تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: مِنْ خَوَاطِرِ إِبْنِ الجَوْزِيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ

  1. #1

    افتراضي مِنْ خَوَاطِرِ إِبْنِ الجَوْزِيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ

    مِنْ خَوَاطِرِ إِبْنِ الجَوْزِيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِيْ كِتَابِهِ : ( صَيْدِ الخَاطِرِ )

    1 ـ إبكِ على خطيئتك ..
    ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه و إن تاب منها و بكى عليها ! ، وإني رأيت أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة ، و كأنهم قد قطعوا على ذلك ، و هذا أمر غائب ، ثم لو غُفِرَتْ بقي الخجل من فعلها ، و يؤيد الخوف بعد التوبة ؛ أنه في الصحاح : أن الناس يأتون إلى آدم ـ عليه السلام ـ فيقولون : إشفع لــنا ، فيقول : ( ذنبي ) !! ، و إلى نوح ـ عليه السلام ـ فيقول : ( ذنبي ) !! ، و إلى إبراهيم ، و إلى موسى ، و إلى عيسى ـ صلوات الله و سلامه عليهم ـ ، فهؤلاء إذا اعتبرت ذنوبهم لم يكن أكثرها ذنوباً حقيقة ، ثم إن كانت ؛ فقد تابوا منها و اعتذروا ، و هم ـ بعد ـ على خوفٍ منها . ثم إن الخجل ـ بعد قبول التوبة ـ لا يرتفع ! ، و ما أحسن ما قال الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ : ( و اسوأتاه منك و إن عفوت ) ، فأفٍ ـ و الله ـ لمختارِ الذنوبِ و مؤثرٍ لذةَ لحظةٍ تبقى حسرة لا تزول عن قلب المؤمن و إن غُفِرَ له ، فالحذر الحذر من كل ما يوجب خجلاً ، و هذا أمر قل أن ينظر فيه تائب أو زاهد ؛ لأنه يرى أن العفو قد غمر الذنب بالتوبة الصادقة ، و ما ذكرته يوجب دوام الحذر و الخجل .
    2 ـ الوقت كالسيف ..
    رأيت العادات قد غلبت الناس في تضييع الزمان ، و كان القدماء يحذرون من ذلك ؛ قال الفضيل : ( أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة ) !! . و دخلوا على رجل من السلف فقالوا : لعلنا شغلناك ؛ فقال : ( أصدقكم كنت أقرأ ؛ فتركت القراءة لأجلكم ) !! ، و جاء رجل من المتعبدين إلى سَرِي السَّقَطي ، فرأى عنده جماعة ؛ فقال : ( صرتَ مناخ البطالين ) ثم مضى و لم يجلس !! ، و متى لان المزور ؛ طمع فيه الزائر ؛ فأطال الجلوس ؛ فلم يسلم من أذى ، و قد كان جماعة قعوداً عند معروف فأطالوا ؛ فقال : ( إن مَلِكَ الشمس لا يَفتر في سَوقها .. أفما تريدون القيام ) ؟! ، و ممن كان يحفظ اللحظات عامر بن عبد قيس ، قال له رجل : قــف أكلمك ، قال : ( فأمْسِكْ الشمسَ ) !! ، و قيل لكرز بن وبرة : لو خرجت إلى الصحراء ، فقال : ( يبطل الزوجار ) !! ، و كان داود الطائي يَسْتَفَُ الفتيت و يقـول : ( بين سَفِّ الفتيت و أكل الخبز قراءة خمسين آية ) !! ، و كان عثمان الباقلاني دائم الذكر لله ـ تعالى ـ ، فقال : ( إني و قت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج ؛ لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر ) !! ، و أوصى بعض السلف أصحابه فقال : ( إذا خرجتم من عندي ؛ فتفرقوا ؛ لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه ! ، و متى إجتمعتم ؛ تحدثتم ) !! . و إعلم أن الزمان أشرف من أن يضيع منه لحظة ؛ فإن في الصحيح عن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ أنه قال : ( من قال سبحان الله العظيم و بحمده ؛ غرست له بها نخلة في الجنة ) !! ، فكم يضيع الآدمي من ساعات يفوته فيها الثواب الجزيل ؟! ، و هذه الأيام مثل المزرعة ، فكأنه قيل للإنسان : كلما بذرت حبة ؛ خرجنا لك ألف كر ، فهل يجوز للعاقل أن يتوقف عن البذر و يتوانى ؟! ، و الذي يعين على إغتنام الزمان الإنفراد و العزلة مهما أمكن ، و الإختصار على السلام أو حاجة مهمة لمن يلقى ، و قلة الأكل ، فإن كثرته سبب النوم الطويل و ضياع الليل ، و من نظر في سِيَرِ السلف و آمن بالجزاء ؛ بان له ما ذكرته .
    3 ـ جهاد الشيطان ..
    رأيت الخلق كلهم في صفِّ مُحارَبةٍ ، و الشياطين يرمونهم بـ ( نبل الهوى ) ، و يضربونهم بـ ( أسياف اللذة ) ، فأما ( المُخَلِّطُون ) ؛ فصرعى من أول وقت اللقاء! ، و أما ( المتقون ) ؛ ففي جهد جهيد من المجاهدة ، فلا بد ـ مع طول الوقوف في المحاربة ـ من جِراح ! ، فهم يُجْرَحونَ و يُدَاوَوْنَ ، إلا أنهم من القتل محفوظون ، بل إن الجراحة في الوجه شَيْنٌ باقٍ ؛ فليحذر ـ ذلك ـ المجاهدون .
    4 ـ حذار من الدنيا ..
    الدنيا ( فَخٌ ) ، و ( الجاهل ) بأول نظرة يقع ! ، فأما ( العاقل المتقي ) فهو يصابر المجاعة ، و يدور حول الحَبْ والسلامة بعيدة ، فكم مِن صابرٍ إجتهد سنين ، ثم في آخر الأمر وقع ؟!! ، فالحذر الحذر ، فقد رأينا من كان على سنن الصواب ، ثم زل على شفير القبر ! .
    5 ـ جهاد الهوى ..
    تأملت أمراً عجيباً ! ، و أصلاً ظريفاً ! ، و هو إنهيال الإبتلاء على المؤمن ، و عرض صورة اللذات عليه مع قدرته على نيلها ، و خصوصاً ما كان في غير كلفة من تحصيله كـ ( محبوب موافق في خلوة حصينة ) ، فقلت : سبحان الله ، ههنا يبين أثر الإيمان لا في صلاة ركعتين ! ، و الله ما صَعِدَ يوسف ـ عليه السلام ـ و لا سَعِدَ إلا في مثل ذلك المقام ! ، فبالله عليكم ـ يا إخواني ـ تأملوا حاله لو كان وافق هواه ؛ من كان يكون ؟! ، و قيسوا بين تلك الحالة ، و حالة آدم ـ عليه السلام ـ ثم زنوا بميزان العقل عقبى تلك الخطيئة ، و ثمرة هذا الصبر ، و اجعلوا فهم الحال عُدةً لكم عند كل مشتهى ، و إن اللذات لتعرض على المؤمن ، فمتى لقيها في صف حربه ، و قد تأخر عنه عسكر التدبر للعواقب ؛ هُزِمَ !! ، و كأني أرى الواقع في بعض أشراكها ، و لسان الحال يقول له : ( قف مكانك ، أنت و ما إخترت لنفسك ) ، فغاية أمره الندم و البكاء ، فإن أمِنَ إخراجه من تلك الهوة لم يخرج إلا مدهوناً بالخدوش !! ، وكم من شخص زلَّت قدمه ، فما ارتفعت بعدها ؟! ، ومن تأمل ذل ( إخوة