إن مشكلة الأمة اليوم في منهج التلقي ليس إلا ، ولما كان الحال كذلك أقف وإياكم مع حديث - وإن كان متكلما فيه وضعفه طائفة من أهل العلم ولكن على اعتبار تحسينه - فيه فوائد ما درى أهل البلاغة ما اسمهن، وإليك بعض تلك الفوائد كدرر منتثرة :
روى جابر رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبي ^ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي ^ فغضب وقال: " أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا، ما وسعه إلا أن يتبعني"([1]) .
إن هذا الخبر ليستدعي منا وقفات مهمة :
أولها : صاحب القصة :
لم تقع هذه القصة من صاحبي من آحاد الصحابة – مع جلالة قدرهم - ، ولم يقع هذا الفعل من صاحبي حديث العهد بالإسلام ، ولم تكن من صغار الصحابة، لقد وقع هذا الفعل من عمر بن الخطاب - ر ضي الله عنه - ، ومن عمر ؟ وما أدراك ما عمر ؟ المحدَّث الملهَم .. العبقري الذي لا يفري أحد كفريه .. من إذا سلك فجا سلك الشيطان فجا غيره .. من رجح إيمانه بإيمان الأمة .. المبشر بالجنة .. من رأى فيه النبي ^ مرائي أولّها له بالعلم والإيمان .. وزير رسول الله ^ وختنه وخاصة أصحابه .. صاحب الفراسة والكرامة ...إلخ .
لكن هذا كله لم يكن ليشفع أمام قضية مفصلية وأمر مصيري وهو لزوم منهج التلقي، وهذا يدل بوضوح على أنه لا محابة في مصادر التلقي، ولا تنازل في أسس الاستدلال، ولا تساهل في المرجعية الشرعية، حتى ولو من كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .
فإن كان هذا موقف النبي ^ مع عمر فكيف بمن هو دون عمر ؟ وكيف بمن لا ينبغي أن يذكر مع عمر فضلًا أن يقارن به ؟ وكيف بنا نحن المتأخرون زمانًا وقدرًا ورتبة من ذلك الجيل ؟
ثانيها : الزمان الذي حدثت فيه القصة :
لقد حدثت هذه القصة في زمان النبوة وإبان تنزل الوحي ووجود النبي ^ بين ظهراني الصحابة والأرض متصلة بالسماء والوحي غض طري حديث العهد بربه، فإن حدث خطأ أو لبس أو إشكال عند عمر – رضي الله عنه – أو غيره فإن النبي ^ لن يدع له إشكالا حتى يعالجه .
ولكن مع هذا – أيضا – كان موقف الشرع حازمًا وصارمًا تجاه قضية مصادر التلقي ومناهج الاستدلال، فإن كان هذا في زمان نزول الوحي وعصر النبوة وأمن اللبس فماذا نقول في عصرنا هذا بعد أربعة عشر قرنا وقد بعد العهد بنزول الوحي وطال الأمد من زمن الرسالة واتسعت المسافة بيننا وبين ذلك العصر ؟
ثالثها : ما نُهي عمر عنه :
لقد نهي النبي ^ عمر – رضي الله عنه – عن الاطلاع على وحي منزل، وزجره عن قراءة كتاب سماوي، وهو - وإن كان فيه تحريف وتبديل - إلا أن فيه مواطن لم تبدل كما ثبتت ذلك في قصة اليهوديين اللذين زنيا فكيف بمن يقرأ اليوم باطل محض وهو صِرفًا وضلالا خالصًا ؟
قال : أبو سعيد الخادمي الحنفي –رحمه الله–([2]):" فإذا نهى عمر عن قراءة التوراة مع كونه كتابا إلهيا فالنهي عن كتب الفلاسفة أحق . وقد غلب الاشتغال بجهالات الفلاسفة وسموها حكمة وجهلَّوا من لم يعرفها ويعتقدون أنهم هم الكملة ويعكفون على دراستها ولا تكاد تلقى أحدا منهم يحفظ القرآن ولا حديثًا ... " ([3]) .
بل لقد جاء في الرواية أن الكتاب الذي كان يقرأه عمر - رضي الله عنه - كتاب حسن أي ليس فيه ما يناقض ديننا كما ي رواية ابن أبي شيبة وفيه أن عمر - رضي الله عنه - " يا رسول الله، إني أصبت كتابا حسنا من بعض أهل الكتاب " ([4]) .
رابعها : موقف النبي ^ من فعل عمر :
لم يترك النبي ^ القضية تمر هكذا، ولم يتعامل معها ببرودة أعصاب، ولم يقف منها موقف المتفرج أو اللائم المعاتب برفق وهدوء، ولم ينظر إليها بمنظار الخطأ المغتفر والزلل المتسامح فيه، ولم ير أن صاحبها من خاصة أصحابه، بل ختنه ووزيره، ومن ضحى بنفسه وماله من أجل دينه، ولم يتصرف النبي ^ تجاه تلك الحادثة بما عُهد عنه من الحلم والعفو .
لقد غضب النبي ^ غضبا شديدًا، وثمت أمور يتبين بها شدة هذا الغضب :
أولا: أن النبي ^ سكت في بادئ الأمر، وما أرى سكوته ^ إلا علائم غضبة لله ، وأمارات تميز غيرة على مصادر التلقي، ودلائل غيظ على حرمة مناهج الاستدلال، فكان هذا السكوت أوائل بركان فائر، ومقدمة سيل هادر، والهدوء الذي يسبق الإعصار .
ثانيًا : أن وجه النبي ^ تمعر وتغير غضبًا ، كما جاء ذلك في رواية الدرامي وفيه : " فجعل عمر يقرأ ووجه رسول الله ^ يتغير " ([5]) .
إن أمرًا يجعل وجه رسول الله ^ يتمعر غضبا ويتغير غيضا لأمر جلل وخطب عظيم، ولم يكن النبي ^ يغضب إلا إذا انتهك حدود الله .
ثالثًا : ردة فعل الصحابة الذين كانوا بحضرة النبي ^ ، فإن ما جاء عنهم يدل مقدار على شدة غضب النبي ^ . فقد صاحوا بعمر – رضي الله عنه – تنبيها له إذ كان مستغرقا في القراءة ولم ينتبه لوجه رسول الله ^ الذي تمعر غضبًا ، ولقد اختلفت عباراتهم في ذلك إلا أن مفادها واحد ومؤداها مشترك وهو أن الخطب جلل يا عمر .
فقد جاء في رواية الدارمي المتقدمة أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال لعمر - رضي الله عنه - : " ثكلتك الثواكل يا ابن الخطاب ما ترى بوجه رسول الله ^ ؟ " .
وجاء في حديث أبي الدرداء – رضي الله عنه - أن عبد الله بن زيد –رضي الله عنه - قال له : " أمسخ الله عقلك ؟ ألا ترى الذي بوجه رسول الله ^ " ([6]) .
رابعًا : ردة فعل عمر- رضي الله - تدل على عظيم تلك الفعلة وخطورتها، قال - رضي الله عنه - " أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا " .
فلقد استعاذ بالله وهو غضب الله وغضب رسوله ، وأعلن الرضا بالكتاب والرسول والإسلام إذ إنه يُفهم من صنيع من يقرأ في مصادر أخرى عدم رضاه بالكتاب والسنة والشريعة وهذا من فقهه – رضي الله عنه - لاختياره هذا الذكر .
خامسًا : رد النبي ^ لعمر - رضي الله عنه – فقال أغلظ له القول فقال له ^ : " أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب ؟ " وفيه هذه المقولة النبوية دلالة على شدة الزجر والتثريب من النبي ^ وذلك من جهات :
الأولى : أن الاستفهام في قوله : " أمتهوكون فيها " استفهام إنكاري توبيخي.
الثاني : معنى التهُّوك ، وهو تفعُّل من الهوك : الحمق والخفة والتحير والتهور ووقوع الشيء على غير بصيرة ([7]) ، والمعنى كما قال أبو عبيد - رحمه الله - :" أمتحيرون أنتم في الإسلام لا تعرفون دينكم حتى تأخذوه من اليهود والنصارى " ([8]) .
الثالث : تعميمه ^ للخطاب حتى يكون أبلغ في الزجر ، قال أبو سعيد الخادمي الحنفي - رحمه الله - :" واعلم أن السائل هو عمر - رضي الله تعالى عنه - فقط والجواب النبوي وقع للجمع ... – ثم علل ذلك بعلل ذكر منها: - ... للمبالغة في الإنكار وسد طرق الاحتمال " ([9]) .
لقد تصرف النبي ^ هذا التصرف مع عمر – رضي الله عنه – فما يكون صانعًا إن كان بيننا اليوم بأجيال تنتسب له ثم تولي وجهه شطر المناهج الشرقية والغربية وحيث ما كانت تولي وجه شطرها .
شعوبك في شرق البلاد وغربها
بأيمانهم نوران ذكر وسنة
كأصحاب كهف في عميق سبات
فما بالهم في حالك الظلمات

