إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

قال البخاري في صحيحه : (باب) التبسم والضحك.
والسؤال: ما هو المطلوب من التبسم؟
وما هو حد التبسم وحد الضحك؟
وما هو المذموم منه؟
وما هو الذي وردت فيه السنة؟
وكأني بأحدكم يقول: حتى الضحك، وحتى التبسم لا بد فيه من حلال وحرام ودليل وتعليل؟
فأقول: نعم، إنها أمة تتلقى وحيها من السماء، من فوق سبع سماوات، وإن رسولها صلى الله عليه وسلم يؤدبها في الحركات والسكنات حتى في الضحك وفي البكاء، ليست مسيرة من البشر، إنما تسيّر من السماء.
روى البخاري : وقالت فاطمة عليها السلام: [أسرّ إليّ النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت] وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [إن الله هو أضحك وأبكى] (1) .
فالضحك فيه مذموم وممدوح.. والبكاء فيه مذموم وفيه ممدوح.
والضحك أنواع كما قال علماء التربية.. فمنه:
ضحك التعجب، وقاله أهل التفسير، وضربوا على ذلك مثالاً بقوله تعالى: ((وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ))، أي: ضحكت تعجباً، لقولها: ((أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ)).
ومنه: ضحك السخرية والاستهتار، والاستهزاء بالقيم والمبادئ الأصيلة، أو الاستهزاء مطلقاً، قال تعالى: ((فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ))، عجيب! يضحكون من آيات الله.. يضحكون من الأسس الخالدة التي أقام الله سبع سماوات وسبع أراضٍ من أجلها.
فكان عاقبة الضحك: أن دمّرهم الله تدميراً هائلاً، وأذاقهم لعنة في الدنيا والآخرة.
ومنه: ضحك الإعتزاز بالنفس، فمن الناس من إذا هُدّد، وإذا تُوعّد ضحك معتداً بنفسه كقول الشاعر:
ويقول المتنبي وقد توعده خصومه بالقتل:
يقول: أنا إذا ابتسمت، فأنا متوعد لهم، ومتهدد لهم.. وهذا موجود في أفعال الرجال، أنهم ربما ضحكوا استهتاراً بهذا الخصم.
ومنه: ضحك الإقرار أو تبسم الإقرار.
وضحك الإقرار: أن ترى شيئاً، وأنت مطاع، وأنت مسموع لكلمتك فتضحك كأنك تقره.
يلعب طفلك في البيت، فتضحك مقراً لفعله، ودليل ذلك: أنه صح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، أنه خرج بسرية من الصحابة فأجنب، وكان الجوّ بارداً، فتيمم وصلّى بهم على حاله.
فذهبت الشكوى عليه إلى الإمام الأعظم.
فلما عُرضت عليه صلى الله عليه وسلم تبسم، وقال: يا عمرو، أصلّيت بأصحابك وأنت جُنُب؟
قال: يا رسول الله إن الله يقول: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)).
فضحك صلى الله عليه وسلم منه ضحك إقرار (1) .
ومنه: تبسم الغضب، والدليل على ذلك ما في الصحيحين من حديث كعب بن مالك، وكان قد تخلف مع صاحبيه عن غزوة تبوك قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم من تبوك ، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب (1) .
وأما البكاء فمنه الممدوح والمذموم وهو أنواع:
فمنه: بكاء الحزن على الفائت، وأعظم من بكى في تاريخ الإنسان: يعقوب عليه السلام على يوسف ، يقول سبحانه وتعالى: ((وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ))، بل ورد في بعض الآثار أن الملائكة شاركته في البكاء!
ومن البكاء: البكاء من الخشية.. وأخشى من خلق الله هو رسول صلى الله عليه وسلم، ذكر ابن مردويه و ابن جرير أن بلالاً رضي الله عنه وأرضاه، مر بالرسول صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر ليؤذنه بالصلاة، فوجده يبكي، فقال: (يا رسول الله الصلاة.
قال: يا
بلال نزلت عليّ آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتدبرها، ثم قرأها صلى الله عليه وسلم وأخذ يبكي حتى كادت تختلف أضلاعه، وهي قوله سبحانه وتعالى: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)))، (1) .
وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: (كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولصدره أزيز من البكاء كأزيز المرجل) (1) .
والأزيز صوت يحدثه البكاء في الصدر، والمرجل القدر إذا اجتمع غلياناً بالماء.