يوسف ) ـ عليهم السلام ـ يوم قالوا : ( و تصدق علينا ) ؛ عرف شؤم الزلل ! ، و من تدبر أحوالهم ؛ قاس ما بينهم و بين أخيهم من الفروق ، و إن كانت توبتهم قُبِلَتْ ! ؛ لأنه ( ليس من رَقَّعَ و خاط ، كمن ثوبه صحيح ) ! ، و رب عَظْمٍ هِيْضَ ـ أي : إنكَسَرَ ـ لم ينجبر ، فإن جُبِرَ فعلى و هى ! ، فتيقظوا ـ إخواني ـ لعرض المشتبهات على النفوس ، و استوثقوا من لجم الخيل ، و انتبهوا للغيم إذا تراكم بالصعود إلى تلعة ـ كل ما إرتفع عن الأرض ـ ؛ فربما مد الوادي فراح بالركب .
    6 ـ حريق الهوى ..
    من نازعته نفسه إلى لذة محرمة ، فشغله نظره إليها عن تأمل عواقبها و عقابها ، وسمع هتاف العقل يناديه : ( ويحك لا تفعل ، فإنك تقف عن الصعود ، و تأخذ في الهبوط ، و يقال لك : إبق بما إخترت ) ، فإن شغله هواه فلم يلتفت إلى ما قيل له ؛ لم يَزَل في نزول ! ، و كان مثله ـ في سوء إختياره ـ كالمثل المضروب : ( أن الكلب قال للأسد : ياسيد السباع ، غير إسمي فإنه قبيح ، فقال له : أنت خائن لا يصلح لك غير هذا الإسم ، قال : فجربني فأعطاه شقة لحم و قال : إحفظ لي هذه إلى غد و انا أغير إسمك ، فجاع و جعل ينظر إلى اللحم ، و يصبر ، فلما غلبته نفسه ؛ قال : و أي شيء بإسمي ؟! ، و ما كلب إلا إسم حَسَن ؛ فأكل ) !! ، و هكذا الخسيس الهمة ، القنوع بأقل المنازل ، المختار عاجل الهوى على آجل الفضائل ، فااللهَ اللهَ في حريق الهوى إذا ثار ، و انظر كيف تطفئه ، فرُبَّ زلة أوقعت في بئر بوار ، و رُبَّ أثر لم ينقلع ، و الفائت لا يُستدرك ـ على الحقيقة ـ ، فابعد عن أسباب الفتنة ؛ فإن المقاربة محنة لا يكاد صاحبها يسلم ، و السلام .
    7 ـ طغيان الهوى ..
    تأملت على الخلق و إذا هم في حالة عجيبة ، يكاد يُقطع معها بفساد العقل ؛ و ذلك أن الإنسان يَسمع المواعظ ، و تذكر له الآخرة ، فيعلم صدق القائل ، فيبكي و ينزعج على تفريطه ، و يعزم على الإستدلاك ، ثم يتراخى عمله بمقتضى ما عزم عليه ، فإذا قيل له : ( أتشك فيما وُعِدَّتَ به ) ؟ ، قال : ( لا و الله ) ، فيـــــــقال لـه : ( فاعمل ) ، فينوي ذلك ثم يتوقف عن العمل ، و ربما مال إلى لذة محرمة ـ و هو يعلم النهي عنها !! ـ ، ومن هذا الجنس تأخر الثلاثة الذين خُلِّفوا ، و لم يكـن لهم عذر ، هم يعلمون قُبح التأخر ـ و كذلك كل عاص ـ ، فتأملت السبب ـ مع أن الإعتقاد صحيح ، و الفعل بطىء ـ ؛ فإذا له ثلاثة أسباب :
    أحدها : رؤية الهوى العاجل ؛ فإن رؤيته تشغل عن الفكر فيما يجنيه .. و الثاني : التسويف بالتوبة ؛ فلو حضر العقل لحذر من آفات التأخير ، فربما هجم الموت و لم تحصل التوبة . و العجب ممن يُجَوِّزُ سلب روحه قبل مضي ساعة ، و لا يعمل على الحزم !! ، غير أن الهوى يطيل الأمد ، و قد قال صاحب الشرع ـ صلى الله عليه و سلم ـ : ( صلِّ صلاة مُودِعٍ ) ، و هذا نهاية الدواء لهذا الداء ؛ فإنه من ظن أنه لا يبقى إلى صلاة أخرى ؛ جَدَّ و إجتهد .. و الثالث : رجاء الرحمة ؛ فيرى العاصي يقول : ربي رحيم ، و ينسى أنه شديد العقاب ! ، و لو علم أن رحمته ليست رِقَّة ، إذ لو كانت كذلك لما ذبح عصفوراً ! ، و لا آلم طفلاً ! ، و عقابه غير مأمون ، فإنه شرع قطع اليد الشريفة بسرقة خمسة قراريط ! .