ولقد فعل هذا الموقف النبوي الحازم في عمر فعلته، فاتخذه نبراسا ومنهاج حياة، وإليه تؤول بعد فضل وتوفيقه تلك المواقف العمرية الحازمة نجاه مصدر التلقي .
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - :" وقد انتفع عمر بهذا، فقال للذي نسخ كتاب دانيال : امحه بالحميم والصوف الأبيض، وقرأ عليه أول هذه السورة، وقال: لئن بلغني أنك قرأته أو أقرأته أحداً من الناس لأنهكنك عقوبة ([10]) " ([11]) .
فهذا الموقف يرسم منهج التعامل مع الوحي المنسوخ، فكيف بالفكر البشري المحض الذي سماه الله تعالى هوى .. وظنًا .. وخرصًا .. وإفكا .. وهي كلها أسماء يدخل في مسماها دخولا أوليا ما يسمى " الفلسفة الميتافيزيقية " وما تفرع عنها . وحسبك أن الله تعالى قال: ﭽ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﭼ [ الكهف : 51] . فهذه الآية نسفت كل النظريات والفلسفات المخالفة للوحي - الكوني منها والإنساني - ووسمت أصحابها باسم (المضلين) ، وما كانوا دائما إلا كذلك ! وعلى هذا المنهج سار عمر بن الخطاب - نفسه - ... " ([12]).
وإليك جملة من تلك المواقف العمرية الرائعة :
فمنها : قول عمر- رضي الله عنه- للقاضي شريح – رحمه الله - في كتابه الذي اعتبره أهل العلم دستور القضاء : " إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به، ولا يلفتنّك عنه الرّجال؛ فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنّة رسول الله ^ فاقض بها ..." ([13]) .
ومنها : ما رواه خالد بن عرفطة قال: " كنت جالسا عند عمر، إذ أتي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس، فقال له عمر: أنت فلان بن فلان العبدي ؟ قال: نعم. قال: وأنت النازل بالسوس، قال: نعم. فضربه بقناة معه، قال: فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين ؟ فقال له عمر: اجلس. فجلس، فقرأ عليه: ﭑ ﭒ ﭓﭽ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﭼ إلى قوله: ﭽ ﯠﭼ [ يوسف: ١ - ٣ ] فقرأها ثلاثا، وضربه ثلاثا، فقال له الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين ؟ فقال: أنت الذي نسخت كتاب دانيال ! قال: مرني بأمرك أتبعه. قال: انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض، ثم لا تقرأه ولا تقرئه أحدًا من الناس، فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدا من الناس لأنهكنك عقوبة ، ثم ذكر خبر ذلك مع النبي ^ ... " ([17]) .
ومنها : أنه لما فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتبا كثيرة، كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذن في شأنها وتنقيلها للمسلمين، فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء، فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن يكن ظلالا فقد كفانا الله! فطرحوها في الماء أو في النار ([18]) .
فيا لها من مواقف رائعة فذة يحق لقارئها أن يترنم بقول الشاعر :
مواقف لو وعاها الحس كانت عبير المسك أو ريح الخزامى