ومن البكاء: بكاء الهلع، وبكاء الجبن والخور، وهذا مذموم، كأن يرد على الإنسان مصيبة فيبكي طويلاً.. ولكن لو بكى قليلاً فلا بأس به، وهو من السنة، وورد، لكن أن يبقى باكياً ساخطاً على قضاء الله فلا.
ومن البكاء: بكاء الفرح.
وقال أنس : [ما كنت أظن أن الإنسان إذا فرح بكى حتى رأيت الأنصار يوم قدم صلى الله عليه وسلم المدينة يتباكون] .
وبكى أبي بن كعب لما قرأ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم سورة البينة.. فرحاً بذلك.
والرسول صلى الله عليه وسلم وسط في رسالته.. فليس هو بالضاحك الذي أسرف على نفسه في الضحك صلى الله عليه وسلم، أو أكثر في هذا الجانب، وليس هو صلى الله عليه وسلم بالذي تقمص شخصية الحزن والكآبة والحسرة والندامة، فهو وسط في كل شيء، وسط في العبادة، وفي المعتقد، وفي التشريع، وفي الآداب والسلوك ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)).
تجد كثيراً من الناس يضحكون ويقهقهون حتى يتمايلون ويسقطون على التراب..
وتجد بعضهم دائماً لا يضحك، فهو أبداً في كآبة وحزن.
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان يتبسم كثيراً، ولكنه لا يضحك إلا نادراً في حياته، فتجد في الأحاديث أربعة أو خمسة مواضع ضحك فيها، أما التبسم فحدث ولا حرج.
والبسمة منه ليست عبثاً؛ لأنه شرى بها قلوب الناس، وقلوب القبائل، وقلوب الشعوب صلى الله عليه وسلم، وقال سبحانه وتعالى: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ)).
وأنا لا أقول أن الضحك حرام؛ لأن بعض الناس من جبلتهم الضحك، ولو كان من أتقى الناس.
ابن سيرين العالم العابد الزاهد التابعي المحدث الشهير أكبر تلميذ لـأبي هريرة ، وراوية الصحابة الكبير، معبر الرؤيا، كان من أعبد الناس وأزهد الناس، وكان يضحك حتى يتمايل.. ولكن في الليل يبكي حتى يسمع بكاءه جيرانه.
ويقول أحد التابعين: [أريكم الضحاك البكّاء؟
قالوا: نعم.
قال: تعالوا.. فأطلعهم على
ابن سيرين في حلقته، قال هذا ضحاك النهار وبكاء الليل] .
ومنهم عامر الشعبي كان من أفقه الناس، وكان مزاحاً خفيف الدم خفيف الظل، ولكن كان من أتقى عباد الله لله.
فلا يظن الإنسان أن الإنسان إذا كان كثير الدعابة، كثير الضحك، كثير التبسم أنه لا يتقي الله.. لا، قد تجد أفجر الخلق لله عزَّ وجلّ لا يتبسم ولا يضحك لكنه فاجر.
روى البخاري : قالت فاطمة عليها السلام -لأنها من بيت النبوة-: (أسرّ إليّ النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت).. هذا الإسرار كان في ساعة الوداع.. يوم يودع صلى الله عليه وسلم الدنيا.. يوم يرحل من المعمورة.. يوم يتجه إلى الرفيق الأعلى.
فأتى بأحب الناس لقلبه وأقرب الناس إلى روحه فاطمة رضي الله عنه وأرضاها، فكلمها صلى الله عليه وسلم ليودعها.. قال: (أنتِ أول الناس لحوقاً بي) وأخبرها أنه سوف يموت من وقته.. فبكت.
قال: (ادني مني، فدنت فقال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين؟
فضحكت
) (1) .
فهذه أعظم بشرى لنساء العالمين جميعاً؛ لأن سيدتهم فاطمة رضي الله عنها وأرضاها.
وقال ابن عباس : [إن الله هو أضحك وأبكى].. أي إشراق هذا الفهم لـابن عباس ؟
أي عقلية هذه العقلية الضخمة الكبرى؟
يستدل على أن الضحك والبكاء من أمر الله الجبلي.. لأن غلاة الصوفية قالوا: لا تضحك، وإذا ضحكت فاستغفر!!
ذكر ابن الجوزي وبعض المحدثين: أن أحد المحدثين كان شرس الخلق، لا يتبسم ولا يضحك ولا يداعب أبداً، وكان إذا سمع خشخشة الأوراق طوى دفاتره وذهب إلى بيته!
فأتى طالب من الطلاب يريد أن يعطس فتذكر الشيخ وأنه ينزعج من كل شيء فتجمع العطاس في جوفه، حتى أصبح لا يستطيع دفعه، فعطس عطسة مدوّية.. وقال: (أنحن جالسون أمام رب العالمين)!!! فضحك الشيخ.. لأول مرة!!