    8 ـ حساب النفس ..
    تفكرت في نفسي ـ يوماً ـ تفكر محقق ؛ فحاسبتها قبل أن تُحاسب ، و وزنتها قبل أن تُوزن ؛ فرأيت اللطف الرباني ! ؛ فمنذ الطفولة ـ و إلى الآن ـ أرى لطفاً بعد لطف ، و ستراً على قبيح ، و عفواً عما يوجب عقوبة ، و ما أرى لذلك شكراً إلا باللسان ، و لقد تفكرت في خطايا لو عوقبت ببعضها ؛ لهلكت سريعاً !! ، و لو كُشِفَ للناس بعضها ؛ لإستحييت ! ، و لا يعتقد معتقد ـ عند سماع هذا ـ أنها من كبائر الذنوب ، حتى يظن في ما يظن في الفساق ، بل هي ذنوب قبيحة في حــق مثلي ، ووقَعَتْ بتأويلات فاسدة ، فصرت إذا دعوت أقول : ( اللهم بحمدك و سترك علي إغفر لي ) ، ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك ؛ فما وجدته كما ينبغي ، ثم أنا أتقاضى القدر مراداتي و لا أتقاضى نفسي بصبر على مكروه ، و لا بشكر على نعمة ......
    9 ـ عواقب الخطايا ..
    قد تبغت العقوبات ، و قد يُؤخرها الحلم ، و العاقل من إذا فعل خطيئة ؛ بادرها بالتوبة ، فكم مغرور بإمهال العصاة لم يُمْهَل ؟! ، و أسرع المعاصي عقوبة ؛ ما خلا عن لذة تنسي النهي ! ، فتكون تلك الخطيئة كالمعاندة و المبارزة ، فإن كانت توجب إعتراضاً على الخالق أو منازعة له في عظمته ؛ فتلك التي لا تتلافى ، خصوصاً إن وقعت من عارف بالله ؛ فإنه يندر إهماله !! ، قال عبد المجيد بن عبد العزيز : ( كان عندنا بخراسان رجل كتب مصحفاً في ثلاثة أيام فلقيه رجل فقال : في كم كتبت هذا ؟ ، فأومأ بالسبابة و الوسطى و الإبهام و قال : في ثلاث [ و ما مسنا من لغوب ] ؛ فجفت أصابعه الثلاث ؛ فلم ينتفع بها فيما بعد ) !! ، وخطر لبعض الفصحاء أن يقدر أن يقول مثل القرآن ، فصعد إلى غرفة فانفرد فيها ، و قال أمهلوني ثلاثاً ، فصعدوا إليه بعد الثلاث و يده قد يبست على القلم و هو ميت ! ، قال عبد المجيد : ( و رأيت رجلاً كان يأتي امرأته حائضاً ؛ فحاض ، فلما كثر الأمر به ؛ تاب ؛ فانقطع عنه ) ، ويلحق هذا أن يعير الإنسان شخصاً بفعل ، و أعظمه أن يعيره بما ليس إليه ، فيقول يا أعمى ، و يا قبيح الخلقة ، و قال ابن سيرين : ( عيرت رجلاً بالفقر ، فحبست على دين ) !! ، و قد تتأخر العقــوبة و تأتي في آخر العـــمر ! ، فيا طول التعثير ـ مع كِبَرِ السِّنِّ ـ لذنوب كانت في الشباب ، فالحذر الحذر من عواقب الخطايا ، و البدار البدار إلى محوها بالإنابة ؛ فلها تأثيرات قبيحة إن أسرعت ، و إلا اجتمعت و جاءت .
    10 ـ غباء العصاة ..