وأجدني ملزمًا في خاتمة هذه المواقف الرائعة أن أنقل لك أيها القارئ كلامًا جميلًا آخاذًا عنون له بـ ( جيل قرآني فريد ) قال فيه :
" هنالك ظاهرة تاريخية ينبغي أن يقف أمامها أصحاب الدعوة الإسلامية في كل أرض وفي كل زمان . وأن يقفوا أمامها طويلا . ذلك أنها ذات أثر حاسم في منهج الدعوة واتجاهها . لقد خرجت هذه الدعوة جيلا من الناس - جيل الصحابة رضوان الله عليهم - جيلًا مميزًا في تاريخ الإسلام كله وفى تاريخ البشرية جميعه . ثم لم تعد تخرج هذا الطراز مرة أخرى .. نعم وجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ . ولكن لم يحدث قط أن تجمع مثل ذلك العدد الضخم ، في مكان واحد ، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة . هذه ظاهرة واضحة واقعة ، ذات مدلول ينبغي الوقوف أمامه طويلًا ، لعلنا نهتدي إلى سره .
إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا ، وحديث رسول الله ^ وهديه العملي ، وسيرته الكريمة ، كلها بين أيدينا كذلك ، كما كانت بين أبدي ذلك الجبل الأول ، الذي لم يتكرر في التاريخ .. ولم يغب إلا شخص رسول الله ^ فهل هذا هو السر ؟ لو كان وجود شخص رسول الله ^ حتميا لقيام هذه الدعوة ، وإيتائها ثمراتها ، ما جعلها الله دعوة للناس كافة ، وما جعلها آخر رسالة ، وما وكل إليها أمر الناس في هذه الأرض ، إلى آخر الزمان .. ولكن الله - سبحانه - تكفل بحفظ الذكر ، و علم أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله ^ وبمكن أن تؤتي ثمارها . فاختاره إلى جواره بعد ثلاثة وعشرين عاما من الرسالة ، وأبقى هذا الدين من بعده إلى آخر الزمان .. وإذن فإن غيبة شخص رسول الله ^ لا تفسر تلك الظاهرة ولا تعللها .
فلنبحث إذن وراء سبب آخر . لننظر في النبع الذي كان يستقي منه هذا الجيل الأول، فلعل شيئا قد تغير فيه . ولننظر في المنهج الذي تخرجوا عليه ، فلعل شيئا قد تغير فيه كذلك. كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن . القرآن وحده . فما كان حديث رسول الله ^ وهديه إلا أثرا من آثار ذلك النبع . فعن سعد بن هشام بن عامر قال : أتيت عائشة فقلت : يا أم المؤمنين أخبريني بخلق رسول الله ^ قالت كان خلقه القرآن أما تقرأ القرآن قول الله عز وجل ﭽﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﭼ [ القلم: ٤ ] قلت : فإني أريد أن أتبتل. قالت : لا تفعل أما تقرأ ﭽ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﭼ [الأحزاب: ٢١ ] فقد تزوج رسول الله ^ وقد ولد له أخرجه أحمد بسند صحيح ، كان القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه ، ويتكيفون به ، ويتخرجون عليه ، ولم يكن ذلك كذلك لأنه لم يكن للبشرية يومها حضارة ، ولا ثقافة ، ولا علم ، ولا مؤلفات ، ولا دراسات .. كلا ! فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه ، أو على امتداده . وكانت هناك مخلفات الحضارة الإغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنها ، وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم . وكانت هناك حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك . وحضارات أخرى قاصية ودانية : حضارة الهند وحضارة الصين إلخ . وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تحفان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها ، كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة .. فلم يكن إذن عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يقصر ذلك الجيل على كتاب الله وحده .. في فترة تكونه .. وإنما كان ذلك عن تصميم مرسوم ، ونهج مقصود. يدل على هذا القصد غضب رسول الله ^ وقد رأى في يد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صحيفة من التوراة فعن جابر ، أن عمر بن الخطاب أتى النبي ^ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب , فقال : يا رسول الله , إني أصبت كتابا حسنا من بعض أهل الكتاب , قال : فغضب ، وقال : أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب , فوالذي نفسي بيده , لقد جئتكم بها بيضاء نقية , لا تسألوهم ، عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به ، أو بباطل فتصدقوا به , والذي نفسي بيده , لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني . رواه ابن أبي شيبة بسند حسن .
وإذن فقد كان هناك قصد من رسول الله ^ أن يقصر النبع الذي يستقي منه ذلك الجيل .. في فترة التكون الأولى .. على كتاب الله وحده ، لتخلص نفوسهم له وحده . ويستقيم عودهم على منهجه وحده . ومن ثم غضب أن رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يستقي من نبع آخر .
كان رسول الله ^ يريد صنع جيل خالص القلب . خالص العقل . خالص التصور . خالص الشعور . خالص التكوين من أى مؤثر آخر غير المنهج الإلهي ، الذي يتضمنه القرآن الكريم . ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده . فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد .. ثم ما الذي حدث ، اختلطت الينابيع . ! صبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم ، وأساطير الفرس وتصوراتهم ، وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى ، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات . واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم ، وعلم الكلام ، كما اختلط بالفقه والأصول أيضا . وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل ، فلم يتكرر ذلك الجيل أبدا .
وما من شك أن اختلاط النبع الأول كان عاملا أساسيا من عوامل ذلك الاختلاف البين بين الأجيال كلها وذلك الجيل المميز الفريد " ([21]) .
إن مشكلة الجيل اليوم في منهج التلقي .
زمزم فينا ولكن أين من يقنع الدنيا بجدوى زمزم ؟