ثم ذكر البخاري حديث عائشة رضي الله عنها، أن رفاعة طلق امرأته، فتزوجها بعده عبد الرحمن بن الزبير .. فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت عند رفاعة فطلقني ثلاث تطليقات، فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير ، وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل هدبة الثوب) (وهذا تكنية عن أنه لا يستطيع الجماع وهي تشكو من هذا).
وأبو بكر جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أحد الصحابة زجرها.
وما يزيد صلى الله عليه وسلم على التبسم (1) ، فهذا دليل على تبسمه صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر.
ثم قال البخاري رحمه الله: استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه وقد علت أصواتهن على صوته.
فلما سمعن صوت عمر نفرن من المجلس وفزعن!! فدخل والنبي صلى الله عليه وسلم يضحك من خوفهن منه.
فقال: (أضحك الله سنك يا رسول الله- وهذا من الأدب-.
قال صلى الله عليه وسلم: عجبت من هؤلاء اللاتي عندي لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب.
فقال: أنت أحق أن يهبن يا رسول الله.
ثم أقبل عليهن قال: يا عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقلن: إنك أفظ وأغلظ من رسول الله
) (1) .
وهذا ليس على معنى المفاضلة بينهما؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس فيه فظاظة ولا غلظة.. وهكذا عمر رضي الله عنه، لكنهن اجتهدن في ذلك.
ورد في بعض الآثار، [أن عمر رضي الله عنه، وجد عفريتاً من الجن واقفاً فقال: من أنت؟
قال: أنا عفريت من الجن!!
قال: تصارعني.
قال: نعم.. فصرعه عمر رضي الله عنه] (1) !
عن عبد الله بن عمر قال: (لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطائف ، قال: إنا قافلون غداً إن شاء الله.
فقال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نبرح أو نفتحها.. يعني: لا نسير من هنا حتى نفتح حصون الطائف ، لأنه حاصر الطائف صلى الله عليه وسلم وطال الحصار.
قال صلى الله عليه وسلم: فاغدوا على القتال.. أي: قاتلوا غداً.
قال: فغدوا وقاتلوا قتالاً شديداً، وكثرت فيهم الجراحات، ورُموا بالأسهم والنبال.
قال صلى الله عليه وسلم: إنا قافلون غداً إن شاء الله.
فسكتوا!
فضحك صلى الله عليه وسلم) (1) ، (يعني ذاقوا الأمرّين من اليوم الأول).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: هلكت يا رسول الله، وقعت على أهلي في رمضان.
قال صلى الله عليه وسلم: أعتق رقبه.
قال: ليس لي.
قال: فصم شهرين متتابعين.
قال: لا أستطيع.
قال: فأطعم ستين مسكيناً.
قال: لا أجد.
فأُتي صلى الله عليه وسلم بعذق فيه تمر، فقال: أين السائل؟
تصدق بها.
قال: على أفقر مني، والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا.
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: فأنتم إذاً
) (1) .
روى البخاري : عن أنس بن مالك قال: (كنت أمشي مع الرسول صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه بردائه، جذبة شديدة.
قال
أنس : فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت فيها حاشية الرداء من شدة جذبته.
ثم قال: يا محمد! أعطني من مال الله الذي عندك.
فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء) (1) .
لو كان غير الرسول صلى الله عليه وسلم لقال: خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلّوه!!
ولو أنه أدّبه، أو أنكر عليه، أو شدّد عليه لذهب داعية سوء إلى قومه.. وقال: احذروا ولا تُسلموا.. أنا ذهبت إلى هذا الرسول، فرأيته ففعل بي كذا وكذا.. ولكن بهذا الفعل الطيب عاد إلى قومه ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا جميعاً.
وعن جرير بن عبد الله البجلي سيد بجيلة قبيلة من قبائل الجنوب مجاورة لقبيلة خثعم، قال: (ما رآني صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت إلا وتبسّم في وجهي) (1) .
إذاً.. التبسم كان من هديه صلى الله عليه وسلم، وأما الضحك فكان يحدث منه أحياناً إذا استدعى الحال.
فواجب على المسلمين: أن يهتدوا بهديه صلى الله عليه وسلم، ويُكثروا من التبسم لإخوانهم فإنها صدقة.
أسأل الله لي ولكم اللطافة، وحسن الخلق، وأن يُفرحنا في الدنيا والآخرة.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.