامل مع المعرفة بمنهجيةٍ تجعله للأسف لبناً مسكوباً،وهو وحده _ لا شريك له_ من يدعُّ ذاته دعَّا لئن يكون كذلك، وهو وحده مَنْ يضع الغشاء في أعين الناظرين، وهو وحده مَن يضع القطنَ في آذان المستمعين، وهذا يؤلمُ مَن يحبُّ الدكتور عدنان قبل مَن لا يرتضيه، فنحن أمّة نباتُ أرضيّتها منذ قرون قليلٌ، جداً قليل، وبعض هذا القليل يصرُّ _ولا أعلم لماذا_ على ألا يكون مثمراً، يصرُّ بمنهجه وأفعاله، وإن صرخَت أقواله في الآفاق أنَّي مثمرٌ فاقتطفون. وأنا هنا ألخّص ما أنتقده على الدكتور عدنان إبراهيم في النقاط التالية:
أولاً: التحريف في النقل.لا أريد أن أقول الكذب، فأنا احترم مقامك يا دكتور،مع أنَّ ما فعلته يسمّى كذباً؛ ومع هذا لن أسميَّك كاذباً.
سأضربُ مثالاً على ما أقول حتى نجتنب التعميم، فيأحد مقاطع اليوتيوب رويتَ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلّم بطريقةٍ غريبةٍ عجيبة، وهو حديث "زر غباً تزدد حباً"، وأنا هنا سأعقد مقارنة بين ما جاءفي الحديث وبين ما نقلته لتدرك حجم التحريف الذي ارتكبته وكأنك تريد بأي طريقة أن تسيء للصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه.
أولاً: سأنقل هنا نص كلامك كله بلهجتك العامية، حيث تقول: " واحد من الصحابة شو اعملّهُ ثابت عنّه، كل يوم عند النبي بدو يوكل،رايح جاي، طالع نازل، أكل أكل، فالنبي قال: ياخي شوف غيري، كُل عند أبي بكر مرة،عند عمر عند أبو ذر عند أي واحد، فالنبي غضب ما قدر يتحمّل، كل يوم أنت ملازمني؟فقال له: يا أبا فلان زر غباً تزدد حباً".هذا ما قلته يا دكتور عدنان، والحقيقة أنني قبل أن أعرف إن كان هذا النص ثابتاً أم لا، فقد استهجنتُ أسلوبك الذي كان يحتوي على كثيرمن البذاءة، لكن ما أثار استهجاني بل وجنوني أن هذا الكلام الذي قلته كله ليسموجوداً أصلاً في الروايات، بل هو كله من اختراعك وزياداتك، فالراوية المنقولة_ وهي غير موجودة في الكتب التسعة_ نصها كما عند الطيالسي والبزار: " عن أبي هريرةرضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة زر غبا تزدد حبا".
هذا هو النص فقط!! فمن أين اخترعت كل تلك المعلومات الزائدة؟ من أين لك أن أبا هريرة يأتي لأجل الأكل؟ ومن أين لك أن النبي قال له:شوف غيري؟ ومن أين لك أنه قال له: اذهب لأبي بكر وعمر وأبي ذر؟ مع العلم أنك نفسكفي مقطع آخر ذكرت أن مناسبة هذا الحديث تكمن في تكرار أبي هريرة الزيارة لأهله!!