بل إنك تجد بعض أبناء المسلمين يزدريك ويعتبرك ضحل الثقافة ، ويراك رجعي المأخذ، ويصفك بضعف التحصيل وقلة العلم، حين تستشهد بكلام الله وسنة نبيه ^، ولكن إذا ذكرت مقولات ورؤى وأفكار ونسبتها إلى أرسطو وأفلاطون وديكارت ونيتشه وجوته ودانتي ..... إلخ من هذه الأسماء فرح واستبشر واعتبرك فيلسوفا ورآك مطلعًا وعدك مثقفًا، وصدق الله إذا يقول : ﭽ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﭼ [ الزمر: ٤٥] .


&&&


[1] . أخرجه أحمد برقم :( 15156)، وابن أبي عاصم في "السنة" برقم: (50) ، والبيهقي في الشعب برقم: (177) ، والبغوي في شرح السنة برقم : (126) ، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (6/34-38) وقال :" ولكن الحديث قوي فإن له شواهد كثيرة ... وجملة القول: أن مجيء الحديث فى هذه الطرق المتباينة , والألفاظ المتقاربة لمما يدل على أن مجالد بن سعيد قد حفظ الحديث فهو على أقل تقدير حديث حسن " .

[2] . محمد بن محمد بن مصطفى بن عثمان، أبو سعيد الخادمى الحنفي المتوفى: 1156هـ .

[3] . بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية ( 1/80 ) .

[4] . رواه ابن أبي شيبة برقم (26421) .

[5] . سنن الدارمي برقم (449) ، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (1/68) .

[6] . رواه الطبراني في الكبير وقال الهيثمي في المجمع :" وفيه أبو عامر القاسم بن محمد الأسدي ولم أر من ترجمه وبقية رجاله موثقون " (1/173) .

[7] . العين (4/64)، الصحاح (4/1617)، مقاييس اللغة (6/20) ، النهاية لابن الأثير ( 5/282) .

[8] . غريب الحديث (3/29) .

[9] . بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية ( 1/80 ) .

[10] . سيأتي تخريجه قريبا .

[11] . انظر : مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ( ص : 128) .

[12] . ظاهرة الأرجاء ( 1/ 289) .

[13] . رواه النسائي في السنن برقم : (5399) ، والدارمي برقم : (169) وقال محققه : إسناده جيد ، وصححه الألباني في الضعيفة ( 14/719) .

[14] . البخاري مع الفتح برقم : (1597) واللفظ له، ومسلم برقم (1270) .

[15] . رواه أبو داود برقم : (1887)، ابن ماجة برقم : (2952)، وحسن سنده الألباني في صحيح أبي داود ( 6/136-137) .

[16] . البخاري مع الفتح (7286) .

[17] . رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده انظر : مجمع الزوائد (1/182) قال الهيثمي : " وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي ضعفه أحمد وجماعة " .

[18] . مقدمة ابن خلدون ( ص : 291) .

[19] . رواه ابن بطة في الإبانة الكبرى ( 800)، رواها الدارمي برقم : ( 146 و 150)، وابن وضاح في البدع برقم : (159)، واللالكائي ( 1136) وانظر : كلام في تصحيحها ابن حجر الإصابة ( 3/459) .

[20] . إغاثة اللفهان ( 1/136) .
روى جابر رضي الله عنه