    إذا تكامل العقل ؛ قوي الذكاء و الفطنة ، و الذكي يتخلص إذا وقع في آفة كما قال الحسن : ( إذا كان اللِّص ظريفاً ؛ لم يُقطَع ، فأما المغفل ؛ فيجني عـلى نفسه المحن ) ! ، هؤلاء أخوة يوسف ـ عليه السلام ـ أبعدوه عن أبيه ؛ ليتقدموا عنده ، و ما علموا أن حزنه عليه يشغله عنهم ! ، و تهمته إياهم تبغضهم إليه ! ، ثم رموه في الجُبِّ فقالوا : ( يلتقطه بعض السيارة ) ـ وليس بطفل إنما هو صبي كبير ـ وما علموا أنه إذا التُقِطَ ؛ يُحَدِّثُ بحاله ، فيبلغ الخبر إلى أبيه ! ، و هذا ( تغفيل ) ، ثم إنهم قالوا : ( أكله الذئب ) ، و جاؤوا بقميصه صحيحاً !! ، و لو خرَّقوه ؛ إحتُمِل الأمر ، ثم لما مضوا إليه يمتارون قال : ( ائتوني بأخٍ لكم ) ، فلو فَطِنوا ؛ علموا أن مَلك مصر لا غرض له في أخيهم ! ، ثم حبسه بحجة ، ثم قال : ( هذا الصواع يخبرني أنه كان كذا و كذا ) ، هذا ـ كله ! ـ و ما يفطنون !! ، فلما أحس بهذه الأشياء يعقوب ـ عليه السلام ـ ؛ قال : ( اذهبوا فتحسسوا من يوسف ) ، وكان يوسف ـ عليه السلام ـ قد نُهِيَ ـ بالوحي ـ أن يُعْلِمَ أباه بوجوده ، و لهذا ؛ لما إلتقيا قال له : ( هلا كتبت إلي ) ؟ ، فقال : ( إن جبريل عليه السلام منعني ، فلما نُهِىَ أن يُعَرِّفَهُ خَبَرَهُ ـ ليُنْفِذَ البلاء ! ـ ؛ كان ما فعل بأخيه تنبيهاً ، فصار كأنه يُعَرِّضُ بِخِطبة المُعْتَدَّةِ !، و على فهم يوسف ـ والله ـ بكى يعقوب لا على مجرد صورته !! .
    11 ـ في الشهوة الهلاك ..
    من وقف على موجب الحِسِّ ؛ هلك ، و من تَبِعَ العقل ؛ سَلِمَ ؛ لأن مجرد الحس لا يرى إلا الحاضر ـ وهو : الدنيا ـ ، و أما العقل فإنه ينظر إلى المخلوقات ، فيعلم وجود خالق مَنَحَ و أباحَ ، و أطلق وحظر ، و أخبر : أني سائلكم و مبتليكم ليظهر دليل وجودي عندكم بترك ما تشتهون طاعة لي ، و إني قد بنيت لكم داراً غير هذه ، لإثابة من يطيع ، و عقوبة من يخالف ، ثم لو تُرِكَ الحس وما يشتهي مع أغراضه ؛ قَرُبَ الأمر ، إنما يزني ؛ فيُجلَد ، و يشرب الخمر ؛ فيُعاقَب ، و يسرق ؛ فيُقطَع ، و يفعل زلة ؛ فيُفضَح بين الخلق ، ويُعْرِضُ عن العلم إلى البطالة ؛ فيقع الندم عند حصول الجهل ، ثم إنا نرى الكثير ممن عمل بمقتضى عقله ؛ قد سَلِمَتْ دنيــاه و آخرته ، و مُيِّزَ ـ بين الخلق ـ بالتعظيم ، و كان عيشه في لذات ـ غالباً ـ خيراً من عيش موافق لهوى ، فليعتبر ذو الفهم بما قلت ، و ليعمل بمقتضى الدليل و قد سلم .
    12 ـ ليس لك من الأمر شيء ..
    من الجهل أن يخفى على الإنسان مراد التكليف ، فإنه موضوع على عكس الأغراض ! ، فينبغي للعاقل أن يأنس بانعكاس الأغراض ، فإن دعا وسأل بلوغ غرض تعبد الله بالدعاء ، فإن أُعْطِيَ مراده ؛ شكر ، و إن لم يَنل مراده ؛ فلا ينبغي أن يلح في الطلب ؛ لأن الدنيا ليست لبلوغ الأغراض ! ، و ليقل لنفسه : ( وعسى أن تكرهوا شيئاً و هو خير لكم ) ، من أعظم الجهل أن يمتعض في باطنه ؛ لإنعكاس أغراضه ! ، وربما إعترض في الباطن ، أو ربما قال : ( حصول غرضي لا يضر ، و دعائي لم يُستَجَب ) ، وهذا ـ كله ـ دليل على جهله وقلة إيمانه وتسليمه للحكمة ، و من الذي حصل له غرض ثم لم يُكَدَّر ؟! ، هذا آدم طاب عيشه في الجنة ، وأُخرج منها ، ونوح سأل في إبنه فَلَم يُعْطَ مراده ، و الخليل إبتُليَ بالنار ، و إسماعيل بالذبح ، ويعقوب بفقد الولد ، ويوسف بمجاهدة الهوى ، و أيوب بالبلاء ، و داود وسليمان بالفتنة ، وجميع الأنبياء على هذا ، و أما ما لقي نبينا محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ من الجوع و الأذى ، وكدر العيش ؛ فمعلوم ، فالدنيا وُضِعَت للبلاء ، فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه على الصبر ، و أن يعلم أن ما حصل من المراد ؛ فلُطْفٌ ، و ما لم يحصل ؛ فعلى أصل الخلق و الجِبِلَّةِ للدنيا ، كما قيل :
    طُبِعَتْ عَلى كَدَرٍ وَأنْتَ تُرِيـدَهَا صَفْوَاً مِنَ الأقْـــذَاءِ وَالأكـدَارِ
    وَمُكَلَّفُ الأيَّامِ ضِدَّ طِبَــــاعِهَا مُتَطَلِّبٌ فِي المَـــاءِ جَذْوَةَ نَـــارِ
    وها هنا تتبين قوة الإيمان و ضعفه ، فليستعمل المؤمن من أدوية هذا المرض التسليم للمالك ، و التحكيم لحكمته ، و ليقل : قد قيل لسيد الكل : ( ليس لك من الأمر شيء ) ، ثم ليُسَلِّ نفسه بأن المنع ليس عن بخلٍ ، و إنما هو لمصلحة لا يعلمها !! ، و ليؤجر الصابر عن أغراضه ، و ليعلم الله الذين سَلَّمُوا ورضُوا ، و إن زمن الإبتلاء يسير ، والأغراض مدخرةٌ تلقى بعد قليل ، و كأنه بالظلمة قد إنجلت ، و بفجر الأجر قد طلع ، و متى إرتقى فهمه إلى أن ما جرى مراد الحق سبحانه ؛ إقتضى إيمانه أن يريد ما يريد ، و يرضى بما يُقَدِّرُ ، إذ لو لم يكن كذلك ؛ كان خارجاً عن حقيقة العبودية في المعنى ، و هذا أصل ينبغي أن يُتأمل و يُعمل عليه في كل غرض إنعكس ! .
    13 ـ من أسرار الدعاء ..
    من العجب إلحالك في طلب أغراضك و كلما زاد تعويقها ؛ زاد إلحاحك ، و تنسى أنها قد تُمنع لأحد أمرين ، إما لمصلحتك ؛ فربما مُعَجَّلُ أذىً ، و أما لذنوبك ؛ فإن صاحب الذنوب بعيد من الإجابة ، فنظِّف طرق الإجابة من أوساخ المعاصي ، و انظر فيما تطلبه هل هو لإصلاح دينك ، أو لمجرد هواك ؟! ، فإن كان للهوى المجرد ؛ فاعلم أن من اللطف بك و الرحمة لك تعويقة ! ، وأنت في إلحاحك بمثابة الطفل يطلب ما يؤذيه ، فيُمنَع ؛ رفقاً به ! ، و إن كان لصلاح دينك ؛ فربما كانت المصلحة تأخيره ، أو كان صلاح الدين بعدمه ! ، و في الجملة ؛ تدبير الحق ـ عز وجل ـ لك خير من تدبيرك ، و قد يمنعك ما تهوى ؛ إبتلاء ليبلو صبرك ، فأرِهِ الصبر الجميل ؛ تَرَ عن قربٍ ما يَسُرُّ ، و متى نظَّفت طرق الإجابة من أدران الذنوب ، و صبرت على ما يقضيه لك ؛ فكلُّ ما يجري أصلح لك ـ عطاءً كان أو منعاً ـ ! .
    14 ـ ميزان الرجولة ..