فأنتَ الآن تارةً تقول بأن سبب الحديث كثرة زيارة أبي هريرة للنبي وتستهزئ به بسبب ذلك،وتارةً أخرى تقول إن سبب الحديث كثرة زيارة أبي هريرة لأهله!!ما هذا التناقض الصريح؟ يا سيدي هذا كذبٌ صريح، فكيف تريدني بعد ذلك أنأتعامل معك يا دكتور؟ كيف تريديني بعد ذلك أن أثق بشيءٍ مما تقول وأنت تمارس الكذببكل صراحة؟
أنتَ يا دكتور عدنان دائماً ما تتغنى بالمنهجيةالعلمي ة، فأين منهجيتك العلمية حينما تتهم صحابياً بأنه دنيء النفس، وعديم الكرامة، يبتذل نفسه لأجل الطعام، اعتماداً على نصٍّ لم يذكر شيئاً من ذلك على الإطلاق؟ لماذا هذا التحريف وما الذي استفدته من ذلك؟ وما الذي تريد إيصاله للمستمع من خلال هذا التحريف؟ والمصيبة الأكبر أنَّ هذا الحديث الذي تقول عنه بكل ثقة أنه ثابت، هو في الحقيقة مختلف في ثبوته، بل قال الإمام أبو بكر البزار: "ليسفي زر غبا تزدد حبا عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثٌ صحيح".وأنتَ بالمناسبة بكل خبث حاولتُ أن تأتي بأقوال علماء آخرين وأوهمت الناس أن هؤلاء العلماء يعارضون عبارة البزار السابقة، فالإمام البزار ذكر أنه ليس فيه حديث صحيح، وهم ذكروا أن للحديث أسانيد يقوي بعضُها بعضاً،أتيت بهذين الموقفين كأنهما متناقضان، وهما في الحقيقة ليسا كذلك؛ لأن تقوّية الأسانيد بعضها البعض لا يدل على أن الحديث قويٌّ في ذاته؛ لأن الأسانيد قد تتقوى فتنتقل من الضعيف إلى الحسن لغيره، أو من الحسن لغيره إلى الحسن لذاته، وهذا لايعني أنَّ الحديث صحيحٌ في ذاته، فلا وجود لتعارض بين كلام البزار وغيره كما أردتَ أن تُظهر ذلك لتنجو من جريمة التحريف التي وقعتَ فيها.
وما حرَّفته بشأن أبي هريرة ليس يتيماً، بل هناك أمثلة كثيرة على تحريفك للنصوص، كالذي زعمتَ فيه أن الصحابة كانوا يأكلون مع النبيصلى الله عليه وسلم وكانت أيديهم تمس أيدي نساء النبي صلى الله عليه وسلمفنصحه عمر بأن يأمر نساءه فيحتجبن، ولا أعرف كيف اخترعت هذه القصة، فالقصة ليست موجودة في البخاري كما زعمت، بل هي أصلاً لا تتناسب حتى مع لفظ كلام عمر، فعمر بنالخطاب رضي الله عنه قال: " يا رسول الله، لو أمرت نساءك أن يحتجبن، فإنه يكلمهن البر والفاجر".فعمر بن الخطاب اقترح الحجاب بسبب وقوع الكلام وليس احتكاك الأيدي، فمن أين لك أنَّه اقترح ذلك بسبب احتكاك أيدي الرجال بأيدي نساء النبي صلى الله عليه وسلم؟
ثم ما هذا الطعن الوقح في شخص النبي صلى الله عليهوسلم؟ كيف تقول بأن الرجال يتحرشون بنساءالنبي صلى الله عليه وسلم أمامه، وهو لا يحرِّك ساكناً حتى يُنبهه عمر بن الخطاب؟أين غيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ ثم حتى لو كان الحديث مروياً بالطريقةالمحرَّ فة التي رويتها، فأنت قد رفضت عشرات الأحاديث الصحيحة لكونها تخالف ما تقررفي القرآن الكريم، فلماذا لا ترفض هذا الحديث وقد خالف _بروايتك_ قول الله تعالى :{لقد كان لكم في رسول الله قدوة حسنة} فكيف يمكنني كمسلم أن أرى في رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوةً لي وهوشخص _حاشاه_ لا غيرة له، يمسُّ الرجال زوجته وهو عاجز لا حول له ولا قوة؟
أنا اسألك أنتَ يا دكتور عدنان: لو مسَّ أحدُهم يدزوجتك متحرّشاً بها، كيف ستكون ردة فعلك؟ أنا متأكد بأن أقل ردة فعل لك هي أكبر منردة فعل النبي صلى الله عليه وسلم التي وصفتَها، فلا أعلم كيف أفهم بعد ذلك محبتكللنبي صلى الله عليه وسلم.سمعتُكَ يوماً تتحدث عن اتهامات وجّهت لابنة صاحبك الدكتور، نالتْ من عرضها، فماذا كان ردة فعلك؟ جُنَّ جنونك، ودافعتَ عنها بكل ماتملك، وذكرت أنها العفيفة الطاهرة، مع أنني متأكد بأنك لم تصحبها في سفرها وحلّها وترحالها، ولا تعرف مع من تذهب أو مع من تعود أو حتى مَن تصادق، أنتَ لا تعرف ذلك كلَّه ومع ذلك سارعتَ بجنون للدفاع عنها، فقط لأنها ابنة صديقك. فما نريده منكَ يادكتور عدنان أن تعامل عرضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تعامل عرض صديقك، وأن تساوي بين عائشة بنت الصديق بابنة صديقك، لا نريد أكثر من ذلك، فهل ذلك ممكن؟فقط قارن حديثك عن عائشة رضي الله عنها وحديثك عنابنة صديقك، وانظر الفارق الشاسع بينهما، ثم لا تلومنَّ أحداً إن اعتقد أن صديقك أعزُّ مكانةً في قلبك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: كنت سمعتُ من بعض الأخوة أنّك حاقد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ألتفت لذلك؛ لأنني ظننتُ أنهم يختزلون موقفك من الصحابة بموقفك من معاوية بن أبي سفيان، لكنني حينما شاهدتُ بعض حلقاتك وخطبك وجدتُ أنَّ الأمر ما هو بالهزل، وأنك فعلاً تكيدُ كيداً، فأنا أقسم بالله ثلاثاً غيرَ حانث، أنك لو كنتَ تعيش في زمن الصحابة وسمعتُ كلامك عنهم لجزمتُ أنَّ خلافك خلافٌ شخصي لا علمي، فالنفَس الذي تتحدث به وأنت تتناول الصحابة رضوان الله عليهم لا يمكن إلا أن يكون نفَس حاقد.وأنا أعجبُ من فرحك العارم بالأخبار التي يمكن من خلالها أن تجد طعناً في الصحابة، فبمجرّد أن يصحّ الإسناد _ أو حتى قبل أن يصح_تنطلق ناشراً النص في الآفاق، تريد أن تُسمع الناس كلهم، وكأنّك وجدتَ كنزاً وجب إخراج زكاته لعموم المسلمين. للأسف الشديد أن هذه هي منهجيتك العامة مع كل الصحابة باستثناء عدد قليل منهم، منهجيتك في تناولهم تقوم على عدم الاحترام والاحتقار والاستهزاء، ولا تصدّق أن تجد خبراً يسيء ولو احتمالاً لأحدهم حتى تجعله الأصل الذي يُعوّل عليه في تقويم هذا الصحابي أو ذاك، وكأنك بذلك تتعامل مع واقع معيش تراه عياناً، لا أنك تتعامل مع روايات تاريخية قد تصح وقد لا تصح، فكأنَّ الناس يقرأون التاريخ وأنتَ وحدَك تراه رأي العين!
فمثلاً: كلامك عن أبي هريرة، وأنه دنيء النفس يأتيكل يوم يبحث عن الطعام عند النبي صلى الله عليه وسلم، أنتَ الآن بنيتَ موقفاً مسيئاًمن أحد الصحابة، ونقلتُهُ علناً واستمع له عشرات الآلاف إلى الآن، سؤالي هنا: ماذا لو كانهذا الخبر غير صحيح عن أبي هريرة؟ ماذا جنيتَ واستفدتَ من نقلك لهذا الخبر؟ ألميحدث هذا معك من قبل عندما اتهمت ميسون زوجة معاوية بأنها زنت مع خادمها ثم رجعتواعتذرت وقلت إن الرواية غير صحيحة؟.أنا فعلاً أعجب من قسوة قلبك وجفاء دينك، لا أفهم كيف يسمح عاقلٌ حيُّ الضمير لنفسه أن يتهم امراة بالزنا فقط لأجل أنه قرأ رواية لايعرف هل هي صحيحة أم لا؟؟ هل هذه منهجٌ إسلامي؟ هل تريدني أن أسرد عليك الآيات والأخبار التي تطالب بالتثبت قبل نقل الأخبار؟
ثالثاً:دائماً ما تتحدث بأنك واسع الصدر في قبول الآخر، وتطلب من الآخر أن يستعمل عقلهولا يُسلِّم لك بكل ما تقول، لكن في الحقيقة من يستمع لمحاضراتك لا يرى إلا أنك مدّع لامتلاك ناصية الحقيقة المطلقة، ولا تسمح للآخر أن يخالفك ألبتة، وكيف تسمحله وأنت تصفه بأنه الغبي والجاهل والأحمق والضال والغوغائي وأنه لا يفهم شيئاً إلىغير ذلك من الألفاظ التي لا تترك أي فرصة لمخالفك أن يفكر بمخالفة رأيك؛ لأنه سيكون حينها غبياً أو جاهلاً، فلا أعرف ما الفرق بينك وبين الذين تعيب عليهم أنهم يصادرون النّاس آراءهم، والحقُّ أنكم في الهواء سواء.
لقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدةًمطردة، حيث قال: "ليس المسلم بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولاالبذيء". كيف تريدني أنا العامّي المسلم أن انظر إليك حينما أسمع هذا الحديثثمَّ أسمعك تشتم وتطعن وتسب وتلعن؟
الخلاصة: سيدي الدكتور، استجرارك لمشاكل الماضي هوسعيٌ لحرمان الأمة من حاضرها، وهذه مسؤولية تتحملها أمام الله يوم القيامة أنتَ وكل من رضي بانتاج أزمات الماضي ليشغل الأمة بها عن أولوياتها. كلنا يا سيدي قادرون أن نذهب ونقلّب صفحات التاريخ لنخرج أزماته ومشاكله، هذه مهمة في متناول الجميع، فما أكثر الرؤوس التي فيها عينان قادرتان على القراءة، لكن ما المصلحة في إعادة انتاج الأزمات التاريخية وإشغال العقل المسلم المعاصر بها؟أنا كمسلم عامّي لا يهمني اليوم شرح موقف معاوية السياسي ولا أبالي بذلك، فمعاوية ليس رسولاً يُقتدى به حتى نضيع الوقت بشرح أفعالهوتفسيرها، فلا يترتب على فعله أو تركه حكمٌ شرعي، فكل ما أعتقده في المسألة أنعلياً بن أبي طالب رضي الله عنه كان أولى بالحكم من معاوية، وهنا انتهي، وأضرب صفحاً عن كل ما وراء ذلك؛ لأنه لن يقدمني لا في الدنيا ولا في الآخرة. تخيَّل يادكتور عدنان لو أنك بما وهبك الله من حصيلة معرفية اشتغلتَ بمناقشات الأزمات الفكرية الحادة التي تعاني منها الأمة، لدينا أزمات فكرية في المادة السياسية الإسلامية سواء فيما بتعلق بالتراث الفقهي السياسي أو ما يتعلق بخلق تكامل معرفي ومنهجي بينالفكر الإسلامي والنظم والنظريات السياسية في التراث الفكري الغربي. وكذلك فيمايتعلق بالاقتصاد فنحن أمة الإسلام نقف اليوم موقفاً محرجاً تجاه العالم وتجاه التاريخ كله، فعلماء الفكر الغربي من آدم سميث وماركس إلى جون ستيورات ميل ومارشال وكينز يساهمون في خلق أفكار تأسيسية في علم الاقتصاد بينما نحن أهل القرآن الذي يحتوي على نحو ألف وأربعمئة آية تشير إلى جوانب اقتصادية مختلفة، مع ذلك كله لمنساهم عبر التاريخ بأي بحثٍ علمي تأسيسي في علم الاقتصاد، وحتى على المستوى الفكري_وليس العلمي_ لا يعرف المسلمون منذ أن أصبح علم الاقتصاد صناعة كتاباً غير "اقتصادنا".وما قلته في الاقتصاد والسياسة أقوله في بقية المجالات الاجتماعية، وأقوله تحديداً في قضية التيارات الفكرية المعاصرة وجذورها الفلسفية، هذا كله يحتاج إلى اجتماع عقول مسلمة جبارة لكي تساهم بجزء علَّه يخدم الأجيال القادمة.ما رأيك يا دكتور لو كنتَ انشغلتَ بهذه القضايا التي تهم مستقبل الأمة وتحدد مصيرها بين الأمم؟ أنا أجزم أنَّ دلوك سيكون مليئاً لو انشغلتَ بذلك، وتخيّل لو أن هؤلاء الآلاف من شباب الأمة الذي يرددون يومياً بسببك وبسبب غيرك مسائل تاريخية لا تسمن ولا تغني من جوع تخيل لو أنهم يتناقشون في أزمات الفكر الإسلامي المعاصر، تخيل لو أنهم يناقشون النظريات السياسية الحديثة، تخيل لوأنهم يناقشون منطلقات التيارات الفكريةالمعاصرة .بالتأكيد إن حاضر الأمة العلمي على الأقل سيكون ثرياً ورائعاً إذا تحقق ذلك، وسيشكل ثروة معرفية ستشكرنا الأجيال القادمة عليه، بدلاً من أن تقوم بلعننا على تعزيز الخواء العلمي من خلال شُغلِ الأحياء بالأموات.