    لا يغرك من الرجل طنطنته و ما تراه يفعل من صلاةٍ وصومٍ وصدقةٍ وعزلةٍ عن الخلق ! ، إنما الرجل هو الذي يراعي شيئين : ( حفظ الحدود ) ، و ( إخلاص العمل ) ، فكم قد رأينا متعبداً يحرق الحدود بالغيبة ، و فعل ما لا يجوز مما يوافق هواه ؟! ، وكم قد اعتبرنا على صاحب دين أنه يقصد بفعله غير الله ـ تعالى ـ ! ، وهذه الآفة تزيد و تنقص في الخلق ، فالرجل ـ كل الرجل ـ : هو الذي يراعي حدود الله ، و هي ما فُرض عليه و أُلزم به ، و الذي يُحسن القصد ، فيكون عمله و قوله خالصاً لله ـ تعالى ـ ، لا يريد به الخلق ولا تعظيمهم له ، فرب خاشعٌ ليقال ناسكٌ ! ، وصامتٌ ليقال خائفٌ ! ، وتاركٌ للدنيا ليقال زاهدٌ ! ، و علامة المخلص : ( أن يكون في جَلوتهِ كخَلوتهِ ) ، وربما تكلف بين الناس التبسم و الإنبساط ؛ لينمحي عنه إسم زاهد ! ، فقد كان إبن سيرين يضحك بالنهار ، فإذا جَنَّ الليل ؛ فكأنه قتل أهل القرية !! ، وإعلم أن المعمول معه لا يريد الشركاء ، فالمخلص مُفْرِدٌ له بالقصد ، و المرائي قد أشرك ؛ ليحصل له مدح الناس ، وذلك ينقلب ؛ لأن قلوبهم بيد من أشرك معه ، فهو يقلبها عليه لا إليه ، فالموفق من كانت معاملته باطنة ، وأعماله خالصة ، و ذاك الذي تحبه الناس و إن لم يبالهم ، كما يمقتون المرائي و إن زاد تعبده ، ثم إن الرجل ـ الموصوف بهذه الخصال ـ لا يتناهى عن كمال العلوم و لا يقصر عن طلب الفضائل ، فملأ الزمان أكثر ما يسعه من الخير ، و قلبه لا يفتر عن العمل القلبي إلى أن يصير شغله بالحق ـ سبحانه وتعالى ـ .
    وقال ـ أيضا ـ في مكان آخر من كتابه :
    .... بالله عليك ؛ أتدري من الرجل ؟! ، الرجل ـ والله ـ من إذا خلا بما يحب من ( المحرم ) ، و ( قدر عليه ، وتقلقل عطشاً إليه ) ؛ نظر إلى نظر الحق إليه ؛ فاستحيى من إجالة همه فيما يكرهه ؛ فذهب العطش !! ، كأنك لا تترك لنا إلا ( ما لا تشتهي ) ! ، أو ( مالا تصدق الشهوة فيه ) !! ، أو ( مالا تقدر عليه ) !!! ، كـذا ـ والله ـ عادتك ، إذا تصدقت ؛ أعطيتك كسرة لا تَصلح لك ! ، أو في جماعة يمدحونك !! ، ...






  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jul 2012
    الدولة
    الجزائر
    المشاركات
    31

    افتراضي رد: مِنْ خَوَاطِرِ إِبْنِ الجَوْزِيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ

    جزاك الله خيرا .....

    موضوع هائل ....رحم الله ابن الجوزي ورفع درجته آمين...

  3. #3

    افتراضي رد: مِنْ خَوَاطِرِ إِبْنِ الجَوْزِيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ

    جُزيتَ خَيراً .. وكُفيتَ شَرَّاً ..

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Feb 2011
    المشاركات
    336

    افتراضي رد: مِنْ خَوَاطِرِ إِبْنِ الجَوْزِيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ

    سلمت يداك اخي الحبيب اكثر من رائع

  5. #5

    افتراضي رد: مِنْ خَوَاطِرِ إِبْنِ الجَوْزِيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ

    وسلم الله يمناك وضرَّتها = ( اليسرى ) !!! ... ( إبتسامة ) ..

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •